ثقافة

موقف القرآن من القومية – الجانب الوظيفي : لتعارفوا

إذا عرفنا أنَّ تعدد الأقوام والشعوب مسألة حقيقية، داخلة في صلب (التكوين) ومما جعلها الله تعالى في صلب حياة الإنسان الاجتماعية. ننتقل إلى الجانب الوظيفي من هذه القضية.

فقد نهض الإسلام بدور توجيهي لتوظيف هذه الحالة من التعددية التكوينية في الشرائح الاجتماعية لتكامل الإنسان من خلال عملية التلاقح الحضاري القائمة على أساس التعارف والتلاقي والتعامل.

والى هذا التوظيف تشير الآية الكريمة من سورة الحجرات بقوله تعالى: {لِتَعَارَفُوا}.

فان للتعارف مفهوم واسع، يشمل المراحل المختلفة للقاء والتلاقح الحضاري، بدءاً بالتعارف ومروراً باللقاء، والتعامل، والتعاون، وتبادل الخبرات، والإمكانات، والتبادل الثقافي، والحضاري.

وهذه المفاهيم والمعاني منطوية جميعاً في كلمة «التعارف» فان التعارف يستتبع العلاقة، بمختلف أشكالها من العلاقات الاقتصادية إلى السياسية والاجتماعية.

والعلاقة تستتبع تبادل الخبرات، والكفاءات، والإمكانات، والثقافات، والقيم، والأعراف، والمسائل الحضارية الأخرى.

وبذلك فان (التعارف) الذي تشير إليه الآية الكريمة هو أساس (التلاقح الحضاري).

والتلاقح أساس للتكامل.

والإنسان يتكامل من خلال هذا التلاقح والأخذ والعطاء، فيأخذ من الآخرين أفضل ما عندهم من الخبرات، والقيم، والأصول، والمفاهيم، والأعراف، والأخلاق، والإمكانات، كما يأخذ الآخرون منه كذلك أفضل ما عنده من ذلك كله.

وكذلك يصحح الإنسان أخطاءه بما يصح عنده من أعمال الآخرين، ويصحح الآخرون كذلك أخطاءهم بما يصح عندهم من أفعاله.

وهكذا يتكامل ضمن منهج هذا اللقاء الحضاري الذي يصفه القرآن بـ(التعارف).

ولو أن الناس كانوا كتلة واحدة، وثقافة واحدة، وحضارة واحدة، ولغة واحدة لم يجد الإنسان مثل هذه الفرصة التي أتاحها الله تعالى له للتلاقح والتكامل الحضاري من خلال منهج (التعارف).

المنهج القرآني لـ(التعارف):

والقرآن الكريم يقرر لمبدأ (التعارف) منهجاً علمياً متكاملا.

وهذا المنهج نجده في سورة الزمر في صفة المؤمنين:

{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[1].

وهذه الآية الكريمة تنظم عملية التعارف والتلاقح الحضاري والتكامل من خلال نقطتين:

1ـ الانفتاح.

2ـ الانتقاء.

والاستماع هو الانفتاح، وهو مما يحبه الله تعالى، فليس من صفة المؤمن أن ينغلق على قول، ويصم اذنه عنه.

ولا يضر المسلم، إذا تسلح بالوعي والبصيرة أن ينفتح على قيم الآخرين وثقافاتهم، وأعرافهم، وأصولهم، ومفاهيمهم، فضلا عن خبراتهم وعلومهم.

فان الانفتاح من خصال المؤمنين.

والانغلاق من خصال الكافرين الذين يأخذون أفكارهم وأصولهم عن تقليد وعن غير وعي.

والله تعالى يذم المقلدة الذين ينغلقون على دعوة الله ورسله، ويقتصرون على إتّباع الآباء، ولو كانوا على غير هدى.

يقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}[2].

ويقول تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ}[3].

ويقول تعالى:

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[4].

وعن لسان أنبياء الله يقول القرآن:

{قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ}[5].

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاّعِبِينَ}[6].

{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِين *َ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[7].

إذن القرآن يؤكد حالة الانفتاح والاستماع إلى الآخرين، ويشجب ويرفض حالة الانغلاق. وهذه هي النقطة الأولى في منهج التعارف وهو قوله تعالى في آية الزمر: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ}.

والنقطة الثانية من منهج (التعارف) هو إِنتقاء الأحسن وهو قوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}.

ولابد في التلاقح الحضاري والتكامل من (الانفتاح) ومن (الانتقاء) معاً. والانفتاح من دون الانتقاء لا ينفع، ولا يتم الانتقاء من دون الوعي والتعقل.

وإذا كان التعارف والانفتاح والانتقاء هو التوظيف الصحيح لمسألة تعددية الأقوام والشعوب في المنهج الإسلامي، فإن التوظيف الخاطئ لحالة تعددية الأقوام والشعوب هو أن ينحاز الإنسان إلى قومه وشعبه في حق أو باطل، وسوف نتحدث إن شاء الله عن (الحميّة، والعصبية) عند بحث الجانب التقييمي من المسألة القومية.

مفتاح (العالمية) الجديدة

وآية سورة الزمر مفتاح التصوّر الإسلامي للعالمية.

وهذا المفتاح يتكون من جزئين: الانفتاح والانتقاء الواعي.

وهذا المفتاح يفتح عقل الإنسان وقلبه على التاريخ وكل العالم، ولا يبقى أمام عقله وقلبه باباً موصداً، لا يحق له أن يدخله. بشرط أن يكون هذا الانفتاح عن وعي وتعقل.

وليس فقط لا تلغي النظرية الإسلامية العالمية تعددية الأقوام والشعوب، بل تعتمدها، وتعترف بها، وتنطلق منها، وتضع على أساسها نظريتها الجديدة في العالمية، وتوظّفها لتأكيد وتحقيق هذه النظرية، ضمن منهج علمي صحيح، يقوم على أساس من الانفتاح والانتقاء الواعي.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الزمر: 18.
  • [2] ـ المائدة: 104.
  • [3] ـ البقرة: 170.
  • [4] ـ لقمان: 21.
  • [5] ـ يونس: 77ـ 78.
  • [6] ـ الأنبياء: 51 ـ 55.
  • [7] ـ الشعراء: 69ـ74.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى