الفحص عن المعارض وجريان الاستصحاب
المقدمة: لا إشكال في أنّ الحجية الفعلية تتوقف على إثبات المقتضي وارتفاع المانع، وفي مرحلة المقتضي لا بدّ من تنقيح جهات ثلاث: الصدور والجهة والدلالة، فإذا تمت هذه الجهات صار الدليل له حجية اقتضائية لإثبات الحكم الشرعي، ثم تأتي المرحلة الأخرى وهي رفع المعارض حتى يصح الاستدلال بالدليل ويصل الفقيه إلى مرحلة الحجية الفعلية، وكثيراً ما يحتمل الفقيه وجود المعارض، فيقع البحث في وجوب الفحص عن المعارض وصحة التمسك بالاستصحاب لنفيه عند الشك، وقد قمت ببحث هذه الجهة لتنقيح الحال في ذلك.
والكلام يقع في عدة مطالب: المطلب الأول: الدليل على وجوب الفحص عن المعارض: استدل على وجوب الفحص عن المعارض بعدة أدلّة: الدليل الأول: وجود علم إجمالي بوجود المعارض حيث يعلم بوجود التعارض في الأدلة في الجملة، فكلّ دليل يكون طرفاً في دائرة هذا العلم الإجمالي، ومقتضى منجزية العلم الإجمالي وجوب الفحص حتى يخرج الطرف عن العلم الإجمالي المذكور.
ولكن هذا الدليل ينفع ما لم يحصل علم بانحلال العلم الإجمالي بالظفر بمقدار المعلوم بالإجمال، وحينئذٍ لا دليل على وجوب الفحص زائداً على ذلك.
الدليل الثاني: وجود منشأ عقلائي بوجود المعارض وهو العمدة وحاصله: إنّ المدرك الأساسي لحجية الظهور هي السيرة العقلائية، ومن الواضح أنّ السيرة العقلائية مخصوصة بما إذا لم يكن الدليل في معرض وجود المعارض، فإذا كان هناك منشأ عقلائي لوجود المعارض، ككثرة نقل المعارضات عن المولى، فإنّ العقلاء لا يعملون بما ينقل لهم عن المولى المذكور دون الفحص عن المعارض في مظانّه، ولا أقل أنّ دليل السيرة دليل لبّي يقتصر فيه على القدر المتيقن فلا يحرز شموله مع وجود منشأ عقلائي على المعارض.
السيرة المتشرعية حال وجود منشأ عقلائي بوجود المعارض وأمّا السيرة المتشرعية، فهي وإنْ كانت على العمل بالعمومات الصادرة من الشارع إلا أنّه لم يُعلم قيامها على العمل بالدليل قبل الفحص عن المعارض إذا وجد منشأ عقلائي للمعارض إنْ لم يدّع الجزم بعدم العمل بها كذلك، فالقدر المتيقن منها هو العمل بعد الفحص وعدم الظفر بالمخصص، نعم الشخص المخاطب بالعامّ في مجلس الإمام (ع) كان العام حجة له على كلّ حال لكونه وظيفته الفعلية ولو لمصلحة ثانوية، وبما أنّ السيرة دليل لبّي فيقتصر فيه على القدر المتيقن وهو ما ذكرناه.
وإن شئت قلت: إنّ ملاك الحجية العقلائية ينثلم بمعرضية الدليل لورود المعارض بمستوى معتد به لحصول وهن وضعف في درجة الكاشفية في أمثال ذلك.
نعم هذا البيان ينتج عدم الحجية قبل الفحص فقط بحيث يعود ملاك الحجية العقلائية بعد أنْ فحص ولم يجد معارضاً، لا أنَّ المعرضية توجب ارتفاع الملاك رأساً بحيث لا يبقى حجة عند العقلاء حتى بعد أنْ يفحص ولم يجد معارضاً.
النتيجة إنَّ السيرة العقلائية لا تقتضي أكثر من حجية الدليل بعد الفحص إذا كان المعارض له منشأ معتد به، كما في كلام الشارع لنقل المعارضات بنحو معتدّ به، ومعرضيتها لذلك تمنع عقلائياً عن الحجية من دون فحص وبحث عن مظانّ وجود المعارض، نعم بعد الفحص والظفر بالمعارض يبني العقلاء على الحجية.
دفع دخل ثم إنّه ربما يقال[1]: إنّ مراجعة وضع أصحاب الأئمة ورواة الأحاديث تدلنا على أنّهم لم يكونوا في مقام الفحص عن الأدلة والمخصصات المنفصلة والمعارضات والتي يحتمل صدورها في عرض ما ينقلونه في أصولهم إلى الآخرين، أي أنّ زرارة مثلاً لم يكن يفحص عن وجود معارض فيما نقله محمد بن مسلم مثلاً، نعم طولياً وبلحاظ من تأخر عنهم كالفضل بن شاذان ربما كان يفحص عمّا ينقله محمد بن مسلم من المخصصات والقرائن ولم يكن يقتصر على نقل ما في أصل زرارة فقط.
إلا أنّ الفحص والبحث فيما بين الرّواة المباشرين والذين هم في عرض واحد لم يكن موجوداً، وإلا لانعكس ذلك وألفت الأنظار ولاستوجب نشوء حركة الاستنساخ والتبادل والتباحث فيما بينهم، وهذا مما يقطع بعدمه عادة مما يكشف عن عدم وجوب الفحص عليهم على الأقل، فربما يجعل ذلك دليلاً على عدم وجوب الفحص حتى مع المعرضية للتخصيص على الأقل بالنسبة إلى الذين كانوا مشافهين بالعمومات أو كانت الخطابات قطعية الصدور في حقهم.
إلا أنّ هذه الظاهرة لا يمكن الاستفادة منها في المقام شيئاً؛ لأنّها تحتمل وجوهاً مختلفة بحيث لا يمكن أَنْ يستفاد منها مطلب محدد، فإنّه يمكن أنْ تفسّر على تفسيرين: التفسير الأول: على أساس عدم وضوح المعرضية للتخصيص والمعارض في حقهم، إمّا لثبوت جملة من المخصصات ومعلوميتها لديهم ولو بملاحظة مجموع ما هو مسجل أو معلوم ولو ارتكازاً عند كلّ واحد منهم وإنّما هذه المعرضية ثابتة في حقنا نحن اليوم نتيجة التقطيع والضياع في كثير من تلك الأصول، وإمّا لعدم وضوح ثبوت هذه المرتبة من كثرة المخصصات عندهم بعدُ وإنّما اتضحت ذلك بعد تجميع تلك الروايات.
التفسير الثاني: تفسر على أساس احتمال وجود ظروف حرجة وصعبة ولو من ناحية التقية كانت تمنعهم من التعرّض والبحث والفحص عن المخصصات فيما بينهم إذ قد يستكشف من ذلك حركة علمية تلفت الأنظار وتجلب الخطر عليهم أو تفسر على أساس احتمال ثبوت الحكم الواصل إليهم عبر الدليل في حقهم ولو كحكم ظاهري ولظروف التقية وإنْ كان الحكم الواقعي مخصصاً، فإنّ مصلحة الظاهر ربما تكون ثابتة حتى في الإظهار والإفتاء لا العمل فحسب كما يؤيد ذلك روايات الأخذ بالأحاديث على ما فصل في تعارض الأدلة.
وعلى كلّ حال، مقتضى هذا الوجه هو لابدية الفحص عن المعارض في المظان وإنْ لم يوجد لنا علم إجمالي منجّز لانحلاله -كما ذكرنا ولكن يكتفى في الفحص بمقدار تنتفي به معرضية الدليل لوجود المعارض فلا يجب استيعاب البحث بمقدار زائد عن المتعارف.
ولا فرق في وجوب الفحص بين كون المورد من الشبهات الحكمية أو الأمور الحدسية كقول الخبير إذا وُجد منشأ عقلائي للمعارض، فإنّ عمدة الدليل على حجية الأمارة في الأول وقول الخبير في الثاني السيرة العقلائية، وهي منعقدة على العمل بعد الفحص إذا فرض وجود المعرضية لخلاف الأمارة وقول الخبير.
المطلب الثاني: وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية المشهور بين الأعلام عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية وقد ذكر السيد الخوئي في هذا المجال -عند بحثه عن عدم وجوب الفحص عن المعارض عند الشك في الفتوى- الوجه في ذلك، فأفاد [2] أنّ التمسك بالمطلقات يشترط فيها الفحص عن المقيد والمعارض والجامع مطلق ما ينافي إطلاق الدليل ولا يجوز التمسك بها من دون فحص، وحيث إنّ فتوى الأعلم يحتمل أنّ تكون مخالفة لفتوى غير الأعلم فلا مناص من أنْ يفحص ليظهر أنّهما متخالفتان حتى لا تشملهما المطلقات أو أنّهما متوافقتان فعلى الأوّل لا يجوز الرجوع إلى غير الأعلم وعلى الثاني يجوز.
ثم دفع ذلك: بأنّ التمسك بالإطلاق وإنْ كان يعتبر فيه الفحص عن مقيداته ومعارضاته بل عن مطلق ما ينافي الدليل بحكومة ونحوها، إلا أنّه خاص بالشبهات الحكمية، فلا يسوغ التمسك بعموم الدليل قبل الفحص عن مخصصة، ولا يعتبر ذلك في الشبهات الموضوعية بوجه، مثلاً إذا قامت بيّنة على ملكية دار لزيد لم يعتبر في حجيتها الفحص عمّا يعارضها من البينات ولو مع العلم بوجود عدول يحتمل شهادتهم بأنّ الدار ليست لزيد.
ومقامنا هذا من هذا القبيل، لأنّه من الشبهات الموضوعية لأنّ مفروض الكلام العلم بعدم اعتبار فتوى غير الأعلم في فرض المخالفة وإنّما نشك في أنّهما متخالفان أو متوافقان فالشبهة موضوعية.
الدليل على عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية الدليل الأول: الوجه في عدم وجوب الفحص في الشبهات الموضوعية هو أنّ ما يقتضي لزوم الفحص في الشبهات الحكمية عن المنافيات أحد أمرين على سبيل منع الخلو: أحدهما: إنّ ديدن الأئمة^ جرى على التدرج في بيان الأحكام الشرعية وما اعتبر فيها من القيود والشروط، ولم يبيّنوها بقيودها وخصوصياتها في مجلس واحد مراعاة للتقية ومحافظة على أنفسهم وتابعيهم عن القتل أو غيره من الأذى أو لغير ذلك من المصالح، ومن هنا ترى أنّ العام يصدر من إمام والمخصص من إمام آخر، أو أنّ حكماً يصدر من أحدهم^ فيصدر منه نفسه أو من إمام آخر خلافه، ومع العلم بحال المتكلّم وديدنه لا تجري في كلامه أصالة عدم القرينة قبل الفحص، أو أنّها لو جرت وانعقد لكلامه ظهور في نفسه لم تجر فيه أصالة حجية الظهور الّتي هي أصل عقلائي لاختصاصها بما إذا لم تجر عادة المتكلم على التدرج في بيان مراداته ومقاصده، ومع عدم جريانها لا يعتمد على ظواهر كلامه لعدم حجيتها حينئذٍ.
ثانيهما: العلم الإجمالي بأنّ العمومات والمطلقات الواردتين في الكتاب والسنّة قد ورد عليهما مقيدات ومخصصات كثيرة، حتى ادُّعي أنّ الكتاب لا يوجد فيه عام لم يرد عليه تخصيص، فلأجل ذلك وجب الفحص عن المنافيات حتى يخرج المورد عن الطرفية للعلم الإجمالي بالتخصيص والتقييد.
وهذان الوجهان كما ترى لا يأتي شيء منهما في المقام: أما مسألة جريان عادة المتكلم على عدم بيان القيود والخصوصيات الدخيلة في حكمه في مجلس واحد فلأجل أنّه لا موضوع لها في المقام، حيث إنّ فتوى أحد المجتهدين ليست مبيّنة ومقيدة أو حاكمة على فتوى المجتهد الآخر بل فتوى كلّ منهما تصدر عن اجتهاده ونظره ولا ربط لإحداهما بالأُخرى بوجه.
وأما العلم الإجمالي بالتقييد، فلأنّه ليس هناك أيّ علم إجمالي بالمخالفة في الفتوى بين المجتهدين لاحتمال موافقتهما بل قد يقطع بها كما في أكثر العوام لاعتقادهم أنّ الشريعة واحدة فلا اختلاف في أحكامها وفتاوى المجتهدين، أو لو فرضنا أنّ الخواص قد علموا بينهما بالمخالفة ولو على سبيل الإجمال وفي بعض الموارد، فليس لهم علم بالمخالفة في المسائل الّتي هي مورد الابتلاء، والمراد بالمخالفة ما قدّمناه وهو أنْ يكون فتواهما متنافيتين مع كون فتوى غير الأعلم مخالفة للاحتياط وهي مما لا علم به ولو إجمالاً ومع عدم جريان شيء من الوجهين في المقام لا مقتضي لوجوب الفحص.
الدليل الثاني: يمكن أنْ يضاف لما ذكره أنّ ما دل على تنقيح حال الشبهات الموضوعية دليله عام بل بعضها صريح في ذلك، فقدت وجدت روايات خاصة في بعض الأبواب الفقهية تصرّح بعدم وجوب الفحص في شبهات موضوعية حتى بالمقدار اليسير.
منها: صحيحة زرارة الثانية في الاستصحاب التي ورد فيها >فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أنْ انظر فيه؟ قال: لا ولكنّك إنّما تريد أنْ تذهب الشك الّذي وقع في نفسك<[3]، فإنّها تدلّ على جواز غمض العين وعدم لزوم الفحص حتى بهذا المقدار. ومنها: ما ورد أيضاً في باب الطهارة والنجاسة عن أمير المؤمنين (ع) يقول: >ما أبالي أَ بول أصابني أم ماء إذا لا أعلم<[4]، وهو واضح أيضاً في عدم لزوم التصدّي والفحص عن النجاسة المحتملة حتى بهذا المقدار.
ومنها: روايات عديدة واردة في موارد الشك في تذكية ما يؤخذ من سوق المسلمين أو كونها ميتة أو فيه الميتة، وهي تصرّح بعدم لزوم الفحص والسؤال وإنّه ليس عليكم المسألة، كصحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: “سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية، أيصلّي فيها؟ فقال: >نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أبا جعفر (ع) كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدين أوسع من ذلك<” وفي صحيحته الأُخرى عن الرضا (ع) قال: “سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف، لا يدري أذكي هو أم لا، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا يدري أيصلّي فيه؟ قال: >نعم، أنا اشتري الخف من السوق ويصنع لي وأُصلّي فيه وليس عليكم المسألة<[5]، وهي أيضاً واضحة في الدلالة على نفي لزوم أصل التصدّي والفحص.
ولكن، كلّ ما ذكر لا يتم في الشبهات الموضوعية التي يراد تنقيح حالها بأمارة عقلائية كخبر الثقة في الموضوعات -بناء على حجيته بالسيرة العقلائية- أو إثبات الملكية بقاعدة اليد، فإذا فرض وجود منشأ عقلائي على وجود المعارض فلا يحرز شمول دليل السيرة لذلك -كما تقدم.
المطلب الثالث: جريان استصحاب عدم المعارض بعد الفحص والشك في وجوده وبيان الحال في هذا المطلب في عدة نقاط: النقطة الأولى: الظاهر أنّ حجية الأمارة كخبر الثقة منوطة بكونها في معرض الوصول ولا تتوقف الحجية على الوصول الفعلي، والوجه في ذلك: أنّ العقل وكذا العقلاء يرون أنّ وظيفة المولى جعل الأمارة في معرض الوصول، فليست وظيفة المولى أنْ يوصل الحكم لكلّ مكلّف بل اللازم جعله في معرض الوصول إلى المكلفين وهو أعمّ من فرض الوصول إليه فعلاً، واحتفاف أدلّة البراءة بذلك مانع من انعقاد الإطلاق لمورد كون التكليف في معرض الوصول وهذا يوجب قصور أدلة البراءة عن الشمول لما قبل الفحص.
النقطة الثانية: ذهب المشهور إلى أنّ حجية الأمارة منوطة بعدم قيام الحجة على المعارض والمنافي، وعليه لو قامت بيّنة أو فحص المكلّف بالمقدار المتعارف ولم يجد المعارض كفى ذلك في تنقيح موضوع الحجية وإنْ احتمل واقعاً وجود المعارض، إذ العقلاء يرون أنّ الفحص المذكور حجة في إثبات عدم المعارض، وبالتالي لا يتوقف إحراز موضوع الحجية على نفي المعارض واقعاً بالاستصحاب.
وفي مقابل ذلك ذهب السيد الشهيد إلى أنّه لا بد من إجراء الاستصحاب إذا احتمل وجود المعارض واقعاً ولا يكفي مجرّد الفحص في المظانّ، فحجية الأمارة منوطة بعدم المعارض واقعاً لا مجرّد قيام الحجة على عدم المعارض كما ذكر المشهور- ومنشأ الخلاف بينه وبين المشهور يرجع إلى تحليل حقيقة الحكم الظاهري وكون التنافي بينها واقعي كالأحكام الواقعية وبيان ذلك: هناك مسلكان في مرحلة التنافي بين الأحكام الظاهرية: المسلك الأول: التنافي في مرحلة الوصول وهو مسلك المشهور من الأصوليين، وبيانه: إنّ الحكم الظاهري متقوّم بالوصول أو معرضية الوصول، لأنّ الحكم الظاهري حكمٌ طريقي محض، والحكم الطريقي هو الحكم المنجز للواقع إنْ أصاب والمعذّر من الواقع إنْ أخطأ، وبما أنّ الحكم الظاهري حقيقته المنجزية والمعذرية وهما منوطان بالوصول، فمع عدم الوصول فلا يوجد حكمٌ ظاهري، وبناءً على هذا المسلك لا تتنافى الأحكام الظاهرية قبل الوصول لأنّها ليست أحكاماً ظاهرية حتى تتنافى، فلو فرضنا أنّ الشارع جعل أصالة الحلّ وفي نفس الوقت جعل وجوب الاحتياط في اللحوم، فلا تنافي بين هذين الجعلين ما لم يصلا؛ لأنّهما ما لم يصلا ليسا حكمين ظاهريين كي يقع التنافي بينهما، فإذا وصل أحدهما وهو دليل البراءة مثلاً وقال: إذا شككتم في أيّ شبهة حكمية فلكم إجراء البراءة، ونحن شككنا في حلّية لحم الأرنب، فنجري البراءة، وأما وجوب الاحتياط في اللحوم فحيث لم يصلنا -وإنْ جعله الشارع واقعاً فلا أثر له، ولا نحتاج أصلاً إلى إجراء البراءة عن وجوب الاحتياط، لأنّه لا يكون حكماً في حقنا حتى يصل.
المسلك الثاني: التنافي بين الأحكام الظاهرية في مرحلة الواقع وقبل الوصول ذهب السيد الشهيد [6] إلى هذا المسلك خلافاً للمشهور، وبيانه: إنّ الأحكام الظاهرية متنافية ثبوتاً وواقعاً مثل الأحكام الواقعية تماماً، فكما أنّه لا يعقل أنْ يجعل الشارع وجوب صلاة الجمعة واقعاً وحرمة صلاة الجمعة واقعاً، لأنّ الأحكام الواقعية متنافية ثبوتاً وإنْ لم تصل، كذلك لا يعقل جعل الأحكام الظاهرية متنافية وإن لم تصل، والسرّ في ذلك: إنّ حقيقة الحكم الظاهري ليس هو البراءة أو وجوب الاحتياط، بل حقيقة الحكم الظاهري عبارة عن الاهتمام بحفظ الغرض الأهم، فمثلاً: إذا كان في هذه الدار فردان من اللحم أحدهما مذكّى والآخر ميتة، واشتبه علينا المذكى بالميتة، فالشارع في هذا الفرض إما أنْ يهتم بحفظ الغرض اللزومي وهو مفسدة الميتة، وإما أنْ يهتم بحفظ الغرض الترخيصي وهو المصلحة الموجودة في اللحم المذكّى، فهذا الاهتمام الواقعي مع غض النظر عن الوصول هو الحكم الواقعي، فاهتمامه بحفظ الغرض اللزومي وهو تحاشي مفسدة الميتة بجعل وجوب الاحتياط في المقام هو الحكم الظاهري وصل أو لم يصل، فإنّ حقيقة الحكم الظاهري هي عبارة عن الاهتمام بحفظ الغرض اللزومي، وإنْ صدر منه اهتمام بحفظ الغرض الترخيصي وهو المصلحة الموجودة باللحم المذكى بجعل أصالة الحل، فهذا هو الحكم الظاهري الترخيصي وإنْ لم يصل، ولا يمكن أنْ يجعلهما معاً واقعاً، مع غض النظر عن الوصول؛ لأنّهما متنافيان إذ لا يعقل الجمع بين اهتمامه في هذا الفرض بحفظ الغرض الترخيصي وبين اهتمامه بحفظ الغرض اللزومي، فهما متنافيان.
إذاً لا محالة أحدهما مقيد للآخر؛ لا أنّهما في عرض واحدٍ، فبناءً على مسلك السيد الشهيد من أنّ الحكم الظاهري غير متقوّم بالوصول، يقع التنافي بين الأحكام الظاهرية وإنْ لم تصل، فلا بد من جعل أحدهما مقيداً للآخر.
قال : “بناءً على مسالك القوم من افتراض المصلحة في نفس جعل الأحكام الظاهرية لا تنافي بينهما بوجوديهما الواقعيين وإنما التنافي بمقدار وجوديهما الواصلين إلى المكلف حيث يتنافيان من حيث التنجيز والتعذير وأما بلحاظ المبادئ فلا تنافي لتعدد الجعلين واقعاً وتعدد موضوع المصلحة فمن يذهب إلى أحد مسالك القوم لا بدَّ له من الالتزام بعدم التنافي بين جعل الأحكام الظاهرية العرضية بوجوداتها الواقعية لعدم التضاد فيما بينهما إِلا في مرحلة الوصول فالمحذور بهذا المقدار لا أكثر.
وأما على مسلكنا من أنّ الحكم الظاهري ناشئ عن مبادئ حقيقية وهي نفس المبادئ الواقعية ومقدار اهتمام المولى بها في مقام التزاحم الحفظي فحينئذٍ لا يعقل جعل حكمين ظاهرين متعاكسين حتى واقعاً ولو لم يصل إلى المكلف لأنَّ جعل الإلزامي منهما معناه اهتمام المولى بملاكاته الإلزامية الواقعية وجعل الترخيصي منهما معناه عدم اهتمامه بها بل ترجيحه لملاكاته الواقعية الترخيصية، والاهتمام مع اللا اهتمام بأمر واحد متنافيان لا محالة.
فعلى أساس تصوراتنا في حقيقة الحكم الظاهري يكون التنافي بين حكمين ظاهريين عرضيين ثابتاً واقعاً كالتنافي بين حكمين واقعيين كذلك، وهذا أحد الفوارق والثمرات المترتبة بين المسلكين”[7].
وبناء على هذا المسلك هناك ثلاثة حالات للشك[8]: الحالة الأولى: أنْ نشك في الكبرى، بمعنى أننا نشك أساساً هل الشارع جعل أمارة دالة على الإلزام أم لا؟ فهذا شكٌ في تخصيص دليل البراءة >رفع عن أمتي ما لا يعلمون<، والشك في التخصيص مجرىً لأصالة العموم.
وبعبارة أخرى: يوجد عندنا دليل مطلق وهو دليل البراءة >رفع عن أمتي ما لا يعلمون< وهذا الدليل قد وصل إلينا، ولكن لا ندري أنّ هذا المطلق هل قُيّد واقعاً بجعل حجيةٍ لأمارة دالة على الإلزام أم لا؟ ومقتضى أصالة العموم عند الشك في التخصيص هو عدم المخصص، فنتمسك بدليل البراءة لإثبات عدم حجية خبر الثقة الدال على الإلزام في اللحوم، وإذا تمسكّنا بعموم الدليل فلا نحتاج إلى أنْ نجري البراءة عن الحكم الظاهري وهو وجوب الاحتياط لوجود دليلٍ لفظي وهو أصالة العموم فلا تصل النوبة إلى إجراء الأصل العملي.
الحالة الثانية: أنْ نشك في الصغرى لا في الكبرى، أيْ أننا علمنا بأنّ الشارع جعل حجية لخبر الثقة مثلاً الدال على الإلزام، فنحن نقطع بأنّ دليل البراءة مخصص بألا يكون هناك خبر ثقة دالّ على الإلزام، لكنّنا نشك في الصغرى هل أنّ هناك خبر ثقة في الواقع على الإلزام أم لا؟ فهنا لا يمكن أنْ نتمسّك بعموم دليل البراءة لأنّه تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، إذ دليل البراءة خُصص بما إذا لم يقم خبر ثقة فلا يمكن نفي ذلك بنفس العام؛ لأنّه تمسّك بالعام في الشبهة المصداقية فنضطر إلى استصحابٍ لتنقيح موضوع الدليل، فنقول: مقتضى استصحاب عدم قيام خبر ثقة دالٍ على الإلزام تنقح موضوع دليل البراءة، فيتنقح بالاستصحاب الموضوعي دليل البراءة ويثبت أنّ هذا المورد مما لم يثبت فيه خبر ثقة على الإلزام فيشمله دليل البراءة ومقتضى دليل البراءة الأمن من العقوبة.
الحالة الثالثة: وهي ما إذا لم يمكن إجراء الأصل الموضوعي عند الشك في الموضوع، كما إذا قام عندنا خبرٌ يدل على الإلزام، والمخبر بهذا الخبر مما توارد عليه حالتان: حالة الوثاقة وحالة الضعف، ولا ندري هل أنّه كان ثقة ثم ضعف أو كان ضعيفاً ثم صار ثقة؟ فاستصحاب وثاقته معارضٌ باستصحاب ضعفه، كما في سائر موارد توارد الحالتين على الموضوع فإنّ الاستصحابين يتعارضان، وبعد تعارض الاستصحابين فلا يمكن لنا تنقيح هذا الموضوع أصلاً ففي مثل هذا الفرض لا يمكن التمسك بعموم دليل البراءة، إذ ليس الشك في التخصيص حتى نتمسك بأصالة العموم؛ إذ المفروض إننا نقطع بأنّ دليل البراءة قد خُصص بحجية خبر ثقة يدل على الإلزام، كما أنّه ليس الشك في الصغرى بحيث يمكننا علاج الموضوع بالأصل، لأنّ المفروض أنّ دليل البراءة مقيدٌ ومخصص بعدم قيام خبر ثقةٍ يدل على الإلزام، والمخصص مركّب لا مقيّد بمعنى أنّه مركّب من جزأين: (عدم قيام خبر رجلٍ- وكون ذلك الرجل ثقة) والجزء الأول من هذا المخصص محرزٌ بالوجدان، لكنّ الجزء الثاني من المخصص هو المجهول لدينا وهو أنّ المخبر ثقة أم لا؟ ولا يمكن لنا تنقيحه لتعارض الاستصحابين بمقتضى توارد الحالتين فيتعارض استصحاب الوثاقة مع استصحاب عدمها.
وإنْ شئت قلت: استصحاب عدم قيام خبر ثقة، إنْ كان المراد منه استصحاب عدم قيام خبرٍ وكون ذلك المخبر ثقةً فهذا غير تام، لأنّ الجزء الأول معلوم بالوجدان فلا معنى بأنْ يُنفى بالاستصحاب، وإنْ كان المراد منه استصحاب عدم قيام خبر ثقة الذي هو الجزء الثاني من الموضوع، فالاستصحابان فيه (استصحاب وثاقته واستصحاب عدم وثاقته) متعارضان.
النتيجة: إنّ الأصل الموضوعي لا يجري في المقام وبالتالي لا يمكن العمل بعموم دليل البراءة؛ لأنّ العمل به مع عدم إمكان تنقيح الموضوع تمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
وهنا ذكر السيد الشهيد أنّه لا يمكن إجراء البراءة عن الحكم الواقعي، فتصل النوبة لإجراء البراءة عن الحكم الظاهري، وأسماها البراءة الطولية، حيث نشك حينئذٍ في هل أنّ الشارع جعل حجية على الإلزام في الواقعة أم لا؟ فنحن لا نجري البراءة عن الحكم الواقعي وإنّما نجري البراءة عن الحكم الظاهري في المورد.
وثمرة إجراء البراءة عن الحكم الظاهري التأمين عن الحكم الواقعي، لأنّ الحكم الظاهري -بنظره- هو الاهتمام الواقعي بحفظ الغرض اللزومي، فلو أنّ المولى واقعاً جعل حجة على الإلزام في الواقعة لكان للمولى اهتمامٌ بحفظ الغرض اللزومي الواقعي، فنحن بالتالي نشك في أنّ المولى اهتم بحفظ الغرض أم لم يهتم؟ فبجريان البراءة ننفي اهتمام المولى بحفظ الغرض الواقعي ومقتضى عدم اهتمام المولى نفسه بحفظ الغرض الواقعي هو الأمن من العقوبة في اقتحام الواقعة.
وبالنتيجة: بناء على مسلك السيد الشهيد في حقيقة الحكم الظاهري يكون موضوع الحجية مقيد واقعاً بعدم دليل على الخلاف ولا بدّ من نفي المعارض والمخالف عند احتمال وجوده ولو بجريان الاستصحاب بلحاظ الحكم الظاهري وإلا كان تمسكاً بالدليل في الشبهة المصداقية.
هذا تمام الكلام في توضيح الحال في المسألة واتضح أنّ الخلاف ناشئ من الاختلاف في تنقيح حال الحكم الظاهري.
المصادر والمراجع
- [1] بحوث في علم الأصول، ج3، ص365.
- [2] موسوعة الإمام الخوئي، ج1، ص132.
- [3] الوسائل، ج3، ص466، باب 37 من أبواب النجاسات، ح1.
- [4] المصدر السابق، ح4 و5.
- [5] الوسائل، ج3، ص490، باب 50 من أبواب النجاسات ح 2 و3.
- [6] بحوث في علم الأصول،ج4، ص222-225.
- [7] بحوث في علم الأصول، ج4، ص223.
- [8] استفدت بعض المطالب المذكورة من سيدنا الأستاذ العلامة السيد منير الخباز