ثقافة

فتية الكهف – القيام والنهضة

يقول تعالى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً * هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}([1]).

الرواية التاريخية لا تذكر في قصة هؤلاء الفتية أنهم ثاروا وقاموا وأعلنوا التمرد في أجواء القصر، ونكتفي بقصة إيمانهم وهجرتهم إلى الكهف.

ولكن القرآن يروي القصة الكاملة، ويؤكد أن هؤلاء الفتية قاموا وثاروا في أجواء القصر، وأعلنوا التمرد، واخترقوا حجب الإرهاب في القصر، يقول تعالى: {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.

ودوت هذه الصرخة في أجواء القصر، ومزقت السكوت الرهيب الذي كان يفرضه الدكتاتور داقيوس، فأرعبته وهزّت عرشه بقوة، وقد تضمنت هذه الصرخة:

1 ـ الدعوة إلى الله رب السماوات والأرض: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.

وكان الحاكم داقيوس قد حجبهم بمكره عن رب السماوات والأرض، فلما عرفوا أن رب السماوات والأرض هو ربهم أعلنوا ذلك بقوة.

2 ـ الرفض للطاغوت والأصنام والآلهة التي يتخذها الناس من دون الله ، {لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا}. وفي هذه النقطة يكمن ظل التحدي والتمرد، ويكمن سخط وغضب الجبابرة والطغاة، ويكمن كل عذاب واضطهاد الدعاة إلى الله.

3 ـ التقبيح والإنكار على من يقول بآله غير الله، {لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}.

4 ـ الاحتجاج على قومهم، ومطالبتهم بالبينة والحجة على ما يقولون، {لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}.

وأشدّ ما يكون الأمر على الطاغية أن تتفجر الثورة والتمرد من داخل قصره، كما حصل للحاكم داقيوس في قصره، وكما حصل لفرعون عندما أعلن موسى (ع) ـ وهو ربيب قصره ـ الدعوة إلى الله تعالى.

إن الطاغية في هذه الحالة يفقد الثقة بكل أحد في قصره، ويهتز عرشه وكبرياؤه بقوة، ولا يعود يثق بأحد من بلاطه وحاشيته، ولا يعود يثق به أحد، ويفقد بذلك هيبته وشموخه بعد أن ارتفعت الدعوة إلى الله من داخل جدران قصره.

وليس شيء يثير الظالمين والمستكبرين كمن يسلبهم هيبتهم، فإن هؤلاء الطغاة يحكمون الناس بهذه الهيبة، وهي هيبة كاذبة بالتأكيد، ولكنهم يبذلون كل ما في وسعهم لتثبيتها بالبطش والقتل والسجن والتعذيب، فإذا هابهم الناس تحكموا في رقابهم، وفرضوا عليهم ما يريدون من معيشة، ونظام، وعمل، وفكر، وثقافة، ودين. ونظرية الظالمين في الحكم هي (أكذب حتى يصدقك الناس وأرعب حتى يرهبك الناس).

فإذا تعرض أحدهم لإسقاط هيبة الطاغية ثارت ثائرته وطاش صوابه، لأنه يسلبه بذلك كل شيء في ملكه وسلطانه.

إن صرخة حق صريحة وواضحة وجريئة في وجه الطاغية، تعادل سنين من العبادة عند الله، وقد ورد في الحديث: >إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر<([2]).

وسرّ هذه القيمة لكلمة الحق في وجه السلطان الجائر، أن هذه الكلمة تسقط الظالم، وتجرئ الآخرين عليه، وتزعزع ثقته بكل شيء حتى بنفسه.

وما من شيء يعكر صفو حياة الظالم، ويسلب عنه راحته واستقراره، ويطرد النوم من عينيه ويؤرقه، مثل كلمة حق جريئة يعلنها المظلوم في وجهه.

وإليك هذه القصة التي يرويها يحيى بن عبد الحميد الحمّاني([3]):

قال: (خرجت أيام ولاية موسى الهاشمي على الكوفة من منزلي، فلقيني أبو بكر بن عياش فقال لي:

امض بنا يا يحيى إلى هذا، فلم أدرِ ما يعني. وكنت أجل أبا بكر عن مراجعته، وكان راكباً حماراً له، فجعل يسير عليه وأنا أمشي مع ركابه، فلما صرنا عند الدار المعروفة بدار عبد الله بن حازم، التفت إليّ وقال:

يا ابن الحماني، إنما جررتك معي وجشمتك أن تمشي خلفي لأُسمعك ما أقول لهذا الطاغية.

قال: فقلت: من هو يا أبا بكر؟

قال: هذا الفاجر الكافر موسى بن عيسى. فسكتّ عنه ومضى وأنا أتبعه. حتى إذا صرنا إلى باب موسى بن عيسى وبصر به الحاجب وتبينه، وكان الناس ينزلون عند الرحب فلم ينزل أبوبكر هناك، وكان عليه يومئذ قميص وإزار وهو محلول الإزار.

قال: فدخل على حماره وناداني: تعال يا ابن الحماني. فمنعني الحاجب فزجره أبوبكر، وقال له: أتمنعه يا فاعل وهو معي؟! فتركني.

فما زال يسير على حماره حتى دخل الإيوان، فبصر بنا موسى وهو قاعد في صدر الإيوان على سريره، وبجنبتي السرير رجال متسلحون، وكذلك كانوا يصنعون، فلما أن رآه موسى رحّب به وقرّبه وأقعده على سريره، ومُنعتُ أنا حين وصلت إلى الإيوان أن أتجاوزه، فلما استقر أبوبكر على السرير التفت فرآني حيث أنا واقف، فناداني، فقال:

ويحك! فصرت إليه ونعلي في رجلي وعليّ قميص وإزار، فأجلسني بين يديه، فالتفت إليه موسى فقال: هذا رجل تكلمنا فيه؟

قال: لا، ولكني جئت به شاهداً عليك.

قال: في ماذا؟

قال: إني رأيتك وما صنعت بهذا القبر، قال: أي قبر؟

قال: قبر الحسين بن علي بن فاطمة بنت رسول الله (ص). وكان موسى قد وجّه إليه من كربه وكرب جميع أرض الحائر وحرثها وزرع الزرع فيها.

فانتفخ موسى، حتى كاد أن ينفجر، ثم قال: وما أنت وذا؟

قال: اسمع حتى أخبرك. ثم ذكر له رؤيا طويلة: (تتضمن خروجه إلى قومه بني غاضرة، واعتراض عشرة خنازير له، وتخلصه منها برجل من بني أسد، وسيره إلى نينوى وتشرفه بالحائر الشريف، وأن على الباب منه جماعة كثيرة، فأراد الدخول فقال له الآذن: لا تقدر على الوصول في هذا الوقت، لأنه كان وقت زيارة إبراهيم خليل الله ومحمد رسول الله ـ صلوات الله تعالى عليهما ـ ، ومعهما جبرائيل وميكائيل ـ ‘ ـ في رعيل من الملائكة كثير). وأنّه انتبه وجرى له في اليقظة مثل ما رأى في النوم، إلاّ أن الخنازير كانت في اليقظة عشرة من اللصوص، وفي دخوله الحائر لم يكن هناك آذن.

فقال له موسى: إنما أمسكت عن إجابة كلامك لأستوفي هذه الحُمقة التي ظهرت منك، وتالله إن بلغني بعد هذا الوقت أنك تحدث بهذا لأضربن عنقك وعنق هذا الذي جئت به شاهداً عليّ.

فقال له أبوبكر: إذن يمنعني الله وإياه منك، فإني إنما أردت الله بما كلمتك به. فقال له: أتراجعني يا مآص؟! وشتمه.

فقال له: اسكت أخزاك الله وقطع لسانك.

فأزعل([4]) موسى على سريره ثم قال: خذوه، فأخذوا الشيخ عن السرير وأُخذت أنا. فوالله لقد مرّ بي من السحب والجر والضرب ما ظننت إننا لا نكثر الأحياء أبداً([5])، وكان أشد ما مَرّ بي من ذلك أن رأسي كان يجر على الصخر، وكان بعض مواليه يأتيني فينتف لحيتي، وموسى يقول: اقتلوهما ابني كذا وكذا، بالزاني لا يكنّي([6])، وأبو بكر يقول له: أمسك قطع الله لسانك وانتقم منك. اللهم إياك أردنا ولولد نبيك غضبنا، وعليك توكلنا.

فصُيّر بنا جميعاً إلى الحبس، فما لبثنا في الحبس إلاّ قليلاً، فالتفت إليّ أبوبكر ورأى ثيابي قد خرقت وسالت دمائي، فقال:

يا حماتي، قد قضينا لله حقّاً، واكتسبنا في يومنا هذا أجراً، ولن يضيع ذلك عند الله ولا عند رسوله).


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الكهف: 14.
  • [2] ـ كنز العمال: 43588.
  • [3] ـ راجع أمالي الطوسي 1: 329، والبحار 45: 390.
  • [4] ـ أزعله من مكانه: أزعجه.
  • [5] ـ (لا تكثر الاحياء أبداً)، هو كناية عن الموت، أي لا تكون بينهم حتى يكثر عندهم بنا.
  • [6] ـ (بالزاني لا يكنّي) أي كان يقوم في الشتم ألفاظاً صريحة في الزنا، ولا يكتفي بالكناية.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن - الهجرة والولاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى