في رحاب قصة ذي النون (ع)
يذكر القرآن قصة العبد الصالح ذي النون (ع) في سورة الأنبياء وفي سورة الصّافات وفي سورة ق، وقد ذكر القصة المفسرون وفيما يلي، نذكر نحن إجمالا منها:
لما بعث الله يونس بن متي (ع) إلى أهل نينوى وهي قرية من أرض الموصل في شمال العراق، دعاهم إلى عبادة الله تعالى، فأبوا عليه وتمادوا في كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا من ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب، خرجوا إلى البر بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عزّوجلّ وجَأروا إليه، فرفع الله عنهم العذاب.
وأما يونس (ع) فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فهاج بهم البحر، وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس (ع) فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً.
فقام يونس (ع) وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر فأرسل الله حوتاً يشق البحار حتّى جاء فالتقم يونس، فأوحى الله إلى الحوت أن لا يأكل له لحماً، ولا يهشم له عظماً، فإن يونس ليس لك رزقاً، وإنما بطنك يكون له سجناً. ولما صار يونس في بطن الحوت ظن انه قد مات، ثم حرك رجليه، فلما تحركت سجد مكانه، ثم نادى يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس، فمكث في بطن الحوت أربعين يوماً وهو يسبح لله ويدعوه ويقول:
{لاّ إِلَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}
فاستجاب الله له دعوته، ونجاه من البلاء، وأمر الحوت فطرحه في العراء. يقول تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، فأنجاه من بطن الحوت، ومن الحزن الذي كان يعتريه، والظلمات التي كان يعيش فيها، وهكذا يفعل الله بالمؤمنين الذين يقعون في الشدّة ويدعونه منيبين إليه، وقد جاء عن رسول الله (ص) الترغيب في هذا الدعاء الذي دعا به يونس ربه فاستجاب له.
وفيما يلي طائفة من التأملات في الفقرات الثلاثة من هذا التسبيح:
1 ـ لا إِلَهَ إِلاّ أَنتَ
2 ـ سُبْحَانَكَ
3 ـ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ
{لا إِلَهَ إِلاّ أَنتَ}
خطاب العبد لربه في هذه الكلمة يخاطب العبد ربه سبحانه وتعالى، خطاباً حضورياً مباشراً، بإلغاء كل الحجب الّتي تحجبه عنه عز شأنه، من دون تكلف وببساطة كاملة، هكذا: {لا إِلَهَ إِلاّ أَنتَ سُبْحَانَك}.
ومن عظيم فضل الله تعالى على عباده، وجميل رحمته، أن يفتح على عباده أبواب خطابه، ولن يكون الإنسان أقرب إلى الله تعالى، في حال أفضل من حال الخطاب، ولن يلمس الإنسان حضور الله تعالى في حال أفضل من حال الخطاب، ولن يجد العبد في لذات القرب والتعامل مع الله لذّة أفضل من لذة الخطاب.
إن الله تعالى لا يغيب عن عباده. وهو أقرب إليهم من حبل الوريد، يحول بين المرء وقلبه، ولكن الإنسان قد يغيب عن الله، فلا يشعر بحضوره، فإذا خاطب الله تعالى لمس حضوره بكل مشاعره، وبقلبه وعقله.
والقرآن، خطاب الله للعباد، يفتح أبواب هذا الخطاب عليهم.
والدعاء خطاب العبد لله تعالى.
تأملوا في هذا الخطاب، وهو قرآن ودعاء:
{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
وحال الدعاء من أفضل حالات العبد مع الله تعالى، ففي كل دعاء يلجأ العبد إلى الله، ويطلب حاجته منه، ولا يتم هذا اللجوء وهذا الطلب إلاّ بالخطاب.
وحال الصّلاة من مصاديق هذا الخطاب. ففي الصّلاة يخاطب العبد ربَّه، فيقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ويقول {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}.
إن خطاب العبد لله يعمق لديه الإحساس بحضور العبد عنده تعالى، ويعمق وعيه لحضور الله تبارك وتعالى.
وفي هذا الحضور، وفي هذا الوعي ما لا يعلمه إلاّ الله تعالى من لذة القرب والخطاب والعلاقة بالله تعالى.
ففي كل صلاة كان رسول الله (ص) يلمس لقاء الله، وفي هذا اللقاء كان يجد لذّة ومتعة هما قرّة عينه.
ولذلك كان رسول الله (ص) يقول: «قرة عيني الصّلاة».
ففي كل صلاة لقاء لله، وفي كل لقاء يخاطب العبد ربَّه، وليس شيء في هذا الكون كله، في الدنيا والآخرة، يعادل هذا الخطاب بين الله تعالى وعبده.
ومن بؤس الإنسان وشقائه أن يفتح الله تعالى عليه أبواب هذا الخطاب في الصّلاة والدعاء ويرفع ما بينه وبين عبده من الحجب ويدعوه إلى خطابه، ويأذن له بذلك ويستجيب لخطابه ودعائه، رغم هذا الفاصل اللامتناهي الَّذي يفصل العبد عن الله… ثم لا يعي العبد قيمة هذا الخطاب، ولا يشعر بما يتضمنه من لذة وقرة عين.
أقرأ ايضاً: