ثقافة

طريق ذات الشوكة – المسافات الطويلة

طريق ذات الشوكة

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.

 {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}[1].

لقد طال الطريق، وطالت المحنة بالعاملين للإسلام، خلال العقود الأخيرة، وطال إِبتلاء أبناء الإسلام هنا وهناك.

وفي خضم هذه المحنة أُحب أن أتحدث عن المحن والابتلاءات الطويلة، في تاريخ الحركات الإسلامية، والعاملين في سبيل الله، وعن الطرق والمسافات الطويلة والشاسعة التي يمتحن الله تعالى بها عباده في حركتهم إليه.

فالإسلاميون لا يتعرضون لأول مرة لمحنة طويلة وصعبة، وللحركة على طريق طويل وشاق، وإنّما تقع حركتهم في سياق حركات كثيرة من قبل، من النبيين والصالحين، والصديقين، امتحنهم الله تعالى بمثل هذا الابتلاء العسير، وطالت بهم المحنة، وطال بهم الطريق. والقرآن الكريم يحدثنا عن هذه المسافات الشاسعة والطرق الطويلة والشاقة في حياة العاملين كثيراً.

إذن لكي تطمئن أقدامنا، وتثبت على الطريق العسير، لابد أن نعود إلى كتاب الله لنتساءل عن طبيعة هذه المسافات وعن أعراضها وآثارها ونتائجها في حياة العاملين.

المسافات الطويلة:

المسافات الطويلة

في كتاب الله نجد آيتين تخصان المسافات الطويلة والشاقة في حياة العاملين، إحداهما في سورة التوبة والأخرى في سورة الأنفال.

أـ آية سورة التوبة:

{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.

وهذه الآية الكريمة تقرر حقيقتين هامتين في حياة الناس:

الحقيقة الأولى: أنّ روّاد المسافات القصيرة كثيرون {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ}.

والعرض القريب: هو المتاع القريب الذي يناله الإنسان من أيسر الطرق، وبأيسر الوسائل، والسفر القاصد: السفر المعتدل المريح الذي لا يكلف أصحابه جهداً كثيرا.

والحقيقة الثانية: إن الناس عندما يطول بهم الطريق وتبعد عليهم الشقة فسيتخلفون ويعتذرون. والشقة: الطريق الطويل الشاق.

وقليل من الناس أولئك الذين يصبرون على السير على الطرق الوعرة والصعبة والشاقة. أما الطرق والمسافات القصيرة فروادها كثيرون.

ولذلك يكثر من الناس الإقبال على (الدنيا)، ويقل دائماً المقبلون على الآخرة، لأن الناس ينالون متاع الدنيا من أيسر الطرق وبأيسر الوسائل، نيلا سريعا. أما متاع الآخرة فلا يناله الناس إلاّ بعد جهد ومشقه وعناء {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}[2].

ونحن في مواجهة الظالمين نجد أمامنا خيارين، احدهما يسير وسهل ومريح، والآخر عسير وصعب وشاق.

أما اليسير منهما فهو مصانعة الظالمين، والوصول معهم إلى حدود مقبولة من التفاهم، والاعتراف بوجودهم ليعترفوا لنا ببعض حقوقنا، وهذا هو الطريق اليسير، الذي لا يكلف المؤمنين في أنفسهم وأهليهم وأموالهم كثيراً.

وأما العسير منهما فهو المواجهة والمقابلة وما تتطلبّه من الصبر على الأذى والعذاب في سبيل الله، وما تؤدي إليه أحياناً من انتكاسات صعبة ومرة. وتنطوي هذه الطريقة على رفض الاعتراف بالكيان السياسي للعدو، ورفض التفاهم معه، إلاّ أن يسلم لرب العالمين.

وهذه المواجهة إذا كانت معقولة وقائمة على أسس موضوعية صحيحة تنتهي إلى النصر، وان كانت تكلف أصحابها الكثير من أنفسهم وأموالهم وأهليهم.

ب ـ آية سورة الأنفال:

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[3].

وهذه الآية المباركة نزلت في المسلمين في معركة بدر، وكان أصحاب رسول الله (ص) يتمنون عندما خرجوا من المدينة أن ينالوا الغنيمة من أيسر الطرق وبأيسر الوسائل، ودون أن تنالهم بأساء أو ضراء. وقد وعدهم الله تعالى إحدى الطائفتين أنّها لهم، إِمّا الغنيمة الباردة والعرض قريب. أو النصر على طريق ذات الشوكة، في البأساء والضراء.

وقد كان المسلمون يؤثرون الغنيمة الباردة من تجارة قريش ومتاع الشام الذي كان يحمله معه أبو سفيان من الشام إلى مكة، على الحرب الضارية والشرسة التي واجهها المسلمون في بدر بين مكة والمدينة، وهم يبحثون عن قافلة قريش التجارية والمحملة بمتاع الشام الذي كان يتمناه المسلمون يومذاك.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ}.

و(ذات الشوكة) هي الطرق الشائكة والصعبة التي يمتحن الله تعالى بها عباده في حركتهم إليه.

وإذا ضممنا آية التوبة إلى آية الأنفال نجد أنّ متطلبات الطرق والمسافات البعيدة والشائكة هي (الصبر والوعي)، فإن هذه المسافات تتطلب من العاملين الصبر والثبات والمقاومة، كما تتطلب منهم الوعي والحذر، فإن الحركة على الطرق الشائكة (ذات الشوكة) لابد أن تقترن بالوعي والحذر بطبيعة الحال.

وقبل هذا وذاك لابد من الثقة بالله والاتكال على الله، والاستعانة بحول الله وقوته، للعاملين على هذه الطرق، ومن دون ذلك لا يستطيع الإنسان مهما كان صبره ووعيه أن يواصل الحركة على هذه الطرق، وهو معنى (الصلاة).

وسوف نتحدث إن شاء الله تعالى عنه أكثر خلال هذا الحديث.

والآن ننتقل إلى الإجابة عن السؤال الثاني من الأسئلة التي استعرضناها قبل قليل على ضوء كتاب الله.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ التوبة: 42.
  • [2] ـ البقرة: 214.
  • [3] ـ الأنفال: 7ـ 8.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى