ثقافة

القومية في القرآن – ما هي القومية؟

ظهرت القومية كظاهرة سياسية واجتماعية في العالم الإسلامي بعد سقوط دولة الخلافة العثمانية. وانعكست الفكرة القومية على الإِعلام والتربية والتعليم والسياسة بشكل صارخ، حتى أصبح يعدُّ عندنا في العالم الإسلامي إِتجاها فكريا سياسيا. وتبنّى هذا الاتجاه أحزاب وصحف ودول وأنظمة.

وابرز القوميات التي ظهرت في هذه المرحلة من حياة امتنا السياسية هي القومية العربية والقومية التركيّة والقومية الفارسيّة والقومية الكردية.

ومن خلال التأمّل والمطالعة في مسار الأحداث السياسية لهذه الفترة والجهود التي بذلها الغرب لإسقاط الدولة العثمانية، والحيلولة دون قيام دولة إسلامية بعدها في المنطقة… نصل إلى نتيجة واضحة في هذا الأمر.

وتلك أن الغرب جعل من القومية أداة لإسقاط دولة الخلافة العثمانية، كما اتخذ الغرب من القوميّة أداة لتجزئ العالم الإسلامي إلى دول وأنظمة متعددة، وولاءات مختلفة، وإقامة سياج عازل بين أطراف وأجزاء العالم الإسلامي، وفصل هذه الأجزاء بعضها عن بعضها، وعزلها من الأجزاء الأخرى عن طريق هذا السياج العازل…

وسوف نتحدث في هذه الدراسة إن شاء الله كيف يكون هذا السياج عازلاً، وكيف يحول دون اندماج هذه الأمة في وحدة كاملة، تشكل أساساً صلبا، وقاعدة متينة لقيام دولة إسلامية واحدة، وهي بالذات الأمر الذي كان يخشاه الغرب… ثم امتدت أطماع الشرق الإلحادي ـ الماركسي إلى هذه المنطقة المباركة والخصبة، فشارك الغرب في هذه المخاوف، وفي التخطيط للحيلولة دون قيام دولة إسلامية واحدة في هذه المنطقة الإسلامية، عن طريق تعميق الشعور القومي والإقليمي في هذه المنطقة بالإضافة إلى الوسائل الأخرى التي تبناها الاستكبار الغربي والشرقي لهذه الغاية.

والذي يستقرأ التاريخ السياسي والفكري لهذه الفترة للمنطقة الإسلامية ينتهي بوضوح إلى هذه النتيجة.

فقد استخدمت الأنظمة الحاكمة في المنطقة الإسلامية إمكانات هائلة جدا لتعميق الإحساس القومي عند المسلمين، على كافّة الأصعدة وفي مختلف المجالات، في التربية والتعليم، وفي الإِعلام بمختلف أجهزته، وفي أجهزة الدولة والجيش وفي الشارع، وبموجب تخطيط دقيق ينم عن وجود عقول مخططة ما وراء هذه الخطة.

وعندما نتابع خيوط هذه المؤامرة على العالم الإسلامي في الجانب التخطيطي، وفي الجانب التنفيذي، والأذرع التي تبنت تنفيذ هذا المشروع نلتقي بوجوه تلقت ثقافتها من الغرب وترجع في ولائها إلى الغرب، وترث من الغرب رواسب الحروب الصليبية.

وإذا تتبع القارئ خيوط هذه الحركة السياسية في القسم الفارسي والتركي من العالم الإسلامي يصل إلى نفس النتائج التي يصل إليها في تطور ونشأة الحركة القومية في العالم العربي.

فان الدعوة إلى القومية الفارسية، والدعوة إلى القومية التركية، والعمل على بتر علائق هاتين القوميتين بالإسلام والأُمّة الإسلامية من جانب، وتمتين الإحساس القومي من جانب آخر. جرى في الشطر الفارسي والتركي من العالم الإسلامي كما جرى ذلك في العالم العربي.

ومن العجب أن الأساليب والخطط أيضاً واحدة، رغم اختلاف الظروف والبيئة والمحيط، كما إِنَّ التناقضات التي ارتكبها دعاة القومية في عملهم أيضاً واحدة.

ففي الوقت الذي كانت تقوم الأنظمة الحاكمة في إيران، في عهد

أُسرة بهلوي، وفي تركيا في عهد أتاتورك، وبعده بتخليص اللغة الفارسية والتركية من الكلمات العربية للمحافظة على اللغة الفارسية والتركية ووضوح هويتهما القومية… نجد أن هؤلاء الحكام بالذات يفتحون أبواب الثقافة والفكر واللغة على المصطلحات والمفردات الغربية لتدخل اللغة الفارسية والتركية من دون حساب.

وترتفع نداءات في تركيا وإيران، وفي القسم العربي من العالم الإسلامي باستبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، وتنجح هذه المساعي في تركيا، تحت إرهاب حكم أتاتورك، وتفشل في إيران وفي الجزء العربي من العالم الإسلامي في مواجهة مقاومة الأمة ومقاومة الوعي الإسلامي في هذه المنطقة.

وتجري في كل واحدة من هذه القوميات مساعي حثيثة وجادة في نبش التاريخ والقبور للبحث عن أمجاد الأسلاف في الجاهلية قبل الإسلام ولربط عجلة الأمة، عبر الإسلام العظيم، بالأمجاد الفرعونية والمجوسية والآشورية والكلدانية والأكدّية.

إنّ هذا الأسلوب المتشابه في أجزاء العالم الإسلامي في تعميق الشعور القومي والوسائل المتشابهة لتحقيق هذا الغرض ليدعو إلى الانتباه والحذر والتساؤل والبحث عمّا وراء ذلك من خلفيّات سياسية.

أهي حقيقة لسواد عيون الفراعنة، وكوروش، وداريوش، وحمورابي، ورمسيس، وزنوبية، وكليوباتره؟ أم لحجب الأمّة عن أصلها ورسالتها وخطّها وتراثها وقدواتها، وإيجاد الحواجز النفسية والتاريخية بين أجزاء هذه الأمّة الواحدة؟

أمّا نحن فعلى يقين أنّ من وراء هذه الدعوة شيء، وإِن من وراء هذه الموجة العارمة من الدعوة إلى القومية شعراً ونثراً، وفكراً، وعاطفة، وسياسة، وفي الحرب والسلم… أغراضاً سياسية وألاعيب خَفَت هذه المدّة على الكثيرين من أبناء هذه الأمّة، وحان الوقت ليسفر كتّابنا ومفكرونا الحجاب عن وجه هذه الحقيقة.

واليك تفصيل هذا الحديث:

لقد أراد الله تعالى لهذه الأمّة أن تكون أمّة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}[1].، وأراد الله تعالى أن تكون هذه الأمّة قوية، تقف صفّاً واحداً، كأنّها البنيان المرصوص في مواجهة الطغيان والكفر، وأراد الله تعالى لهذه الأمّة أن تتولّى خلافة الله على وجه الأرض وان يكون موقفها ومركزها من البشرية مركز القيادة، وان تكون شاهدة على سائر الأمم، ومنفذة لأحكام الله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[2].

ولا تستطيع هذه الأمّة أن تتولّى مثل هذا المركز الفعّال على الأرض ما لم تكن قوّة متماسكة واحدة كالبنيان المرصوص في مواجهة التحدّيات الجاهلية.

وليست الوحدة ـ هنا ـ أمنية للتمنّي، وإنّما الوحدة في المجتمع الإسلامي بالولاء الواحد والانتماء الواحد.

وهذه الوحدة في (الولاء) هي أساس الوحدة في المجتمع الإسلامي، ومن دون ذلك لا قيمة ولا معنى للوحدة.

وانّ محور الوحدة في المجتمع الإسلامي هو الولاء. وبقدر ما يقوى ولاء المجتمع يقوى ذلك المجتمع، وبقدر ما يتحد محور الولاء يتّحد المجتمع.

وفي المجتمع الإسلامي الولاء لله سبحانه وتعالى ولمن يأذن الله تعالى به دون غيرهم، ودليل ذلك حصر الولاء في القرآن الكريم، {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}[3].

فكلّ ولاء لا ينبع من الولاء لله، ولا يأمر به الله سبحانه مرفوض في الإسلام، وأيّ ولاء آخر غير الولاء لله، وما أمر الله به من الولاء يعتبر شركاً بالله في الولاء… وتعدّد الولاءات من أنحاء الشرك كما انّ تعدّد الآلهة من أنحاء الشرك، بل إنّ مرجع تعدّد الولاء إلى تعدّد الآلهة.

فالطاعة والنصرة والحبّ… من أهم العناصر الّتي تشكّل الولاء، وهي لله تعالى اوّلا، ولمن يأمر به من عباده الصالحين ثانياً، فتكون طاعة أولياء الأمر ونصرتهم وحبهم لله تعالى، كما أن التحابب والتناصر في المجتمع الإسلامي وبين المؤمنين يكون لله.

وإذا أحبَّ المؤمن كان حبّه لله، وإذا أبغض أحداً كان بغضه في الله تعالى، وبهذه الطريقة يوحّد الإسلام الولاء في المجتمع الإسلامي، وبتوحيد الولاء يوحّد المجتمع… وعند ذلك يكون لوحدة المجتمع الإسلامي مغزاها الحقيقي.

ويرفض الإسلام أيّ ولاء آخر في قبال هذا الولاء، معه، أو من دونه، رفضاً قاطعاً، وبشكل أكيد، ولا يسمح بتعدد الولاءات في حال من الأحوال.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[4].

وقد بُعث النبي (ص) في مجتمع جاهلي يتنوّع ويتعدد فيه الولاء: الولاء للأصنام، والولاء للعشيرة، والولاء للزعماء، والولاء للأحلاف، والولاء للأسرة، والولاء للقوم، والدم، والولاء للتربة والوطن… وغير ذلك من أنماط الولاء… فقام (ص) بشجب هذه الولاءات، وكسرها، ونفيها، والقضاء عليها، وعمل على توحيد الولاء لله تعالى، ورفض الولاءات الأخرى الّتي لا تمت بالولاء لله بصلة ولم يأذن الله بها. وهذه الحقيقة هي سِرُّ قوّة المسلمين ووحدة كلمتهم.

وليس معنى الوحدة ألاّ يختلفوا في رأي، فالاختلاف في الرأي سُنَّة طبيعية لله تعالى في حياة الإنسان، وإنّما معنى الوحدة الوحدة في الولاء.

وسرّ الخطورة في انتشار الحركة القومية في العالم الإسلامي أنّها تشكّل ولاءً آخر في قبال الولاء لله في المجتمع الإسلامي، وأنّها تدفع المجتمع الإسلامي باتجاه تعدد محاور الولاء، وتؤدّي إلى تفتيت الولاء الواحد، وإقامة ولاءات متعدّدة في المجتمع… وهذا هو بالذات سرّ اهتمام أعداء الإسلام في تعميق الحالة القومية في المجتمع الإسلامي كما نتصوّر.

ويقول دعاة القومية أنّهم لا يرفضون الولاء لله، ولا تنفي القومية الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين… ونقول نحن إنّ الإسلام لا يرفض فقط الولاءات المعارضة للولاء لله تعالى كالولاء لأعداء الله، وإنّما يرفض كلّ ولاء لم يأذن به الله مع الولاء لله تعالى أو من دونه… وهذا هو معنى توحيد الولاء.

والقومية الّتي يدعو إليها دعاتها اليوم في البلاد الإسلامية بمختلف أقسامها من مقولة الولاء… وهذه حقيقة لا يمكن أن يماري فيها احد.

واليك توضيحاً لهذه الحقيقة.

إنّ القومية في حالتها الطبيعية الّتي قرنها الله تعالى بخلق الإنسان حالة ايجابية ومثمرة في حياة الإنسان يقول تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[5].

ولاشكّ انّ التعارف نتيجة ايجابية لتعدد الأقوام والشعوب، ولولا هذا التعدد لم يكن يمكن التعارف بالشكل القائم فعلا بين الناس.

والتعارف هو التلاقح الحضاري بين الشعوب والأقوام.

ولا يتمّ هذا التلاقح لو كانت البشرية شعباً واحداً أو قوماً واحداً. واختلاف الأقوام والشعوب، وما يستتبع ذلك عادة من اختلاف اللّغة، والأعراف، والتربية، والتعليم، والعادات، والتقاليد، والآداب، والفنّ، والعلم، والاختصاصات، والذوق، وغير ذلك من حقول الحضارة والمعرفة يهيئ للإنسان فرصة للتلاقي والتلاقح الحضاري وهو من أهمّ أسباب نمو وتكامل الحضارة الإنسانية في جوانبها المختلفة من فكر وأدب وعلوم عقلية ونقلية وتجريبية.

والقومية بهذا المعنى (أي بمعنى العطاء واللقاء الحضاري) من المعاني الإيجابية في حياة الإنسان… ولذلك كلّه فانّ الله تعالى يمن على عباده أن خلقهم شعوباً وقبائل.

هذا، ولكن الحركة القومية، سواء في المنطقة العربية أو الفارسية أو الكردية أو التركية… تسعى لتربط الفرد المسلم بسلسلة من الولاءات الجديدة على شخصية الفرد والأمّة الإسلامية… بعض هذه الولاءات يتقاطع مع الولاء لله تعالى في الصميم، كالولاء للجبابرة والفراعنة وبعضها لا ينافي الولاء لله تعالى… ولكن إذا عرفنا أنّ كل ولاء غير الولاء لله وما يأمر به الله، يعتبر تجاوزاً للولاء لله تعالى، بمقتضى توحيد الولاء… نعرف أنّ الحركة القومية في العالم الإسلامي تتجاوز المحور الرئيسي لشخصية الفرد والأمّة الإسلامية.

إنّ وحدة الولاء هي الّتي تجعل منّا أمّة واحدة فإذا تجاوزنا وحدة الولاء لم نكن أمّة واحدة بل كنّا أُمما شتّى من الترك والفرس والعرب والهند، وهذا هو بالتحديد ما يريده الدعاة إلى القومية.

إنّ الحركة القومية تعمل لربط الإنسان المسلم بتاريخ غير تاريخه، فتربط المسلم الفارسي بجبابرة المجوس، والمصري بفراعنة تاريخ مصر، والهندي والتركي بملوك الهند والترك قبل الإسلام. وتحاول أن تخلق لدى الإنسان المسلم حالة من الاعتزاز بأسلافه في الجاهلية، أو تربطه عبر الإسلام وأمجاده بزهو الجاهلية الباطل وبطرها ورئائها وغرورها، وتحاول أن تخلق من أولئك الجبابرة والطواغيت شخصيات مثالية وقدوات وأبطال في حياة المسلمين.

إنّ الموجة القومية الّتي دخلت بلادنا والّتي استخدمت كلّ وسائل الإعلام والتربية لتحقيق أهدافها تحاول أن تغذّي أبناءنا من صغرهم بالتعلّق بهذه الشخصيات الجاهلية وتمنحهم صفة البطولة والقدوة، وتجعل منهم أمثالا عليا للشخصية.

فتحوّل (عنترة) و(رستم) إلى بطلين قوميين، وتضع صورة هؤلاء في إطار من البطولة والتقديس، وتستخدم لذلك كلّ الوسائل الممكنة من شعر ونثر ومسرحية وكتاب وصحيفة وإذاعة، ونشيد وأفلام، فتتوجه هذه الوسائل الإعلامية الضخمة، ووسائل التربية والتعليم لبعث هذه الشخصيات القومية من بطون التاريخ والكتب من جديد في حلّة قشيبة وزهو كاذب.

وأوّل ما يشعر أبناؤنا تجاه هذه الظاهرة التناقض الشديد بين قيمنا وقيمهم وأخلاقنا وأخلاقهم… فإذا كان القرآن حقّاً، وإذا كان موسى (ع) هو رسول الله فأين يكون موضع فرعون من التاريخ إلاّ في حقل المجرمين من أعداء الله ورسله، بينما تتلّقى ناشئتنا صورة فرعون، وحمورابي، ونبوخذ نصر، وآشور بانيبال، وكوروش، وداريوش في إطار من التقديس والإعجاب. وترى ماذا يصنع المراهقون من أبنائنا وبناتنا تجاه هذا التناقض في القيم والأفكار والحضارات، ثمّ ـ حتّى لو لم يكن هناك تناقض بينهما ـ كيف يجمع بين هذين الولائين؟ وكيف يشرك بالله تعالى في الولاء؟

وتحاول هذه الحركة أن تخلق شخصيات قومية معاصرة على الصعيد السياسي، وتستقطب حولهم ولاء الأمّة، بغضّ النظر عن انتمائهم وارتباطهم بالإسلام… من أمثال كمال أتاتورك، رضا بهلوي، عبد الناصر، غاندي وغيرهم من الساسة الّذين تحاول الأنظمة القومية أن تسلّط عليهم الأضواء وتستقطب حولهم ولاء الأمّة وحبّها وتعلّقها.

وهكذا نجد أنّ الحركة القومية الّتي نشطت في هذه الفترة من تاريخنا حاولت بجدّ أن تربط ولاء الفرد المسلم بالأمجاد والقدوات الجاهلية وبأبطال الجاهلية قبل الإسلام، وبالقيم الجاهلية وبالأساطير الجاهلية، وبقومه وعشيرته وأُسرته وترابه ووطنه وحزبه…

خلقت هذه الحركة عشرات المحاور من الولاء داخل الأمّة الإسلامية، واستخدمت لذلك كلّ أجهزة التربية، والتعليم العالي، والصحافة، والإذاعة، والمسرح، والسينما، والكتاب، والشعر، والأناشيد، وتسمية الشوارع والساحات، والميادين، والتماثيل، واللوحات الفنّية، والمهرجانات، والاحتفالات، والندوات، وتسمية الأولاد والبنات إلى آلاف الوسائل التي اتّخذتها الحركة القومية والأنظمة العاملة في خدمة هذه الحركة لتحقيق هذه الغاية.

ألا يصّح ـ بعد هذا كلّه ـ أن نقول إنّ الاتجاه القومي الّذي نشط في العالم الإسلامي بعد سقوط الخلافة العثمانية كان يسعى باتجاه إقامة محاور جديدة للولاء في العالم الإسلامي مع الولاء لله أحياناً، ومن دونه وفي مقابل الولاء لله أحياناً أخرى…

أن هذه المحاور الجديدة للولاء تفيد الغرب والشرق، أوّل ما تفيد في تفتيت حالة وحدة الولاء في جسم الأمة الإسلامية… وقلنا أنّ قوام وجود الأمّة ووحدتها بوحدة الولاء.

وتفيدهما ثانيا في حجب الأمة عن الولاء لله ولأوليائه الصالحين وللمؤمنين والمؤمنات… فان القلب إناء واحد لا يتسع لأكثر من ولاء واحد {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}[6] وبذلك فان هذه الحركة والأنظمة المنفذة لها والجهات المخططة لها كانت تسعى في واقع الأمر، ومن وراء هذه اللافتة والشعارات السياسية والقومية إلى مصادرة ولاء الأمة وتفتيت شخصيتها.

ونحن نلاحظ أن هذه الحركة بدأت تنشط بشكل فعال في الأوساط السياسية والاجتماعية والأدبية والفكرية والعسكرية أثناء ضعف الدولة العثمانية ثم سقوطها.

وعندما يلاحظ الإنسان التوقيت الدقيق لظهور الأحزاب والنوادي والجمعيات القومية في كل من تركيا والبلاد العربية وإيران لا يملك نفسه من العجب… كيف حصل ذلك كله في وقت واحد؟ وأين كان المسلمون في هذه الفترة عن دينهم وتراثهم وقيمهم وقدواتهم.

ولمع في هذه الفترة بالذات نجم حاكمين اثنين ظهرا في العالم الإسلامي وتحركا بهذا الاتجاه بشكل عنيف جدا، احدهما كمال أتاتورك والثاني رضا بهلوي (والد الشاه المقبور)، ولعله لا يكون من قبيل الصدفة أن يلتقي هذا البطل الفارسي وذلك البطل التركي في أسلوب التفكير وطريقة العمل والذوق والاتجاه والمنحى لتثبيت دعائم القومية الفارسية والتركية بشكل ملح وبكل الوسائل الممكنة.

ثم لعله لا يكون من قبيل الصدفة أن يكون احدهما من نصيب الجزء السنّي من العالم الإسلامي والآخر من نصيب الجزء الشيعي من العالم الإسلامي.

إن مخطط الاستعمار للقضاء النهائي على وجود الأُمة الإسلامية في هذه الفترة لمخطط رهيب، وكان كفيلا بمصادرة وجود هذه الأمة لولا مشيئة الله تعالى وقوة الإسلام وفاعليته. وكذلك أقام الغرب بموجب هذا المخطط الرهيب حواجز قومية نفسية، وتاريخية، وعاطفية، وحضارية بين المسلمين، واستطاع أن يمزق بلاد المسلمين إلى تمازيق وأشلاء ودولا صغيرة وأقاليم مبعثرة وقوميات شتى… فوجد في كل ذلك فرصة لفرض سلطانه على العالم الإسلامي، واستثمار خيرات المسلمين ونهب ثرواتهم، والاعتداء على حقوقهم، حتى يبلغ بالمسلمين أن تنتهك الصهيونية وهم بضعة ملايين، لا يزيدون على ذلك، قبلة المسلمين الأولى، ويتجاوزون على لبنان ومصر وسوريا، فلا يملك حكام العرب تجاه هذا العدوان الصارخ والمذل إلا الاعتراف المذلّ بإسرائيل وتوسيط أمريكا لدى إسرائيل لئلا تتمادى إسرائيل في العدوان.

وهذا هو الفصل الأول من هذه القصة ثم أذن الله تعالى للّيل أن ينجلي، وللظلمات أن تنحسر عن سمائنا، وبدأت موجة النور والوعي تكتسح من أمامها ظلمات السنوات العجاف التي قضيناها في خمول وركود وسبات عميق.

وتحرّكت هذه الأمّة المباركة باتّجاه إعادة الإسلام إلى صلب الحياة وإعادة ولائها للإسلام، واستعادة موقعها ومركزها من الأرض.

وبدأت المسيرة الكبرى تستعيد تحرّكها الفعّال على وجه الأرض لكسر الأصنام والأوثان وإسقاط الجبابرة والطواغيت، ودعوة البشرية إلى الله تعالى، وفكّ القيود والأغلال من أيدي وأرجل المستضعفين والمحرومين، وإِعادة الثقة إلى نفوسهم.

فظهرت طلائع هذه الحركة والثورة الإسلامية المباركة في كلّ مكان من العالم الإسلامي الكبير في العراق وإيران ولبنان وفلسطين والجزائر ومصر، والسودان، والمغرب، وتونس، وأفغانستان وغير ذلك من أقطار العالم الإسلامي… باتّجاه الله تعالى ومرضاته.

وشاء الله تعالى أن يكون الانفجار الأوّل لهذه الثورة في إيران وبقيادة حفيد بار من أحفاد رسول الله (ص) وبتضحيات قلّ نظيرها في تاريخ الإسلام، تحملها شباب هذا البلد، بصدور شرحها الله تعالى، وقلوب طمأنها الله تعالى، وربط عليها. وقامت للإسلام دولة على وجه الأرض، وله الحمد، ملئ السموات والأرضين، وكما يحبّ ويرضى، واكتسحت الثورة من أمامها الظلمات، وبدأت تستقطب المحرومين والمستضعفين، وتجتذب القلوب المؤمنة، من مشارق الأرض ومغاربها.

واستشعر الاستكبار العالمي الخطر الحقيقي على كيانه ومصالحه في العالم الإسلامي، وبدأ يفكّر، ويخطط، ويتحرّك لضرب الثورة والإجهاز عليها.

وأول ما فكّر به الاستكبار هو أدواته ووسائله القديمة البالية، فكّر في إثارة الحالة القومية وتحريك المشاعر والولاءات القومية ضدّ الثورة والدولة الإسلامية.

ولكن ما الّذي حدث بعد ذلك، انّ الّذي حدث كان تماماً خلاف ما كان يتوقعه الاستكبار والأنظمة المرتبطة به.

فقد كان الاستكبار يتوقّع أن تكون أدواته المدّخرة لمثل هذه الظروف السياسية فاعلة وقوية… وتبين له أن هذه الأدوات فقدت منذ مدّة فاعليتها وقوّتها، وانّها لا تستطيع أن تقاوم المدّ الإسلامي المبارك على وجه الأرض، وأنّ الثورة لا تقف طويلا من وراء هذه الحواجز المصطنعة، وإن قوّة الثورة وفاعليتها أكثر بكثير من هذه الخطوط الملوّنة على الخرائط والّتي حاول الاستكبار أن يمزّق بها بلاد المسلمين.

فتقدّمت الثورة تخترق الحواجز، وتكتسح الحدود، وتنفذ إلى عمق العالم الإسلامي، بمختلف قومياته وأقاليمه من أقصى اندونيسيا إلى بلدان آسيا الوسطى، الّتي احتلّها الاتحاد السوفيتي ومن أقصى إفريقيا غربا إلى أقصى الشرق من آسيا.

وتقدّم أبناء المسلمين من أبناء هذه القوميات بالذات من العرب والأكراد والترك ليقفوا في الصفوف الأمامية من جبهات القتال للدفاع عن الثورة الإسلامية، ويرابطوا على ثغور الإسلام، وعلى جبهات القتال وداخل خنادق القتال فتمتزج هذه الدماء المباركة الزاكية من قوميات مختلفة ومن شعوب متعددة… بعضها ببعض.

هذه الدماء الّتي أراد أعداء الإسلام فصلها عن بعض، وطرح كلّ واحد منها كقضية سياسية مستقلّة… شاء الله تعالى أن يمزجها ببعض في مسيرة واحدة. ولقد كنت ازور جبهات القتال أيام الحرب العراقية الإيرانية (حرب الخليج الأولى) فأقف عند بعض الخنادق طويلا أتأمّل في هذه التركيبة الربّانية الرائعة داخل خنادق القتال، حيث يجتمع في خندق واحد لا تتجاوز مساحتها بضعة أمتار مربعة شباب من لبنان وإيران وتركيا وباكستان والعراق… باقة من الأزهار، لكلّ منها نكهة ورائحة، يجتمعون على ولاء واحد وهدف واحد، ويعملون لمرضاة الله، ويتحرّكون إلى لقاء الله.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الأنبياء: 92.
  • [2] ـ البقرة: 143.
  • [3] ـ المائدة: 55.
  • [4] ـ التوبة: 23ـ 24.
  • [5] ـ الحجرات: 13.
  • [6] ـ الأحزاب: 4.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى