فإذا شرح الله صدر عبد من عباده فإن أول أثر يترتب على ذلك أن ينزل نور الله وهداه والمعرفة والحكمة من لدنه تعالى على صدره.
وليس في هذا النور والمعرفة النازلة من لدن الله تعالى على عباده من شح أو بخل.
وإنما تختلف الصدور والقلوب في تلقّي النور والمعرفة من عند الله تعالى، فكلما يكون القلب أنقى وأصفى، والحجب فيما بينه وبين الله تعالى أقل يكون استعداد القلب لتلقي النور والمعرفة من لدن الله وانفتاحه أكثر، وكلما يكون القلب أكثر انفتاحا يكون حظه من قبول رحمة الله تعالى أكثر.
عن أبي جعفر الباقر (ع) قال: «القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعي على شيء من الخير، وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء، فالخير والشر فيه يعتلجان، فما كان منه أقوى غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصباح يزهر فلا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن»[1].
وعن أبي عبدالله الصادق (ع) عن أميرالمؤمنين (ع): «إن قلوب المؤمنين مطوية بالإيمان طياً، فإذا أراد الله إنارة ما فيها فتحها بالوحي، فزرع فيها الحكمة»[2].
فلا يتم إنارة قلوب المؤمنين إلا إذا فتحها الله تعالى، وهو ما ذكرناه من معنى الشرح والبسط، فإذا تولى الله تعالى قلب مؤمن ففتحه للهدى، وصدر مؤمن فشرحه للنور، فإن النور والمعرفة والحكمة تدخله بإذن الله تعالى.
يقول الفيض الكاشاني في كتابه الكبير (المحجة البيضاء) في إحياء الأحياء: فإذا تولى الله تعالى أمر القلب فاضت الرحمة وأشرق النور من القلب، وانشرح الصدر، وانكشف له سر الملكوت… وتلألأت فيه حقائق الامور الإلهية، فليس على المريد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإرادة الصادقة والعطش التام، والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله من الرحمة، فالأنبياء والأولياء انكشفت لهم الامور، وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة، بل بالزهد في الدنيا والتبرّي عن علائقها، وتفريغ القلب عن شواغلها، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى: «فمن كان لله كان الله له»[3].
وهذه هي المرحلة الأولى من المراحل التي تعقب شرح الصدر وفيها يفيض النور والمعرفة من لدن الله تعالى على قلوب وصدور عباده.
وفي المرحلة الثانية التي تعقب شرح الصدر يخزن قلب المؤمن الحكمة والمعرفة، فيكون القلب خزانة لمعرفة الله، وكنزاً للحكمة، وقد ورد التعبير عن قلب المؤمن في بعض الروايات والنصوص الإسلامية بخزانة الله.
عن رسول الله (ص): «ناجى داود ربه فقال: الهي لكل ملك خزانة، فأين خزانتك؟ قال جل جلاله: لي خزانة أعظم من العرش، وأوسع من الكرسي، وأطيب من الجنة وأزين من الملكوت، أرضها المعرفة، وسماؤها الإيمان، وشمسها الشوق… وسحابها العقل ومطرها الرحمة… وثمرها الحكمة، ولها أربعة أبواب: العلم والحلم والصبر والرضى، ألا وهو القلب»[4].
فيكون قلب المؤمن عيبة لعلم الله… وهو معنى العارف والعالم فليس معنى العالم أن يكون الإنسان خزانة للمعلومات فقط بل يكون كنزاً لمعرفة الله تعالى وللحكمة.
وفي المرحلة الثالثة التي تعقب شرح الصدر تتفجر الحكمة على لسان العبد المؤمن، وتطبع الحكمة سلوكه، وتفيض المعرفة والحكمة والتذكير بالله والدعوة إلى الله تعالى من قلبه ولسانه، كما يفيض الماء من العيون لتسقي الاراضي القاحلة من حولها.
وهي حالة طبيعية، فإن القلب والصدر إذا إمتلآ بالمعرفة والحكمة فاضا بالمعرفة والذكر، وكل إناء يفيض بما فيه.
وسوف نتحدث إن شاء الله عن مردودات شرح الصدر فيما يلي بتفصيل أكثر.
مردودات شرح الصدر
هناك مسانخة ومشابهة أكيدة بين «واردات» الصدر والقلب من المعرفة «ومردوداتهما»، وهذه المسانخة كما ذكرنا طبيعية فكل إناء يفيض، لا محالة، بما فيه.
ولما كانت واردات الصدر الذي يشرحه الله تعالى هي المعرفة النازلة من لدن الله تعالى على صدور عباده فلا محالة، تفيض هذه الصدور والقلوب بما أنزل الله عليه من المعرفة… وهذه المردودات التي تفيض عن صدور المؤمنين تظهر على لسانهم وسلوكهم.
وقد ورد ذكر إجمالي لمردودات «شرح الصدر» في الحديث المروي عن الإمام الصادق (ع) في معنى شرح الصدر: «أن الله عزوجل يقذف النور في قلب المؤمن، فينفسخ بذلك قلبه، وينشرح للتسليم لله، والثقة به والسكون إلى ما وعده حتى يطمئن إليه»[5].
فالتسليم لله تعالى، والثقة به وسكون النفس إلى وعد الله، والطمأنينة إليه تعالى من مردودات شرح الصدر يظهر على سلوك الإنسان في علاقته بالله تعالى وفي علاقته بالمجتمع، وبساحة العمل، وبنفسه، وفيما يلي نحصي بعض هذه المردودات:
1 ـ من مردودات شرح الصدور المعرفة، وليس من عجب فإن مردود المعرفة معرفة.
فإذا استنار المؤمن بمعرفة الله تعالى، وحلّت المعرفة في صدره وقلبه وعقله تغيرت رؤيته للأشياء ولمس بوضوح يد الله تعالى وتدبيره وحكمته وإرادته في كل شيء… إن الناس عامة لا يرون في هذا الكون غير سلسلة من الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات مترابطة ومتماسكة، ولسنا ننكر قانون العلية ولا ارتباط المسببات بأسبابها، ولكن الذين آتاهم الله تعالى العلم والمعرفة لا يرون في الكون، والتاريخ والمجتمع غير إرادة الله تعالى ومشيئته، ويده والأسباب والعلل تأتي في امتداد مشيئة الله وإرادته.
إن المؤمنين الذين شرح الله صدورهم ليلمسون يد الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة من هذا الكون، ويلمسون حضور إرادة الله في الانقلابات التاريخية الكبرى، كما يلمسون حضور إرادة الله في القضايا الصغيرة التي تحدث للناس هنا وهناك، ويلمسون حضور إرادة الله في الأحداث الكونية الهائلة، وفي حركة النجوم والمجرات ونظام المجموعة الشمسية كما يلمسون حضور مشيئة الله تعالى في رفيف جناح فراشة تنتقل من غصن إلى غصن آخر.
يقول تعالى: {وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[6].
{إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}[7].
{إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}[8].
{لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}[9].
{إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[10].
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}.[11]
2 ـ ومن مردودات الصدور التي يشرحها الله تعالى، اليقين بإحاطة الله تعالى بما في هذا الكون إحاطة كاملة، لا يغيب عنه شيء، ولا تخفى عليه خافية في هذا الكون من صغيرة أو كبيرة… فكل شيء حاضر عند الله، ولا تسقط ورقة صفراء في عمق غابة من هذه الغابات الواسعة المنتشرة في الأرض إلا كان الله بها عليما ولا تتحرك موجة على سطح البحر صغيرة كانت أم كبيرة إلا كان الله بها محيطاً.
{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَيَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَة إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّة فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْب وَلاَ يَابِس إِلاَّ فِي كِتَاب مُبِين * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى}[12].
3 ـ ومن مردودات شرح الصدر رؤية انقياد وطاعة الكائنات في هذا الكون لله تعالى طوعاً وكرهاً وخضوعها وسجودها وتسبيحها لله تعالى.
وإن عامة الناس لا يرون من هذه الكائنات إلا ظاهراً من الأمر، فيرون البحار والجبال والأحجار والمعادن والرعد والبرق والمطر والشمس… وأما الذين فتح الله تعالى بصيرتهم وشرح صدورهم، فيرون ما وراء هذه الظواهر انقياد هذه الكائنات لله تعالى عن طوع أو كره، وسجودها لله، وتسبيحها لله، وهذه البصيرة النفاذة التي تُمَكِّن أصحابها من تجاوز هذه الظاهر الذي يراه عامة الناس إلى عمق الأشياء وباطنها يمنحها الله تعالى لمن يشاء من عباده، يقول تعالى:
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}[13].
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّة وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[14].
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ}[15].
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ}[16].
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّات}[17].
وإن عامة الناس يرون الكائنات ويتفاعلون معها، ولكن لا يفقهون لهم تسبيحاً وسجوداً.
{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}[18].
وان الله تعالى ليشرح صدر عباده بالمعرفة فيسمع الإنسان تسبيح الكائنات لله تعالى.
4 ـ ومن مردودات شرح الصدر تبدل الرؤية لدى الإنسان… فإن عامة الناس يرون في الكائنات أشياء جامدة غير ذات دلالة ومعنى… أما الذين فتح الله بصائرهم فيرون في الأشياء علامات وآيات ودلالات على الله تعالى… وهذه الأشياء الجامدة والصامتة تنطق لديهم بجلال الله وجماله ورحمته، وهي لديهم علامات وآيات دالات على الله تعالى.
وأنهم ليرون في جمال هذا الكون جمال الله، وفي عظمة هذا الكون رشحاً من عظمة الله، وفي إتقان هذا الخلق علم الله وتدبيره.
ولنقرأ هذه الآيات المباركات من سورة النحل والواقعة، ونظيراتها في القرآن كثيرة، لنرى كيف يربط القرآن الظواهر الكونية بالله تعالى ويستخرج لذوي البصائر ما فيها من دلالات وعلامات وآيات على جمال الله وجلاله وتدبيره وحكمته ورحمته تعالى.
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لاَيَةً لِقَوْم يَذَّكَّرُونَ}[19].
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنْزَلْتُمُوُهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ}[20].
إن هذه الرؤية القرآنية للكون هي الرؤية التي ينظر من خلالها أصحاب البصائر من عباد الله إلى الأشياء… آيات رحمة الله، وتقديره وتدبيره، وحكمته، وتفصح لهم هذه الأشياء عن جلال الله، وجماله وعظمته، وصفاته، وأسمائه الحسنى، وكلماته، بينما هي صامتة جامدة عند الآخرين، وليس الاختلاف في حالات الأشياء، تنطق حيناً وتسكت حيناً، وإنما الاختلاف في الرؤى والقلوب والصدور.
5 ـ ومن مردودات شرح الصدر الثقة بالله تعالى فإذا آمن الإنسان بسلطان الله تعالى المطلق وقوته المطلقة، {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[21]… وإذا آمن الإنسان بصدق وعد الله تعالى فيما يعد به الله من جزاء المحسنين، ومن نصر المؤمنين… فإنه سوف يضع ثقته المطلقة في الله تعالى، ولا يتردد لحظة واحدة في أن يسلك سبل الصالحين.
يقول الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً}[22].
{وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً}[23].
إن مردود الإيمان بسلطان الله وصدق وعد الله تعالى هو الثقة المطلقة بالله عز شأنه.
6 ـ وعندما يستيقن الإنسان أن الأمر كله في هذا الكون لله تعالى، ويستيقن أن الله تعالى هو الحاكم على عباده، من قبل ومن بعد {يَقُولُونَ هَل لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيء قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ}[24].
{أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ}[25].
{إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}[26].
{لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ}[27].
… أقول عندما يستيقن بهذه الحقيقة الإيمانية، فإنه يُسَلِّمُ أمره كله لله تعالى، والتسليم هو المردود الطبيعي لهذا الإيمان المطلق بحاكمية الله.
7 ـ وعندما يؤمن الإنسان إيماناً قاطعاً، بأن الله تعالى {أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}[28] و{ذُو الرَّحْمَةِ}[29] وأنه {الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[30]، ولا يريد الله تعالى به إلا الرحمة والخير، وان كان يخفى عليه وجه الحكمة في كثير مما يصيبه… فإنه سوف يرضى بما أراد الله لـه من سراء وضراء، ويشعر بـ«الرضى» في كل ما يناله من الله تعالى من ابتلاء… وهذا «الرضى» هو المردود الطبيعي لهذه المعرفة في صدور المؤمنين.
8 ـ وإذا آمن الإنسان بحضور الله تعالى ورقابته له، وأنه لا تخفى عليه خافية وأنه تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[31] وأنه {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ}[32] و{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[33]… إذا آمن الإنسان بهذه الحقيقة، فإنَّ المردود الطبيعي لهذه المعرفة هو مراقبة الإنسان لنفسه في السر والعلن.
9 ـ وإذا آمن الإنسان بما يخوف الله تعالى به عباده من عذاب أليم يوم القيامة.
{لَهُم مِن فَوْقِهِمْ ضُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ}[34]… فإنه سوف يخشى الله تعالى ويخافه.
فإن هناك علاقة وثيقة بين المعرفة بالله تعالى والخشية منه {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[35].
10 ـ وإذا آمن الإنسان بسعة رحمة الله، وحرمة القنوط من رحمته ومغفرته، وآمن بما يحدثنا القرآن به من سعة رحمته تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ..}.[36]
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ}[37].
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[38]….إذا آمن بهذه الحقيقة، فسوف يرجو الله تعالى ولا ييأس من رحمته، والرجاء هو المردود الطبيعي لهذه المعرفة.
11 ـ وإذا استقر ذكر الله تعالى، واستقر وعي كتاب الله في صدره رقّ قلبه، وزالت عن قلبه القسوة {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}[39].
12 ـ وإذا استقر الإيمان وذكر الله في قلبه خشع قلبه لذكر الله {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}[40].
13 ـ وإذا استقر في قلبه الولاء لله ورسوله والبراءة من الطاغوت أحسَّ في نفسه بالسكينة والطمأنينة {فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا}[41].
{فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً}[42].
14 ـ وإذا آمن بأن الله تعالى هو الحاكم المنفرد بالحكم والملك والسلطان في هذا الكون، وأنه رب المشرق والمغرب، ولا إله إلا هو…. وانه البصير بعباده أوكل أمره كله إلى الله بثقة وطمأنينة.
{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}[43].
15 ـ وإذا عرف أن العزة كلها لله، وأن السلطان والأمر كله لله، وأن لله خزائن السماوات والأرض شعر شعوراً عميقاً بالاعتزاز بالله تعالى.
{إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}[44].
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}[45].
{كَتَبَ اللَّهُ لاََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[46].
{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[47].
{وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ}[48].
16 ـ وإذا أفرغ صدره من شواغل الدنيا انصرف إلى الله تعالى، وانقطع إليه، وتملكه ذكر الله وشغله ذكر الله عن ذكر غير الله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}[49].
فإن نصيب العباد من ذكر الله، بقدر ما يتخلصون من شواغل الدنيا وصوارفها.
17 ـ وإذا وعي آلاء الله تعالى ونعماءه وما أسبغ عليه من نعم ظاهره وباطنة شعر شعوراً عميقاً بشكر الله تعالى… فإن الناس جميعاً يتمتعون بنعم الله عز شأنه، ولكنَّ القليل من الناس من يشعر بنعمة الله تعالى وفضله على عباده {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[50].
يقول تعالى:
{وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[51].
18 ـ وإذا آمن الإنسان بالله تعالى وأسمائه وصفاته الحسنى وجماله ورحمته ورأفته بعباده وجميل صنعه… {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى}[52].
{اللَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْماءُ الْحُسْنَى}[53].
وآمن بجميل صنع الله تعالى به، ورأفته به واجتبائه إياه، وفضله عليه… فإنه لا يملك نفسه من حب الله تعالى والوله والشوق إليه تعالى والإنس بذكره… فإن الإيمان بالله وصفاته وأسمائه الحسنى لا يمكن أن يفارق الحب، ومهما كان إيمان الإنسان أقوى كان حبه لله تعالى أعظم وشوقه إليه أكثر.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبَّاً لِلَّهِ}[54].
هذه جملة من مردودات «شرح الصدر» في نفوس المؤمنين.
فإذا شرح الله تعالى صدور عباده بالإيمان والإسلام والمعرفة، فإن مردودات هذه الصدور تكون من سنخ ما جعل الله تعالى فيها من المعرفة، وهذه المردودات تفيض من صدور المؤمنين بصورة طبيعية.
والقرآن الكريم يعطي اهتماما كبيراً لمسألة شرح الصدر، ولما ينزل الله تعالى على صدور عباده وقلوبهم من واردات المعرفة، وما يصدر ويفيض عن صدور المؤمنين من مردودات المعرفة، من المعرفة، والتسليم، والرضى، والخوف، والرجاء، والذكر، والحب، والشوق، والأنس بالله، والتوكل والاعتزاز بالله، والمراقبة، والرقة، واللين، والخشوع، وغير ذلك من مردودات شرح الصدر.
فإذا أراد الإنسان أن يشرح الله تعالى صدره للإسلام والإيمان، وأن ينزل على صدره النور والمعرفة، وأن يفيض من صدره المعرفة والحكمة… فعليه بالقرآن… فإنه مفتاح شرح الصدر، وفيه كنوز المعرفة التي يودعها الله تعالى في صدور عباده المؤمنين.
وقد كان أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يقول إذا ختم القرآن: «اللهم اشرح بالقرآن صدري، واستعمل بالقرآن بدني، ونوِّر بالقرآن بصري، وأطلق بالقرآن لساني، وأعنّي عليه ما أبقيتني، فإنه لا حول ولا قوة إلا بك»[55].
أقرأ ايضاً:
الهوامش والمصادر
- [1] ـ معاني الأخبار: 395.
- [2] ـ قرب الإسناد: 251.
- [3] ـ المحجة البيضاء 5: 34.
- [4] ـ بحار الأنوار 70: 59، وتفسير الصراط المستقيم 1: 258.
- [5] ـ مستدرك سفينة البحار 5: 358 ـ 359.
- [6] ـ آل عمران: 109. الأنفال: 45. الحج: 76. فاطر: 4.
- [7] ـ آل عمران: 154.
- [8] ـ هود: 108.
- [9] ـ الروم: 4.
- [10] ـ الحج: 14.
- [11] ـ يـس: 82 .
- [12] ـ الأنعام: 58 ـ 59.
- [13] ـ الرعد: 15.
- [14] ـ النحل: 49.
- [15] ـ الرعد: 13.
- [16] ـ التغابن: 1.
- [17] ـ النور: 41.
- [18] ـ الإسراء: 44.
- [19] ـ النحل: 10 ـ 14.
- [20] ـ الواقعة: 68 ـ 72.
- [21] ـ البقرة: 117.
- [22] ـ النساء: 122.
- [23] ـ النساء: 87.
- [24] ـ آل عمران: 154.
- [25] ـ الأنعام: 62.
- [26] ـ الأنعام: 57.
- [27] ـ الأنبياء: 23.
- [28] ـ الأعراف: 151، يوسف: 64 و 92، الأنبياء: 83 .
- [29] ـ الأنعام: 133، الكهف: 58.
- [30] ـ البقرة: 32، يوسف: 83 و 100، التحريم: 2.
- [31] ـ غافر: 19.
- [32] ـ غافر: 16.
- [33] ـ الأنفال: 43، هود: 5، فاطر: 38، الزمر: 7، الشورى: 24، الملك: 13.
- [34] ـ الزمر: 16.
- [35] ـ فاطر: 28.
- [36] ـ الأعراف: 155.
- [37] ـ الحجر: 56.
- [38] ـ الزمر: 53.
- [39] ـ الزمر: 23.
- [40] ـ الحديد: 16.
- [41] ـ البقرة: 256.
- [42] ـ الجن: 13.
- [43] ـ المزمل: 9.
- [44] ـ يونس: 65.
- [45] ـ فاطر: 10.
- [46] ـ المجادلة: 21.
- [47] ـ المنافقون: 8 .
- [48] ـ المنافقون: 7.
- [49] ـ المنافقون: 9.
- [50] ـ سبأ: 13.
- [51] ـ القصص: 73.
- [52] ـ الأعراف: 179.
- [53] ـ طه: 8 .
- [54] ـ البقرة: 165.
- [55] ـ بحار الأنوار 92: 207، والاختصاص: 141.