لكي ينعم الناس بالأمن في حياتهم لابدّ من وجود قوّة تحرس أمن الناس من المعتدين، وتحول دون الاعتداء والظلم وتجاوز الناس بعضهم على بعض… وهذه القوّة هي الدولة، وهذا السبب من أهم الأسباب الداعية إلى قيام الدولة على كل الاتجاهات السياسيّة.
وكلمة الدولة ـ بذاتها ـ قد تتحوّل إلي عامل لتخريب الأمن والإخلال به وسلب الأمن من الناس ـ كما يحصل عادة في كثير من الأنظمة ـ فكما أنّ فراغ الساحة من وجود قوّة مهيمنة كبرى تفرض نفوذها على الساحة الاجتماعيّة يغري بإلاخلال بالأمن وسلب أمن الناس والتجاوز على حدود الآخرين… كذلك القوّة مدعاة للاستغلال والاستئثار ومغرية بالإخلال بالأمن، وإذا كانت الدولة تحرس أمن الناس من الظالمين فمن الذي يحرس أمن الناس من الدولة نفسها.
لا يمكن أن يؤثّر (القانون) في هذا المجال، فالقانون من دون وجود قوّة للتنفيذ لا يحمي نفسه فكيف يحمي أمن الناس.
لقد اهتدت الجاهلية الحديثة (وليست على هدى) إلى النظريّة الديمقراطيّة في إرجاع كل الحقوق والصلاحيّات في مجال التشريع والتنفيذ إلى الشعب، واعتبار الشعب مصدراً لجميع الصلاحيّات والسلطات، واعتبار الدولة نائبة عن الشعب في التشريع والتنفيذ إلاّ أن هذه النظريّة ـ وهي أفضل ما عالجت به الجاهليّة الحديثة هذه المشكلة ـ ملَّكت الإنسان ما لا يملك من السلطة والصلاحيّات، فهذه السلطات والصلاحيّات التي يملكها الشعب في النظريّة الديمقراطيّة، وتنوب الدولة عنه في إدارتها، هي ملك لله تعالى يملكها ويملك التصرّف فيها، وليس للإنسان فيها من شأن.
وهذه الملاحظة الرئيسيّة الأولى التي لا تملك الديمقراطيّة جواباً لها ومكّنت الأكثريّة من الأقليّة، وسلبت حق الأقليّة في الرأي والتنفيذ، فالدولة دائماً ـ أو غالباً ـ تكون ممثِّلة للأكثرية، ومكّنت أقليّة قليلة ـ وهي أصحاب المال والنفوذ الاجتماعي ـ من التحكّم في رأي الأكثريّة، فالأكثريّة غالباً ما تخضع لسلطان الإعلام والإغراء والتضليل، والإعلام يخضع لسلطان المال… وعليه فإنّ هذه الإقليّة صاحبة النفوذ والسلطان والمال تستعيد ـ على كل حال ـ موضعها المتميّز في القرار والتنفيذ.
ولا نريد أن نطيل الوقوف مع الديمقراطيّة، فليس هنا موضع هذا النقاش.
لقد عالج الإسلام القضيّة بطريقة اُخرى من دون أن يفسح المجال للإنسان للاعتداء على حقوق الله وسلطانه وصلاحيّاته، ومن دون أن يطلق يد الحاكميّة على أمن الناس.
إنّ استغلال القوّة إنّما يتمّ في أجهزة الدولة في مرحلتين:
1 ـ مرحلة القرار والتقنين.
2 ـ مرحلة التنفيذ.
وفي كلٍّ من هاتين المرحلتين دعا الإسلام الأُمّة إلى الحضور الفعّال في ساحة فعل الدولة وعملها، في مجال القرار والتقنين وفي مجال التنفيذ، وذلك ضمن نهجين: نهج الشورى للحضور في ساحة القرار، ونهج الرقابة للحضور في ساحة التنفيذ.
الشورى
والشورى لا تعنى القرار ـ كما نفهم نحن ـ وإنّما الشورى هي مشاركة من قبل أهل الحلّ والعقد الذين يمثِّلون الأُمة في تنضيج القرار، فالحكم في النظام الإسلامي لله تعالى، والقرار والحسم لولىّ الأمر… إلاّ أنَّ وليّ الأمر مكلَّف بالمشورة وتنضيج القرار بمشاركة أهل الحلِّ والعقد من الأُمة، فإن أخلَّ وليّ الأمر بهذا التكليف تسرّب الخلل إلى ولايته، والقرار وإن كان الحسم فيه لولىّ الأمر ـ وهذا شيء نعتقده نحن ـ ولكنّ وليّ الأمر في نفس الوقت مكلَّف بطرح دراسة القرار في مراحلها المختلفة للشورى والشورى تخرج القرار من حالة القرار الفردي وتشرك الأُمة (ضمن ممثّليها من أهل الحلّ والعقد) في صناعته وتعين كثيراً على تنضيجه، وعندما يتمّ تقنين مسألة الشورى فإنّ هذه المسألة سوف تمكّن الأُمّة من الحضور الفاعل في صناعة القرار.
وقد وردت في القرآن الكريم آيتان صريحتان في الشورى; إحداهما: قولـه تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[1]، والثانية: قولـه تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[2]، وهما تدلاّن ـ بالأجمال ـ على تكليف وليّ الأمر بالاستشارة وتعليق القرار على الاستشارة.
وقد وردت في الشورى والاستشارة نصوص كثيرة، نشير إلى طرف منها:
- عن علي “ع” ـ كما في غرر الحكم ـ «شاور قبل أن تعزم، وفكِّر قبل أن تُقدم»[3].
- وعن الحسن بن الجهم قال: كنّا عند الرضا “ع” فذكرنا أباه،فقال: «كان عقله لا توازى به العقول، وربّما شاور الأسود من سودانه، فقيل له: تشاور مثل هذا؟ فقال: إنّ الله تبارك وتعالى ربّما فتح على لسانه»[4].
- وعن عليٍّ “ع” أنه قال: «إنّما حضّ على المشاورة لأن رأي المشير صرف، ورأي المستشير مشوب بالهوى»[5].
- وعن أميرالمؤمنين “ع” أنه قال: «لا تكفّوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإنّي لست في نفسي بفوق أن اُخطيء ولا آمن ذلك من فعلي، إلاّ أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به منّي»[6].
- وعن أمير المؤمنين “ص”، وقد أشار عليه عبد الله بن عبّاس في شيء فلم يرتض الإمام “ع” رأيه فقال: «لك أن تشير عليَّ، وأرى، فإن عصيتك فأطعني»[7].
والنصّ الأخير يحدد بصورة دقيقة دور الشورى وقيمتها الشرعيّة.
إنّ من واجب الحاكم استشارة ذوي الرأي في المسائل السياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة والعسكريّة وغيرها من شؤون المجتمع، ولا يحقّ لـه أن يصدر قراراً من دون الاستشارة، ومن دون أن يأخذ بتصورّات الآخرين وأفكارهم وآرائهم، والحاكم ملزم بذلك، والآية الشريفة شاهدة على ذلك {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} ولكن من دون أن يكون الرأي الذي يعطيه أهل الرأي ملزماً للحاكم، فالكلمة الحاسمة الأخيرة لوليّ الأمر، وبه ينقطع الخلاف، وقراره ورأيه نافذان على المسلمين بشرط الاستشارة.
والصورة التقنينيّة إدارة الحكم ضمن هذا النظام المؤلَّف من (الولاية ـ الشورى) تختلف باختلاف الظروف، والصيغة التي يجري عليها دستور الجمهوريّة الإسلامية اليوم هو مزيج قانوني من هذين الأمرين، ينيط فيه وليّ الأمر أمر التقنين بمجلس الشورى، ويعطي لهذا المجلس شرعيّة إعطاء القرار في المسائل المختلفة، ويصدر المجلس مختلف القرارات إلى الهيئات التنفيذيّة في الدولة بعد إخضاعه للدراسة والرأي في الشورى، ويكون قرار مجلس الشورى قراراً شرعيّاً نافذاً بحكم وليّ الأمر، ولكن من دون أن تسلب الشورى حق القرار من وليّ الأمر، فله أن يتدخل في الأمر كلّما اقتضت المصلحة، وله إيقاف القرار، وله الأمر، وهو تقنين وتنظيم جيّد يحقق كلتا هاتين النقطتين اللتين يأمر بهما الإسلام (وجوب الطاعة لوليّ الأمر، ووجوب الشورى على وليّ الأمر).
والشورى في هذه الصيغة تحقق نقاطاً مهمة في جهاز الدولة، هي:
1ـ تنضيج الرأي.
2ـ اشتراك الأمّة دون الاستبداد اليائس في جهاز الدولة.
3ـ اشتراك الأمّة في صناعة القرار عن طريق ممثّليهم في مجلس الشورى، وهو عامل أساسي في دعم القرار، وتحمّل مسؤوليّاته من قبل الأُمّة، وإلغاء الفواصل بين الأمّة والدولة.
الرقابة
وأصل الرقابة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعب كثيرة، ومن شعبه النصيحة للحكّام وتسديد المسؤولين، فكما تجب طاعة أولياء الأمور تجب نصيحتهم وتسديدهم، فلا تستقيم أمور الدولة من دون وجود جهاز واسع مهمّته الرقابة على شؤون الدولة وأعمال المسؤولين والموظّفين في الدولة، وتحرّي المخالفات والتجاوزات التي تقع في دائرة أجهزة الدولة وفي أوساط المجتمع أيضاً كالأسواق والمحلات العامّة والمؤسسات الرسميّة وشبه الرسميّة والأهليّة.
ويسمّي الفقهاء في كتب الفقه هذا الشأن بـ(الحسبة)، وهو باب معروف في الفقه، وقد ألّف فيه الفقهاء كتباً كثيرة معروفة ومتداولة إلى اليوم.
وكلمة (الحسبة) مشتقَّة من احتساب العمل لله تعالى، فإنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللَّذين يحتسبهما العاملون في حقل الحسبة عند الله تعالى.
وكان عمل المحتسب رقابة عامة على المخالفات الشرعيّة، وكانت هذه الرقابة في الغالب تجري في الأسواق على ما يجري بين الناس من المعاملات التجاريّة وشؤون التسعير والتلاعب بالأسعار والبضائع والاحتكار وما يتّصل بذلك من الشؤون التجاريّة كما كانت تجري في الشؤون الصحيّة من نظافة الأسواق والأزقّة، وفي الشؤون العمرانيّة كما كانت تجري هذه الرقابة على موظّفي الدولة أيضاً.
ولقد كانت الحسبة من شؤون الولاية في تأريخ الإسلام، فيعيّن الحاكم عادة شخصاً يولِّيه مهمّة الحسبة ويعيّن لـه أعواناً ورجالا يساعدونه على رقابة شؤون الأسواق والتجارة والصناعة وشؤون الناس، والتنبيه على المخالفات وعقوبة المتخلّفين ومراقبة الموظّفين والقضاة.
والأصل الشرعي للحسبة في الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سبق أن أشرنا إليه.
يقول تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[8].
ويقول تعالى أيضاً: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[9].
ويقول تعالى أيضاً: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ…}[10].
ويقول “ص”: «كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيّته»[11].
ويظهر من النصوص الإسلامية أنّ هذه المهمّة تنفذ بأسلوب التخصص في عمل الحسبة والمراقبة بتخصيص هيئة تتفرغ لهذه المهمّة وتبحث عن المخالفات الشرعيّة في المجتمع في الشوارع والأسواق والدوائر والاجتماعات والمجالس والمرافق الاجتماعيّة العامّة، وتمارس وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضاً عينيّاً، وتسعى للبحث عمّا يقع في المجتمع وفي دوائر الدولة والقضاء من المنكرات لتردع عنها.
وهذه هي الوظيفة الرسميّة التي كانت من شؤون الولاية في تأريخ الإسلام وتسمّى بولاية (الحسبة).
وقد ورد في عهد الإمام أمير المؤمنين “ص” إلى مالك الأشتر لمّا ولاّه مصر: «… ثم تفقَّد أعمالهم (الموظّفين) وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإنَّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حَدْوَةٌ لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعيّة»[12].
والأصل في هذا التخصيص هو قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}، فإنّ الآية الكريمة واضحة في تخصيص أُمّة من الناس بهذه المهمّة لموضع (منكم) في الآية الكريمة الدالّة على التبعيض.
وفي مقابل هذا الفرض العيني التخصيص للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هناك صيغة أخرى لتنفيذ هذه المهمّة وهي الرقابة العامّة الملقاة على عاتق المسلمين جميعاً على نحو فرض الكفاية من دون تخصيص هيئة خاصّة بذلك، والأصل في ذلك العمومات والاطلاقات الواردة في القرآن الكريم والسنّة المباركة التي تفرض هذه المسؤوليّة على المسلمين جميعاً، وذلك مثل قوله تعالى:
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}.
وقوله “ص”: «كلُّكم راع وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته».
وواضح أن هذه النصوص تضع على عاتق المسلمين جميعاً مسؤوليّة مكافحة المنكرات من دون استثناء على نحو الواجب الكفائي.
ومن أهم مواضع هذه المسؤوليَّة رقابة أعمال المسؤوليّة في الدولة في مجالي التنفيذ والقضاء، ومحاسبتهم على التخلّف عن حدود الله وعن أُصول العدل والإحسان اللَّذين أمر الله تعالى بهما في كتابه.
وقد خصص فقهاء المسلمين لذلك أبواباً، ويعجبني أن أنقل إليكم شطراً من كلام (ابن الاخوة) المتوفّى سنة (729 هـ) في هذا الأمر:
يقول ابن الاخوة في كتابه القيّم: (معالم الغربة في أحكام الحسبة) في الباب الثاني والخمسين:
(ينبغي للمحتسب أن يقصد مجالس الأمراء والولاة ويأمرهم بالشفقة على الرعيّة والإحسان إليهم ويذكر لهم ما ورد في ذلك من الأحاديث، عن النبيّ “ص” أنه قال: «ما من أمير يلي أمر المسلمين ولا يجهد لهم وينصح إلاّ لم يدخل الجنّة» وفي رواية: «لم يجد ريح الجنّة» وقال رسول الله “ص”: «ما من أمير يؤمّر على عشرة إلاّ وهو يأتي يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يكون عمله هو الذي يطلقه أو يوثقه»، وفي الحديث: «لا تسأل الإمرة، فإنك إن اُعطِيتَها عن مسألة وُكِلتَ إليها، وإن اُعطيِتَها عن غير مسألة اُعِنْتَ عليها».
وفي الحديث عن النبيّ “ص” أنه قال لمعاذ بن جبل: «إنّي اُحبُّ لك ما اُحبُّ لنفسي، لا تؤمَّر على اثنين ولا تتولَّ مال يتيم».
وروي أنّ العباس عمّ النبيّ “ص” قال: يا رسول الله أمِّرني إمارة، قال: «يا عم، نفس تحييها خير من إمارة لا تُحصيها، لأن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعلها».
ولمّا مات سليمان بن عبد الملك أدخله في قبره ولده وعمر بن عبد العزيز فارتكض واضطرب على أيديهما، فقال ولده: عاش والله أبي، فقال له عمر بل والله عوجل أبوك.
وقال مكحول الدمشقي(رض): ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأعوانهم فلا يبقى أحد مدّ لـه دواة أو برى لـه قلماً فما فوق ذلك إلاّ حضروا، فيجمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنّم.
وفي الحديث عن النبيّ “ص”: «لا يقف أحدكم موقفاً يضرب فيه رجل مظلوم، فإنَّ اللعنة تنزل على من حضر حيث لم يدفعوا عنه».
وروي أنه مات رجل من الحواريين فَوَجِدَ عليه أصحابه وجداً شديداً وسألوا عيسى “ص” أن يدعو الله عزّوجل أن يحييه لهم، فوقف على قبره، ودعا الله سبحانه وتعالى فأحياه لهم، وإذا برجليه مغلاَّن من نار فسأله عيسى “ص” عن ذلك؟ فقال: والله ما عصيت بهما قط، غير أني مررت بمظلوم فلم أنصره.
وقد ورد في الحديث أنّ النبيّ “ص” قال: «ويُؤتى بالولاة يوم القيامة، فيقول الله عزّوجل أنتم كنتم رعاة خليقتي وخزنة ملكي في أرضي، ثم يقال لأحدهم: لِمَ ضربت عبادي فوق الحد الذي أمرت به؟ فيقول: يا ربّ لأنهم عصوك وخالفوك، فيقول: لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي، ثم يقول لأحدهم لم عاقبت عبدي أقلّ الحد الذي أمرت به؟ فيقول: يا ربّ إنّي رحمتهم، فيقول تعالى: كيف تكون أرحم منّي؟ خذوا الذي زاد والذي نقص فاحشوا بهم زوايا جهنّم».
فيجب عليك ـ أيها المتولّي لأمور المسلمين ـ أن تحترز على نفسك من مثل هذا، وأن تقف عند أوامر الله تعالى، فإنّ الظلم من الولاة عظيم لأنهم يجرون بالباطل مجرى الحق، ويخرجون الجور مخرج الحق، ويقولون إننا على الحق وهم أماتوه.
وخطر الولاية عظيم وخطبها جسيم، ولا يسلم الوالي إلاّ بمخالطة العلماء والصلحاء وفضلاء رجال الدين ليعلِّموه طريق العدل، ومن أعظم خصال الوالي وأحمدها توقِّياً في نفوس الخاصّة والعامّة; إنصافه من خاصّته وحاشيته وأعوانه وتفقّدهم في كل ساعة، ومنعهم من أن يأخذوا فوق ما يستحقّونه، وفي هذا كفاية.
وليكن (المحتسب) في وعظه وقوله في ردعهم عن الظلم لطيفاً ظريفاً، ليِّن القول بشوشاً، غير جبّار ولا عبوس، قال الله سبحانه: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}.
وفي الحديث عن النبيّ “ص” أنه قال: «من ولي من أمور أمّتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شقّ عليهم فاشقق عليه» فقد سبقت دعوته “ص” وفي ذلك كفاية لمن يتدبَّر)[13].
ويحدّثنا المؤرخّون عن نماذج كثيرة من رقابة العلماء والصالحين للحكّام في تأريخ الإسلام وتنبيههم إلى أخطائهم وتوبيخهم عليها، ونصحهم لهم، وشدَّتهم في مخاطبتهم، ورووا في ذلك قصصاً كثيرة جمع طرفاً منها ابن عبد ربّه في العقد الفريد وابن قتيبة في عيون الأخبار وغيرهما من المؤلّفين.
وهذه السيرة في الجهاز الرسمي للدولة وللصلحاء وللعلماء في أوساط العامّة يدعمها الناس ويقفون معها كلّما أنكر عالم منهم على حاكم سلوكه وتصرّفاته…
أقول إنّ هذه السيرة القائمة على أصول شرعيّة في الإسلام تمكّن الصالحين في الأمّة من الرقابة على أجهزة الدولة ومقاومة الظلم والعدوان من قبل المسؤولين في أجهزة الحكم، وتمكنهم من أن يضعوا حدّاً لطيش الحكّام وتصرّفاتهم… هذا في الحكومات الظالمة، وكذلك الأمر في الحكومة القائمة على أسس الحق، فلا يخلو الحاكم العادل من الخطأ، ولا يخلو جهاز الدولة من منفّذين يتجاوزون حدود الله وحقوق الناس، ويتعاملون مع الناس على غير الأسس التي يريدها الله تعالى… وهذه حالة لا تخلو منها دولة، وقد جعل الإسلام من الأمّة رقيباً على الدولة في حصر هذه الحالات والسيطرة عليها والدفاع عن أمن الأمّة وسلامها وسلامتها، وذلك ضمن تطبيقات فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق هذه الفريضة الشرعيّة على النظام الاجتماعي الواسع وعن وعي وبصيرة، يشكّل قوّة فاعلة للرأي العام في الساحة السياسيّة تتابع الأحداث السياسيّة والاقتصاديّة والإداريّة بوعي وبصيرة وتمنع من حدوث أيّة مخالفة في مرافق الدولة المختلفة، وإلى هذا المعنى تشير الرواية المعروفة الواردة عن رسول الله “ص”: «كلكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته».
وهذه الرعاية الواسعة لشؤون الدولة تضغط الممارسات الخاطئة والانحرافات والمخالفات إلى أقل الحدود الممكنة، وتشعر الفرد والمجتمع بالأمن والسلام من ناحية الولاة والحكّام والمسؤولين في الدولة الإسلامية، وتُشعر الحكّام والولاة بوجود رقابة اجتماعيّة واسعة ومشددة عليهم.
هذا كله من ناحية طرح العلاقة بين الامة والدولة في مرحلتي القرار والتنفيذ لسلامة القرار وسلامة التنفيذ وتأمين الأمن والسلام للفرد والمجتمع في الدولة الإسلامية من ناحية المشاكل الناجمة من قبل القرار والتنفيذ.
يبقى أن نعرف بعد ذلك أن طبيعة العلاقة القائمة بين الدولة الإسلامية والمجتمع; تعتمد الرفق والإحسان والاحترام وإيثار الأكثرية المستضعفة على الأقليّة المترفة، وصيانة وحراسة حقوق المجتمع وأمنه وسلامته.
وبين أيدينا الآن نصوص كثيرة بهذا الصدد نختار منها بعض الفقرات للدلالة على طبيعة الصلة بين الدولة الإسلامية والرعايا.
رفع الحجاب بين الحاكم والرعيّة
- عن الإمام الصادق “ع” أنه قال: «من تولّى أمراً من أمور الناس فعدل، وفتح بابه، ورفع ستره، ونظر في أمور الناس كان حقّاً على الله أن يؤمن روعته يوم القيامة ويدخله الجنّة»[14].
- كتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب “ع” إلى عامله على مكّة قثم بن العبّاس: «ولا يكن لك إلى الناس سفير إلاّ لسانك، ولا حاجب إلاّ وجهك، ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنها إن ذيدت عن أبوابك في أول وردها لم تحمد فيما بعدُ على قضائها»[15].
- ومن كتاب للإمام عليٍّ “ع” إلى الأشترعامله على مصر جاء فيه: «واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرِّغ لهم فيه شخصك وتجلس لهم مجلساً عامّاً فتتواضع فيه».
- ويقول الإمام “ع” أيضاً في نفس العهد: «فلا تطولنَّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق وقلّة علم بالأمور، والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه»[16].
العدل في الرعيّة
- عن أبي عبد الله “ع” قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام لعمر بن الخطّاب: ثلاث إن حفظتهنّ وعملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، وإن تركتَهنَّ لم ينفعك ما سواهن، قال: وما هنّ يا أباالحسن؟ قال: إقامة الحدود على القريب والبعيد، والحكم بكتاب الله في الرضا والسخط، والقسم بالعدل بين الأحمر والأسود، فقال له عمر: لقد أوجزت وأبلغت»[17].
التواضع للرعيّة
- جاء في كتاب أمير المؤمنين “ع” إلى الأشتر: «وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أُبهة أو مَخِيلَة فانظر إلى عِظَمِ ملك الله فوقك وقدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك فإنّ ذلك يطامن إليك من طماحك… إيّاك ومساماة الله في عظمته، والتشبّه به في جبروته، فانّ الله يذلّ كلَّ جبّار، ويهين كل مختال»[18].
- وعن أبي عبد الله “ع” أنه قال: «خرج أمير المؤمنين “ع” على أصحابه وهو راكب فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أميرالمؤمنين، ولكنّا نحب أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا، فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلّة للماشي»[19].
- وعن أبي عبد ألله “ع” أنه قال: «ترجّل دهاقين الأنبار لـه (للإمام أمير المؤمنين “ع”) واشتدوا بين يديه، فقال “ع”: ما هذا الذي صنعتموه؟ قالوا: خُلُقٌ منّا نعظّم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقّون به على أنفسكم وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وما أربح الراحة معها الأمان من النار»[20].
كسب رضا العامّة (الأكثريّة)
- وجاء في كتابه “ع” إلى الأشتر: «وليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضى الرعيّة، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة، وإنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة»[21].
الرحمة بالرعيّة
- وفي الكتاب نفسه جاء: «وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونَنَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاّك»[22].
الله، الله في الطبقة السفلى
- وفي الكتاب نفسه جاء أيضاً: «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسى والزَّمنَى فإنّ في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً، واحفظ لله ما استحفظك من حقّه فيهم»[23].
تنحية وزراء السوء وبطانة السوء
إنّ الوالي والحاكم مهما كان صالحاً فلا يستطيع أن يصنع شيئاً إذا كان وزراؤه وعمّاله الذين ينفّذون أوامره غير صالحين… وكذلك لو كانت بطانته وخاصّته بطانة سوء فلا يستطيع أن يعرف شيئاً من حاجات الناس وشؤونهم، ولا يستطيع أن يستمع إلى الناس أو يتحسَّس مشاكلهم ومعاناتهم.
- وعن وزراء السوء وبطانة السوء يقول الإمام “ع” لمالك الأشتر: «إنّ شرّ وزرائك من كان قبلك للأشرار وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكون لك بطانة… ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرِّ الحقِّ لك، والصق بأهل الورع والصدق، ثم رُضْهُمْ على أن يطروك ولا يبجحوكَ بباطل لم تفعله».
- ويقول “ع” أيضاً: «ثم إنّ للوالي خاصّة وبطانة فيهم استئثار وتطاول وقلّة إنصاف في المعاملة فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال»[24].
التساوي أمام الحكم الشرعي
- ذكر الشعبي أن عليّاً “ع” وجد درعاً لـه عند نصرانيّ فأقبل إلى شريح القاضي وجلس إلى جانبه يخاصم النصراني، وقال: إنّها درعي، ولم أبع، ولم أهب، قال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ قال النصراني: ما الدرع إلاّ درعي، وما أمير المؤمنين بكاذب، فالتفت شريح إلى عليّ يسأله: يا أميرالمؤمنين هل من بيّنة؟ فضحك عليٌّ “ع” وقال: «أصاب شريح مالي من بيّنة»، فقضى بالدرع للنصراني، فأخذها ومشى، وأمير المؤمنين ينظر إليه، إلاّ أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول: أما أنا فأشهد أنّ هذه أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه، الدرعُ والله درعك يا أميرالمؤمنين[25].
العدل في القسمة
- ذكر يحيى بن مسلم أنّ عليّاً “ع” استعمل عمرو بن مسلمة على إصبهان، فقدم ومعه مال كثير وزقاق فيها عسل وسمن، فأرسلت اُمُّ كلثوم بنت عليٍّ إلى عمرو تطلب منه سمناً وعسلا، فأرسل إليها ظرف عسل وظرف سمن، فلمّا كان الغد خرج عليٌّ وأحضر المال والسمن والعسل ليقسم، فعدَّ الزقاق فنقصت زقّين، فسأله عنهما، فكتمه، وقال: نحن نحضرهما، فعزم عليه إلاّ ذكرهما له، فأخبره، فأرسل إلى أُمِّ كلثوم فأخذ الزقَّين منها فرآهما قد نقصا، فأمر التجّار بتقويم النقص فكان ثلاثة دراهم فأرسل إليها فأخذها منها، ثم قسّم الجميع.
أقرأ ايضاً:
المصادر والمراجع
- [1] ـ الشورى: 38.
- [2] ـ آل عمران: 159.
- [3] ـ غرر الحكم للآمدي.
- [4] ـ عن مكارم الأخلاق (ص 319)، ميزان الحكمة (ج5 ص 211).
- [5] ـ غرر الحكم للآمدي.
- [6] ـ نهج البلاغة ـ الخطبة 216، والفقرة الأخيرة استثناء الحالة العصمة، فإنّ الله تعالى هو عاصم أوليائه المعصومين.
- [7] ـ نهج البلاغة ـ الحكمة رقم 321.
- [8] ـ آل عمران: 104.
- [9] ـ آل عمران: 110.
- [10] ـ النحل: 90.
- [11] ـ رواه البخاري في مواضع متعددة من كتابه: كتاب الوصايا ـ باب 9، كتاب الاستقراض ـ باب 20، كتاب العتق ـ باب 18، كتاب النكاح باب 90، كتاب الجمعة ـ باب 11، كتاب النكاح ـ باب 81، باب في الجنائز ص 32.
- ورواه أحمد بن حنبل في مسنده ج 4 ص 235.
- [12] ـ نهج البلاغة ـ كتاب رقم 53.
- [13] ـ معالم القربة في أحكام الحسبة ص 316 ـ 319 لمحمد بن محمد بن أحمد القرشي المعروف بابن الاُخوة ـ الهيئة المصريّة العامّة للكتاب.
- [14] ـ تنبيه الخواطر ص 399.
- [15] ـ نهج البلاغة ـ كتاب 67.
- [16] ـ نهج البلاغة ـ كتاب 53.
- [17] ـ بحار الأنوار ج 75 ص 349.
- [18] ـ نهج البلاغة ـ الكتاب 53.
- [19] ـ بحار الأنوار ج 41 ص 55.
- [20] ـ بحار الأنوار ج 41 ص 55. ومناقب آل أبي طالب ج 1 ص 310.
- [21] ـ نهج البلاغة ـ الكتاب 53.
- [22] ـ المصدر السابق.
- [23] ـ المصدر السابق.
- [24] ـ المصدر السابق.
- [25] ـ يذكر ابن الأثير القصّة في الكامل ج 2 ص 201 ـ 202.