ثقافة

سنة التعميم

شأن نزول الآيات

شأن نزول الآيات

روى سعيد بن جبير في شأن نزول هذه الآية: أنه، لما نزل قوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}[1].

قالت اليهود: يا محمد، افتقر ربّك، فسأل عباده القرض.

فأنزل الله: {لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ..}[2].

دلالة الآيات على سُنَّةِ التعميم

تُدين هذه الآيات اليهود المعاصرين لرسول الله (ص) بأمرين:

قولهم: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}، و{َقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ}.

وقد سمع الله قولهم: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}.

وأوعدهم: أن يكتب عنهم ما قالوا من الإفكِ، ويدينهم بما قالوا، وبقتلهم الأنبياء بغير حق. {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ}.

ويُذيقهم عذاب الحريق بما نطقوا من الإفكِ، وبما صنعوا من قتل الأنبياء بغير حق. {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}.

وتؤكد الآية الكريمة لليهود المعاصرين لرسول الله (ص): أنهم إنما استحقوا عقوبة عذاب الحريق بما قدمت أيديهم من الإِفكِ والإثم، وليس الله بظلام للعبيد.

{ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}.

ثم تحكي عنهم الآية الكريمة أنهم طلبوا من رسول الله (ص): أن يأتيهم بقربان تأكله النار، حتى يؤمنوا برسالته وقالوا إن الله عهد إليهم بذلك. {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ}.

فتحاججهم الآية الكريمة بمن قد جاءهم من قبل، من الرسل بالبينات، وبالذي طلبوا من القربان الذي تأكله النار…

ومع ذلك فلم يؤمنوا، وأصرّوا على اللّجاج والعناد، وقتلوهم بغير حق. {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.

وليس من شك أن المخاطبين في هذه الآيات من سورة آل عمران هم اليهود المعاصرون لرسول الله (ص)، والضمائر كلها تعود إليهم.

فهم الذين قالوا: {إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء}.

وهم الذين قالوا: {إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ…}.

والخطاب موجه إليهم في هذا السياق وليس في ذلك شك، وقراءة سريعة للآيات الكريمة من سورة آل عمران تكفي لتأكيد هذه الحقيقة.

ومع ذلك، فإن الله تعالى يدينهم، ويوعدهم بعذاب الحريق، بجرائم آبائهم في قتل الأنبياء من بني إسرائيل بغير حق، ولم يكن لهم أيّ دور في ذلك بالنظرة السطحية التي ينظر الناس من خلالها التاريخ والمجتمع.

والآيات الكريمة صريحة في الإدانة وفي العقوبة معاً. {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}.

فيدينهم الله تعالى ويعاقبهم بـ(ما فعلوا) و(ما لم يفعلوا). ثم تحاججهم الآية الكريمة بما يلزم آباءهم من قتل الأنبياء بغير حق… وهذه حجة تُلزم آباءهم الذين قتلوا الأنبياء، أَما الأبناء الذين طلبوا من رسول الله (ص) أن يأتيهم بقربان تأكله النار فلم يقتلوا نبياً، ولم يعاصروهم، فكيف تحجُّهم الآية الكريمة بما لم يفعلوا، ولم يكن لهم فيه دور وشأن؟

وجواب هذه الأسئلة جميعاً في (سُنَّة التعميم).

فقد عمّم الله تعالى مسؤوليّة الآباء في قتل الأنبياء على الأبناء، كما عمّم الله تعالى عقوبة الآباء في هذه الجريمة على الأبناء، ثم عمَّم الله الحجة التي تُلزم الآباء على الأبناء. وهذه التعميمات جميعاً تتبع سُنَّة إلهية عامة هي سُنَّة «التعميم». وهذه السُّنَّة هي دليل هذه الإدانة والعقوبة والاحتجاج.

ومعنى «التعميم» في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى يشرك الأبناء في مسؤوليات الآباء وجرائمهم وعقوباتهم وما يُلزمهم ويُحجهم.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ البقرة: 245.
  • [2] ـ تفسير ابن كثير 1: 434.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى