مقالات

رائحة الدم في آذار.. والصلاة الممنوعة

كانت رياح آذار الباردة تذوي عبر بيوتات قرى ومدن البحرين، تعلن دخول ما يسمى بحالة السلامة الوطنية، لم يسخّنها إلا شيءٌ واحد، دماء الشهداء الذين تساقطوا من شجرة الوطن، هبّ عليهم عتوّ الطاغي وأسقطهم مثل أوراق الخريف، كانت هذه طريقة الوطن للشعور بالدفئ في مثل هذا الجوّ البارد.

رأس أحمد فرحان المتناثر يوقف كلّ شيء يملك إحساساً، جعفر محمد، علي الدمستاني، أحمد عبد الله، جعفر معيوف، عيسى رضي، عبد الرسول الحجيري، جواد الشملان، بهيّة العرادي، هاني عبد العزيز، عبد العزيز عياد، عيسى محمد، سيد أحمد شمس، حسن جاسم، سيد حميد محفوظ، علي صقر، زكريا العشيري، عبد الكريم فخراوي، عزيزة خميس، سلمان أبو دريس، جابر العلويات، حسن الستري، مجيد محمد، زينب آل جمعة، علي جواد الشيخ، سيد جواد أحمد، أحمد القطان، علي الديهي، علي عباس، عبد النبي كاظم، الطفلة ساجدة فيصل، علي القصاب، عبد علي الموالي.. وقبلهم شهداء انطلاقة الثورة وشهداء الخميس الدامي وشهيد الفتح عبد الرضا بوحميد، كلّهم غابوا في سنة واحدة، كحمرة مغربيّةٍ باهرة!

هكذا كان ذلك العام الحزين، كمشهدٍ كربلائي عظيم، لا يثير في قلبك الأسى إلّا وأثار معه عزةًّ وقوّة، هكذا هم الشهداء، لا يمكنهم إلّا أن يُشعلوا الشموع البيضاء، لا يسعهم إلّا أن يدخلوا القلوب فاتحين شعورها فيوقظونها بعد أن كانت نائمة في الفراغ، إنّهم يُدهشونه بالمعنى، كشيءٍ جديدٍ لا يمكن رؤيته قبل ذلك، لا يمكن إبصاره إلّا بعد أن يتساقط الشهداء واحداً تلو الآخر.

ومن أجل أن تعوي الذئاب، لا بدّ للظلام أن يخيّم على كل الأشياء، إنّها سنن الطبيعة وتجلياتها، أليست الثورة تعني الصراع؟ أليست الدنيا جبهات؟ أليست الحياة جولات؟ هذا ما يبدو، لذا كان عواء الذئاب مثل صيرورةٍ لقناعاتٍ أخرى، تشتد وتتشكل وتستقر، ولا تنتهي.

ومثل كرة ثلج تتدحرج وتحمل آثام العرب، تكبر وتكبر بعزةٍ بائسة، أشدَّ بؤساً من أي شيءٍ آخر، أقدمت الجيوش التي اتفقت أن يضيع دم الوطن بين قبائلها، على هدم مساجد الله، وكأنّها تعلن حربها على السماء، أو تنتقم منها، فكيف للإرادة الإلهيّة أن تخرج عن هوى عرش الديكتاتور؟ أن تخلق كل هؤلاء الثوار الخونة؟ وأن تقدّر كل هذه الهزّات لكرسي العرش؟

كان هطول الدماء، وخراب المآذن، والاعتداء على الحرمات، يستجلب كل صور التاريخ، تتالت في رأسي مشاهد الاعتداءات التي تعرضت لها البحرين على مرّ الزّمان، مرّت كلّ هذه الصور في شريطٍ لم يتوقف، رأيت فيه كل الشهداء، وكل المعذبين، وكل الذين اضطُهدوا، سمعت كل الآهات، كل الصرخات، وشعرت بالألم وقد وصل إلى حنجرتي..

صار لزاماً أن أبتلعه دفعةً واحدة برباطة جأش، وأن أقف صامداً مثل النخيل. ألا تراها شامخةً طوال هذه السنين رغم قساوة كل الأزمان التي مرّت عليها؟

مرّت أيام «الطوارىء» كما لو مرّ برقٌ ورعد، كان الملجأ هو الله وحده، وبه الاستعانة على جور الظالمين، دخل المئات إلى السجن ومعهم بعض علماء الدين والرموز السياسيين، صار الناس يتظاهرون في القرى والمدن وفي الشوارع الداخليّة، فيما تنتشر الدبابات والقوات المدججة في كل مكان، وتهاجمهم بكل قسوةٍ وعنف.

اللّيل، ذلك الذي تختبىء فيه قصص الآلام والغصص وتتستر تحت لحاف السماء، صار حالكاً بالظلمة، يوسِّد أبناء الشهداء والمعتقلين وعوائلهم ويهدهدهم بأغاني العودة، ساعد على ذلك إطفاء أنوار المنازل والمحال التجاريّة. أصبح الموعد الليلي هو العاشرة، حيث يصعد الناس فوق أسطح البيوت ويرددون هتافات التكبير، كما لو كانوا يبثون شكواهم إلى الله، وقد لاقى هذا الأمر ما لاقى من عنف المرتزقة، إذ كانوا يدخلون إلى الأزقة في هذا الوقت ويطلقون عبوات الغاز على المنازل وفوق أسطحها، ويهاجمون بعضها ويعتقلون من فيها.

كنت أذهب إلى مسجد الشيخ سهلان القريب من منزلنا لأداء صلاة المغرب، كانت أمي تشعر بالقلق وتطلب مني الصلاة في المنزل، لخطورة الوضع، قلت لها إنهم يريدون منعنا من ممارسة حياتنا بشكلٍ طبيعي، ولا بد لنا أن نمنعهم من ذلك، كنت أتوضأ عندما جاءت مركبات قوات المرتزقة التي تتجول في القرية وتوقفت أمام المسجد بهدف التخويف، صرت أكثر اطمئناناً بأنّ المسجد قلعتي، أنا في بيت الله وضيافته، تجاهلت النظر نحوهم، ليس خوفاً أو رعباً، أو أي سبب من هذا، إنما لأتّقي استفزازهم.

في المسجد الذي كان دائماً مصدر القوّة والوعي ومبدأ الانطلاق إلى ساحة الحياة، وقفت بين يديّ الله ذليلاً، أحسستُ بالخشية والحب في محرابه، ذابت روحي على سجّادة الصلاة المزخرفة ذات اللون الأحمر، شعرت بالقشعريرة والوحشة وسكينة الوجود.

أما ليلة الجمعة وليلة الأربعاء، اللتان أصبحتا شوق الراجين، فقد صارتا مهوى القلب، فلا ينتهي دعاء كميل إلا وتتوجه الأنظار إلى دعاء التوسل، لا زلت أتذكر في إحدى ليالي الأربعاء أثناء انشغال المؤمنين بالدعاء، هاجمت قوات المرتزقة مسجد شرف الذي يقام فيه الدعاء بعد صلاة العشاء. وكان أحدهم يردد بلهجةٍ سعودية: «صلاة فقط»، وكان يقصد أنّ المسجد للصلاة فقط، أخرجونا من المسجد وطلبوا منّا الانصراف، كنّا نمشي ببطىء إلى أن هاجمونا فركض كلٌ منا في اتجاه، في ما أخذ البعض يردد هتاف «يسقط حمد».


  • الفصل الثاني عشر من كتاب وطن عكر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى