وحدة الولاء ووحدة البراءة من أهم مقومات الاسرة الواحدة، وليس هناك من أمر يقرب البعيد ويبعد القريب، كالولاء والبراءة، فكما أن الولاء الواحد والبراءة الواحدة يوحد بين أناس بعداء من ألوان شتى، ولغات عديدة، وأقطار بعيدة، فإن اختلاف الولاء والبراءة ـ كذلك ـ يبعد بين الأخ وأخيه وبين الأب وبنيه، وبين الزوج وزوجه، حتى أن الله تعالى يسلب «الأهلية» من الابن لأبيه.
قال تعالى: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح}[1].
وتتبرأ الزوجة من زوجها.
فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[2].
وما من شيء يمكن أن يجمع الناس أو يفرقهم كالولاء والبراءة.
وعندما نقرأ القرآن الكريم يلفت نظرنا ـ بشكل خاص ـ حالة وحدة الولاء ووحدة البراءة التي تجمع الأنبياء (ع) بعضهم إلى بعض.
وعلى الرغم من الفواصل الزمنية والمكانية الكبيرة التي تفصل الأنبياء (ع) بعضهم عن بعض… نرى أن وحدة الولاء ووحدة البراءة بهذه الصورة الدقيقة التي يرسمها القرآن الكريم، يجعل من الأنبياء (ع) أسرة واحدة، تنبع أفكارها وتوجهاتها من مصدر واحد. ولا يمكن أن تتحد هذه السلسلة الطويلة من الأنبياء والمرسلين (ع) ـ على امتداد التاريخ الطويل ـ في الولاء والبراءة، دون أن يكون لهم جميعاً مصدر واحد ودون أن تجمعهم جميعاً جذور واحدة ومبدأ واحد وإيمان واحد.
فالذين آمنوا في تاريخ البشرية ـ على امتداده الطويل ـ لهم ولاء واحد وبراءة واحدة، والذين كفروا في تأريخ البشرية ـ على امتداده الطويل ـ أولياؤهم الطاغوت، يُخرجونهم من النور إلى الظلمات.
قال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[3].
وقال تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِروح مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[4].
وكما لا تجد قوماً يؤمنون بالله ورسوله، يحبون من حاد الله ورسوله، فإنك لا تجد ـ كذلك ـ قوماً كفروا بالله ورسوله، يوادّون من آمن بالله ورسوله ويودّون أن ينزل الخير من الله على الذين آمنوا بالله.
فقال تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَبِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْر مِنْ رَبِّكُمْ}[5].
وهكذا يفرز «الولاء والبراءة» الناس بعضهم عن بعض، كما يجمع «الولاء والبراءة» الناس بعضهم إلى بعض.
والقرآن الكريم يشير إشارات إجمالية كثيرة إلى وحدة الولاء والبراءة في سلسلة الأنبياء (ع)، كما يذكر ذلك أحياناً ذكراً تفصيلياً.
وفيما يلي نورد نماذج من الآيات الشاهدة على وحدة الولاء ووحدة البراءة في حياة الأنبياء (ع).
1ـ قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[6].
2ـ وفي البراءة من الذين كفروا، يقول القرآن الكريم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}[7].
3 ـ ويجعل الله سبحانه خليله إبراهيم لنا قدوة حسنة في البراءة من المشركين ومما يعبدون، فقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغَضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ..}[8].
4 ـ ولنستمع إلى إبراهيم (ع) يعلن براءته من المشركين وما يعبدون من دون الله، في قوله تعالى:
أ ـ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً}[9].
ب ـ {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ}[10].
ج ـ {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[11].
فقد جعل إبراهيم (ع) هذا الولاء وهذه البراءة، كلمة باقية في أولاده وذريته، فخط لهم بها خط الحب، والبغض، والمواصلة، والمفاصلة، والانتماء، والمقاطعة… وتلك هي ملة إبراهيم (ع).
5 ـ وهود (ع)، يعلن ولاءه وبراءته لقومه.
قال تعالى: {..قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَميعاً ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم..}.[12]
6 ـ ونستمع إلى قصة نوح (ع) في القرآن الكريم الذي عصمه الله من أن يخرجه حبه لابنه من دائرة البراءة من أعداء الله، فأذعن لحكم الله وأمره بالبراءة من أعداء الله.
قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْني أَكُن مِنَ الْخَاسِرِينَ}[13].
ولئن كان نوح (ع) قد مال إلى ابنه ميلا خفيفاً، فإن سرعة إذعانه لأمر الله تعالى، وأدبه في الاستغفار، واستعاذته بالله تعالى كان غاية في العبودية وقمة من قمم الأدب والتواضع مع الله تعالى، فـ {سَلاَمٌ عَلَى نُوح فِي الْعَالَمِينَ}[14].
أقرأ ايضاً: