الحتمية التاريخية – تقرير وشرح نظرية الأمر بين الأمرين
تقرير وشرح نظرية الأمر بين الأمرين
التفسير المعروف عند علماء مدرسة أهل البيت (ع) يعتمد الأصل الذي شرحناه في ارتباط الوجود كله بالله تعالى بصورة متصلة ومستمرة. والإنسان في هذا الكون، يرتبط بالله تعالى بالفقر والحاجة ويرتبط به تعالى بالإفاضة والإيجاد، وهذه الإفاضة متصلة ومستمرة ولو أنّها انقطعت لحظة واحدة عن الإنسان لانتهى الإنسان وما بيده وماله، وإرادة الإنسان ومشيئته وفعله من ذلك. فلولا هذه الإفاضة المتصلة لم يكن للإنسان أن يكون أو يريد شيئاً أو يفعل شيئاً. ولكن الإنسان مع ذلك هو الذي يريد ويختار. ولا ينافي هذا ذاك، ولولا ذلك لم يفرض عليه الله عملا. بلى لو أنّ الله قطع عنه فيض الوجود وإمداد القوة والعزم والعقل والوعي والبصيرة والمشيئة والاختيار لم يكن له أن يختار أو يفعل شيئاً، {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ}[1]، {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ}[2]. إلاّ أنّ الإنسان على كل حال هو الذي يريد ويختار ويفعل وليس يصحّ لذلك أن ينسب فعله إلى غيره فهو المسؤول عن فعله.
أرأيت لو أنّ المهندس المسؤول عن مركز إنتاج الطاقة الكهربائية فتح التيار الكهربائي على بيت وأبقاه مفتوحاً ليستخدمه صاحب البيت فيما ينفعه… فلو أنّ صاحب البيت أساء استعمال الطاقة الكهربائية وانتحر أو قتل بالتيار الكهربائي شخصاً أو أضرَّ به فلا ينسب الفعل إلاّ إليه، وإن كان هو لا يقدر على شيء من ذلك لو أنّ المهندس المسؤول عن مركز الطاقة الكهربائية قطع التّيار عنه، أو لم يبقه مفتوحاً على بيته، إلاّ أنّه يبقى هو وحده الّذي ينسب إليه الفعل وهو المسؤول عن فعله، فلا يقال إنّ المهندس المسؤول هو الّذي قتل صاحب البيت (إذا انتحر) ولا يكون المهندس المسؤول عن المركز مسؤولا عن انتحاره. ولعل من أفضل الأمثلة الّتي تذكر في هذا المجال من حيث الدقة العلمية هو المثل الّذي ضربه أُستاذنا آية الله المحقّق السيد الخوئي&.
المثال الّذي استعان به المحقّق السيد الخوئي لتوضيح الأمر:
لنفرض إنساناً كانت يده شلاّء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوّة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوّة لم يمكنه تحريكها أصلا، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلا، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده، ومباشرة الأعمال بها، والطبيب يمده بالقوّة في كل آن، فلا شبهة في أنّ تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين، فلا يستند إلى الرجل مستقلا، لأنّه موقوف على إيصال القوّة إلى يده، وقد فرضنا أنّها بفعل الطبيب ولا يستند إلى الطبيب مستقلا، لأنّ التحريك قد أصدره الرجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنّه مريد، ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه، لأنّ المدد من غيره، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلّها من هذا النوع.
فالفعل صادر بمشيئة العبد ولا يشاء العبد شيئاً إلاّ بمشيئة الله. والآيات القرآنية كلّها تشير إلى هذا الغرض، فهي تبطل الجبر ـ الّذي يقول به أكثر أهل السُنّة ـ لأنّها تثبت الاختيار، وتبطل التفويض المحض ـ الّذي يقول به بعضهم ـ لأنّها تسند الفعل إلى الله.
(وسنتعرّض إن شاء الله تعالى للبحث تفصيلا، ولإبطال هذين القولين حين تتعرّض الآيات لذلك).
وهذا الّذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت (ع)[3].
رأي الشيخ المفيد:
ورأي الشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمد بن النعمان& يقع في هذا الاتجاه من الرأي في تفسير (الأمر بين الأمرين).
ويمكننا أن نلخّص رأي الشيخ& ضمن نقطتين أساسيتين هما ركنا مسألة الأمر بين الأمرين وهما:
رفض نسبة أفعال الناس إلى الله:
النقطة الأولى: إنّ أفعال الناس ترجع إلى الناس أنفسهم وليست هذه الأفعال من خلق الله، وهذه النقطة هي المفترق بين مدرسة أهل البيت (ع) والمدرسة الجبرية المعروفة في التاريخ الإسلامي.
فقد كانوا يرون أنّ ما يصدر عن الإنسان من الأفعال صادر عن الله تعالى في الحقيقة ومخلوق له، وليس الإنسان إلاّ ظرفاً لهذه الأفعال ولا شأن له بها غير ذلك، وإنّما كانوا يصرّون على ذلك للاحتفاظ بأصل التوحيد ونفي وجود مصادر متعددة في الكون للأشياء وللأفعال، وهذه المدرسة لا تنفي (أصل العلّية) رأساً، ولكنّها لا تعرف للكون غير علّة واحدة وهو الله تعالى، وينسب كلّ شيء وكلّ فعل إلى الله تعالى مباشرة، ويواجه المفيد هذا الاتجاه من الرأي بعنف، ويرده من غير رفق.
يقول : (الصحيح عن آل محمد (ص) أنّ أفعال العباد غير مخلوقة لله… وقد روي عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليهم: أنّه سئل عن أفعال العباد. فقيل له: هل هي مخلوقة لله تعالى؟
فقال (ع): لو كان خالقاً لها لما تبرأ منها، وقد قال سبحانه: {أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}[4] ولم يُرد البراءة من خلق ذواتهم، وإنّما تبرأ من شركهم وقبائحهم.
وسأل أبو حنيفة أبا الحسن موسى بن جعفر‘ عن أفعال العباد ممّن هي؟ فقال أبو الحسن (ع):
إنّ أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل: إمّا أن تكون من الله تعالى خاصّة، أو منه ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من العبد خاصّة.
فلو كانت من الله تعالى خاصّة لكان أولى بالحمد على حسنها والذم على قبحها، ولم يتعلّق بغيره حمد ولا لوم فيها.
ولو كانت من الله ومن العبد، لكان الحمد لهما معاً فيها والذمَ عليهما جميعاً فيها.
وإذا بطل هذان الوجهان ثبت أنّها من الخلق. فإن عاقبهم الله على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفى عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
وفي أمثال ما ذكرناه من الأخبار ومعانيها ما يطول به الكلام)[5].
استدلال الشيخ المفيد بالقرآن على رفض النسبة:
ويستدل الشيخ المفيد بالقرآن على رفض نسبة أفعال الناس إلى الله.
يقول : (وكتاب الله مقدّم على الأحاديث والروايات، وإليه يتقاضى في صحيح الأخبار وسقيمها، فما قضى به فهو الحقّ دون ما سواه. قال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ}[6]. فخبر بأنّ كلّ شيء خلقه فهو حسن غير قبيح، فلو كانت القبائح من خلقه لنافى ذلك حكمه بحسنها.
وفي حكم الله تعالى بحسن جميع ما خلق شاهد ببطلان قول من زعم أنّه خلق قبيحاً)[7].
ويعلّق السّيد هبة الدين الشهرستاني على كلمة الشيخ المفيد فيقول: (وليس هذه الآية وحدها شاهد الفئة العدلية لإسناد أفعال العباد إلى أنفسهم، إذ كلّ آية نزّهت ربّنا سبحانه عن الشرور وخلق الآثام تؤيده)[8].
مناقشة استدلالهم بالآيات على النسبة:
ويفتح الشيخ المفيد باباً واسعاً لمناقشة أدلّة الّذين يستدلّون بالقرآن على صحة نسبة أفعال الناس إلى الله تعالى.
ومن ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[9]. حيث نسبت الآية الكريمة الإضلال إلى الله تعالى. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}[10]. حيثُ استفادوا منها صحّة نسبة الإضلال في غير المؤمنين إلى الله تعالى لأنّه لو شاء لآمنوا جميعاً.
وقد ناقش الشيخ المفيد هذه الأدلّة بتفصيل نذكر نماذج منه: يقول :
(فأمّا ما تعلقوا به من قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} فليس للمجبرة به تعلّق ولا فيه حجّة، والمعنى فيه: أنّ من أراد الله تعالى أن ينعّمه ويثيبه جزاءاً على طاعته، شرح صدره للإسلام بالألطاف الّتي يحْبُوهُ بها فييسر له بها استدامة أعمال الطاعات. والهداية في هذا الموضع هي: النعيم.
قال الله تعالى فيما خبّر به عن أهل الجنّة: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا}[11] أي نعمنا به وأثابنا إيّاه. والضلال في هذه الآية هو: العذاب، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ}[12] فسمى الله تعالى العذاب ضلالا والنعيم هداية، والأصل في ذلك أنّ الضلال هو الهلاك، والهداية هي النجاة.
قال الله تعالى حكاية عن العرب: {أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[13] يعنون إذا هلكنا فيها، وكان المعنى في قوله: {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ} ما قدّمناه وبيّناه، {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ} ما وصفناه، والمعنى في قوله تعالى :{يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} يريد سلبه التوفيق عقوبة له على عصيانه ومنعه الألطاف جزاءاً له على إساءته، فشرح الصدر ثواب الطاعة بالتوفيق، وتضييقه عقاب المعصية بمنع التوفيق، وليس في هذه الآية على ما بيّناه شبهة لأهل الخلاف فيما ادّعوه من أنّ الله تعالى يضلّ عن الإيمان، ويصدّ عن الإسلام، ويريد الكفر ويشاء الضلال.
وأمّا قوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}، فالمراد به الإخبار عن قدرته، وأنّه لو شاء أن يلجئهم إلى الإيمان ويحملهم عليه بالإكراه والإضطرار لكان على ذلك قادراً، لكنّه شاء تعالى منهم الإيمان على الطوع والاختيار، وآخر الآية يدلّ على ما ذكرناه وهو قوله تعالى: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} يريد أنّه قادر على إكراههم على الإيمان لكنّه لا يفعل ذلك ولو شاء لتيسّر عليه، وكلّما يتعلقون به من أمثال هذه الآية فالقول فيه ما ذكرناه أو نحوه على ما بيّناه، وفرار المجبرة من إطلاق القول بأنّ الله يريد أن يُعصى ويُكفر به ويُقتل أولياؤه ويُشتم أحبّاؤه إلى القول بأنّه يريد أن يكون ما علم كما علم ويريد أن تكون معاصيه قبائح منهياً عنها، وقوع فيما هربوا منه وتورّط فيما كرهوه، وذلك أنّه إذا كان ما علم من القبيح كما علم وكان تعالى مريداً لأن يكون ما علم من القبيح كما علم فقد أراد القبيح وأراد أن يكون قبيحاً، فما معنى فرارهم من شيء إلى نفسه وهربهم من معنى إلى عينه، فكيف يتم لهم ذلك مع أهل العقول، وهل قولهم هذا إلاّ كقول إنسان: أنا لا أسب زيداً لكنّي أسبّ أبا عمرو. وأبو عمرو هو زيد، أو كقول اليهود إذ قالوا سخرية بأنفسهم: نحن لا نكفر بمحمّد (ص) لكنّا نكفر بأحمد، فهذا رعونة وجهل ممّن صار إليه وعناء وضعف عمل ممّن اعتمد عليه)[14].
نفي استقلال الإنسان في أفعاله:
النقطة الثانية في كلام الشيخ المفيد هي نفي استقلال الإنسان في فعله، يقول في تصوير القول الوسط بين القولين (الجبر والتفويض):
(والواسطة بين هذين القولين: أنّ الله تعالى أقدر الخلق على أفعالهم ومكّنهم من أعمالهم، وحدّ لهم الحدود… فلم يكن بتمكينهم من الأعمال مجبراً لهم عليها، ولم يفوّض إليهم الأعمال لمنعهم من أكثرها ووضع الحدود لهم فيها)[15].
استنطاق النصوص:
عندما نقرأ النصوص الواردة عن أهل البيت (ع) في مجرى الصراع العقائدي والحوار الدائر بين أطراف هذا الصراع نلتقي صورة حيّة عن حقيقة الصراع وعن حقيقة موقف أهل البيت (ع) تختلف عن الصورة الّتي تعكسها الدراسات الكلامية.
فقد دخل أهل البيت (ع) في الفترتين الأموية والعبّاسية صراعاً عقائدياً قوياً في هذه المسألة…
ولم يكن هذا الصراع صراعاً عقائدياً كلامياً خالصاً كما ذكرت من قبل، بل تداخلت فيه العوامل السياسية إلى جانب العامل العقلي في البحث الكلامي العقائدي. وكان طرف هذا الصراع حيناً النظام الحاكم ومتبنيات النظام العقائدية، وحيناً آخر المعارضة السياسية للنظام. فقد كان المعتزلة يقعون أحياناً في طرف المعارضة السياسية، أو أنّ المعارضة السياسية كانت تكتسب منهم دعماً سياسياً وشعبياً.
ومهما يكن من أمر، فقد كان هذا الصراع من أعمق الصراعات العقائدية التي خاضها أهل البيت (ع) وأكثرها حسّاسية وخطورة، فقد كانت السلطة تتبنّى وجهة نظر الجبر بشكل واضح وصارخ، حتّى أنّ غيلان الدمشقي قُتل على يد هشام بن عبدالملك الخليفة الأموي ـ بتلك الطريقة الفظيعة الّتي يرويها المؤرخون ـ بجريمة الإيمان بـ(الاختيار) و(التفويض).
وكان لكلّ من هذين المذهبين آثار سلبية واسعة على العقلية الإسلامية كما كان لهما آثار على الحالة السياسية في العالم الإسلامي.
وكان أهل البيت (ع) يقفون ضد هذا التيار تارة وضد ذلك التيار تارة في جبهتين مختلفتين.
الجبهة الأولى من جبهات الصراع العقلي:
وأُولى هاتين الجبهتين هي الجبهة الكلامية الرسمية أو شبه الرسمية التي كانت تلتزم مبدأ (الحتمية) بشكل سافر، وتؤمن بتدخّل الإرادة الإلهية بصورة مباشرة في كلّ فعل للإنسان، وهي جبهة (الأشاعرة)، فقد كان الأشاعرة ينفون علاقة السبّبية والعلّية بين الأشياء، ولا يرون علاقة بين شيء وآخر في هذا الكون، ولا يرون في هذا الكون مؤثّراً مباشراً إلاّ الله تعالى.
فإذا تعوّمت خشبة على الماء، ولم تتعوّم حجارة، فليس لسبب في الخشبة يقتضي التعويم لا يوجد في الحجارة، وإنّما لأنّ الله تعالى شاء أن تتعوّم الخشبة ولا تتعوّم الحجارة، وجرت عادته على ذلك.
وليس في هذا الكون قانون ولا علّة ولا سبب غير عادة الله (وهذا هو القانون) وسلطان الله وإرادته وهذا هو (السبب).
وأفعال الإنسان ليس بدعاً عن سائر ما يجري في هذا الكون… فهي من خلق الله تعالى وليس للإنسان فيه دور وسلطان.
وهذا التصور على ما فيه من فجاجة ظاهرة كان هو التصوّر الرسمي لطائفة واسعة من علماء المسلمين، وكان جهاز الخلافة الأموية ثمّ العبّاسية ـ عدا فترة قصيرة ـ يتبنّى ذلك ويحاسب ويعاقب عليه.
وقد وجد أهل البيت (ع) في هذا الاتجاه الفكري خطراً على العقلية الإسلامية، وعلى حياتهم السياسية، وعلى فهمهم للقرآن والسنّة.
فإنّ هذا التصور يلغي قانون العلّية ويسمح بأن يكلف الله تعالى الإنسان على ما لا يقدر عليه.
ويسمح بعقوبة الإنسان من جانب الله تعالى على ما لا سلطان له فيه، وما لا قدرة له عليه، ويقرّ نسبة الظلم والتعسف إلى الله تعالى.
ويحوّل الإنسان إلى خشبة عائمة في مجرى التاريخ، لا سلطان له، ولا فعل ولا تأثير له في تقرير مصيره.
ويطلق أيدي السلطة الحاكمة في الاستبداد والإرهاب وسلب حقوق الناس والفتك والبطش بهم.
وبعض هذه التبعات والآثار السلبية تكفي لضرورة الوقوف في وجه هذا التيار.
وكانت هذه هي المواجهة الأولى في الصراع الفكري الذي خاضته مدرسة أهل البيت (ع).
الجبهة الثانية للصراع الفكري:
وفي مقابل هذا الاتجاه ظهرت المعتزلة كرد فعل للاتجاه الأشعري… وتَطَرَّف المعتزلة في فهم الكون والإنسان ـ كأي رد فعل آخر ـ وذهبوا إلى أنّ الله تعالى خلق الكون وانقطع بعد ذلك ما بينه وبين هذا الكون من صلة، ويجري هذا الكون ضمن أنظمة وقوانين ثابتة، منفصلة في مرحلة الاستمرار عن إرادة الله تعالى، كما لو أنّ مهندساً أنشأ معملا كاملا وأودعه لدى المهندسين المكلفين بتشغيله وانصرف هو لشأنه، فإنّ هذا المعمل يجري ويعمل ضمن أنظمة ثابتة حتى مع غياب المهندس الذي أنشأ هذا المعمل… كذلك تتصور المعتزلة علاقة الله تعالى بهذا الكون، علاقة في مرحلة الحدوث فقط، والإنسان بعد ذلك يعمل باختياره وإرادته في الأرض، وقد فوّض الله تعالى إليه أمره كلّه ولم يكن بينه تعالى وبين الإنسان من علاقة إلاّ ما كان من أمر الإيجاد والإبداع والخلق والتكوين في مرحلة الحدوث.
وهذا التصور يسلم عن نسبة الظلم إلى الله تعالى، ولكنّه يسلب سلطان الله على الكون والإنسان، ويحصر سلطان الله تعالى على الكون في مرحلة واحدة، ويقطع ـ نظرياً ـ إمداد الله تعالى وتوفيقه وفضله للإنسان، ويذهب إلى أنّ الله تعالى خلق الإنسان ومنحه ما وهبه من المواهب ثمّ تركه وأوكله إلى نفسه يواجه مصيره ومسؤولياته لوحده.
وأخطر ما في هذا الاتجاه، بعد الجانب العقائدي والناحية العقلية، أو قبلهما، أنّه يقطع أو يضعف علاقة الإنسان بالله تعالى في حياته اليومية وعمله وتحركه.
فإنّ أكثر اتصال الإنسان بالله تعالى ليس من خلال (العقيدة) و(العبادة) فقط وإنّما من خلال حاجاته اليومية في حركته وعمله التي يحتاج الإنسان فيها إلى الله تعالى، وإلى تأييده وإسناده وإمداده.
وهذه المشاكل والمتاعب التي تواجه الإنسان هي التي تلجؤه إلى الله تعالى وتربط ما بينه وبين الله تعالى.
وهي سر ابتلاء الله تعالى لعباده الصالحين.
يقول تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ}[16].
ونظرية استقلال الإنسان في الاختيار والفعل تقع في النقطة المقابلة لهذا الاتجاه تماماً، وتقطع ما بين الإنسان وبين الله تعالى من صلة في حركته اليومية، والاتجاه المعتزلي يعمّق في مقابل الاتجاه الأشعري حالة استقلال الإنسان في الاختيار واتخاذ القرار والفعل والحركة، ويؤكد أنّ الله تعالى خوّل للإنسان هذه المهام ومنحه كل متطلبات ذلك، ومنحه الاستقلال في القرار والاختيار والفعل.
وهو ما يؤكد القرآن خلافه، ويعمّق في النفس إحساساً مخالفاً له.
والذي يقرأ القرآن لا يشك أنّ هذا الكتاب يحاول ويعمل على أن يشدّ إحساسنا، وعقولنا، وقلوبنا، بالله تعالى من خلال هذه النقطة بالذات، بعكس الاتجاه المعتزلي تماماً.
يقول زهدي جار الله في كتابه عن (المعتزلة):
(وكأنّ المعتزلة في دفاعهم عن مبدأ الوحدانية راحوا يحاربون كلّ شيء يتعارض مع هذا المبدأ ويفندونه… وقالوا: إنّه تعالى ساوى في النعم الدينية، ولم يخص الأنبياء والملائكة بشيء من التوفيق والعصمة ولا بشيء من نعم الدين، دون سائر المكلفين.
ثمّ إنّ المعتزلة أنكروا الشفاعة في الذنوب يوم القيامة لأنّها تتضمن معنى المحاباة.
وإذا وردت في القرآن آيات كثيرة تحمل معنى الهداية من الله لخلقه والتوفيق والإضلال والخذلان والختم والطبع على القلوب… واعتقدوا أنّ مثل هذه الآيات مناقضة لمبدأ العدل الإلهي، ولفكرة (الحرية الفردية) فإنّهم شددوا في وجوب تأويلها جميعاً فقالوا في الهداية: إنّها على معنى التسمية والحكم والإرشاد وإبانة الحقّ، وليس له تعالى من هداية القلوب شيء.
وقالوا في التوفيق: إنّه توفيق عام، يكون بإظهار الآيات وإرسال الرسل وإنزال الكتب.
أمّا الإضلال: فقد أوّلوه على معنيين أحدهما:
الأول: أنّ الله تعالى أضلّ، بمعنى: أسماه ضالا، أو أخبر أنّه ضالّ.
والثاني: على معنى أنّه جازاه على ضلالته، وكذلك الخذلان معناه التسمية أو الحكم بأنّهم مخذلون، وليس الإضلال والإغواء والصد عن الباب…
وكان (الفوطي) وتلميذه عباد بن سليمان أكثر المعتزلة تشدداً في هذا الأمر، فإنّ الفوطي كان يمنع إضافة بعض الأفعال إلى الله تعالى، ولو ورد بها التنزيل، فلا يجب أن نقول أنّه تعالى يؤلّف بين قلوب المؤمنين، بل هم المؤتلفون باختيارهم، ولا أنّه تعالى يحبّب إليهم الإيمان، ويزيّنه في قلوبهم، ولا أنّه يضلّ الفاسقين)[17].
وإذا كان التصور الأوّل يمسّ (عدل) الله تعالى فإنّ هذا التصور يمسّ (توحيد) الله وعلاقة الإنسان بالله، وقد وجد أهل البيت (ع) أنفسهم أمام جبهة ثانية للصراع لا تقل خطراً عن الجبهة الأولى.
وإذا كانوا في الجبهة الأولى في موقع الدفاع عن (العدل) فإنّهم في الجبهة الثانية كانوا في موقع الدفاع عن (التوحيد).
لقد واجه أهل البيت (ع) هذا الركام الهائل من الأخطاء والانحرافات في اُصول التصور الإسلامي التي تمسّ العدل والتوحيد في الصميم، وكانت العوامل السياسة تمتد إلى هذه الاُصول والأفكار بوضوح فلننظر كيف واجه أهل البيت (ع) هذه الحالة وكيف عالجوها.
أقرأ ايضاً:
- الحتمية التاريخية – مذهب أهل البيت (ع) الأمر بين الأمرين
- أهل البيت (ع) في موقع الدفاع عن التوحيد و العدل – نظام القضاء والقدر في الكون
الهوامش والمصادر
- [1] ـ البقرة: 20.
- [2] ـ الأنعام: 137.
- [3] ـ البيان للإمام الخوئي، ط. 4، ص 102ـ103
- [4] ـ التوبة: 3.
- [5] ـ تصحيح اعتقادات الإمامية للشيخ المفيد: 44، ط.2 دار المفيد ببيروت 1993.
- [6] ـ السجدة: 7.
- [7] ـ تصحيح الاعتقاد: 44.
- [8] ـ المصدر السابق: 45.
- [9] ـ الأنعام: 125.
- [10] ـ يونس: 99.
- [11] ـ الأعراف: 43.
- [12] ـ القمر: 47.
- [13] ـ السجدة: 10.
- [14] ـ تصحيح الاعتقاد: 53.
- [15] ـ نفس المصدر: 47.
- [16] ـ الأنعام: 42.
- [17] ـ المعتزلة، لزهدي جارالله: 100 ـ 102.