العزة من منظور القرآن الكريم القسم الثاني
هذا هو القسم الثاني من البحث وفيه بقية المحاور، وهي وسائل العزّة للمجتمع، موانع العزّة للأفراد والمجتمع، والآثار للعزّة على صعيد الدنيا والآخرة.
المحور الثاني: وسائل وأسباب العزَّة للمجتمع في هذا البحث تم استقصاء مجموعة من الآيات واستفيد من مضمونها أسباب العزّة على مستوى المجتمع، وتحديد كونها خطاباً للجميع جاء من ألفاظ الآية أو من سياقها.
1ـ الاجتماع على الحق وترك الاختلاف أـ قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[1].
ورد في حديثٍ[2] عن الرسول الأعظم| أنَّ للمؤمن على المؤمن ثلاثين حقاً، ومنها: (الإعانة على أخذ الحقّ)، وهذا الحقّ لا يدَعْ المؤمن في يد الظَّالم والظلامات، وعلى أساس ذلك يجب على المؤمن أن ينتشل أخيه المؤمن من مواضع الضَّعف والانكسار، وبالتَّالي الاهتمام بحقِّ الإعانة يعزِّز قوّة الأخ ويذبّ فيه الغلبَة والمنعَة على كلِّ شدَّة ونكسَة، فلا بدَّ من الحرص على عزَّة المؤمن حتى يحصل الاجتماع المُعزّ للأخوَّة، ويُنبذ أي نوعٍ من أنواع الاختلاف والخصومات.
وقال العلّامة الطباطبائي: “قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} جعل تشريعي لنسبة الإخوّة بين المؤمنين لها آثار شرعيَّة وحقوق مجعولة”[3].
أـ قال تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ}[4]. أن يجد المؤمن العون من أخيه وبالعكس فهذا تعاون، والمطلوب أن يكون التعاون على الأمور الخيّرة والأمور المحصِّلة على التقوى، والاتّقاء يُقصد منه أن يتّقي المنهيَّات ويأتـمر بالمأمورات، ومن أعظم الأوامر هو أن تكون قوَّة ورفعة المؤمن في حفظٍ من العدو والشَّيطان، ومن أكبر النواهي هو أن لا يَجد المؤمن من أخيه الإضرار والتَّضعيف والخذلان، وما ذلك كلّه إلا صوناً للعزَّة المختصَّة للمؤمنين.
وقد لوحظ أن صيغة تعاون كصيغة (تفاعل) الدالَّة على صدور الفعل من طرفَين فأكثر، فبتكاتف الأيادي على الدِّفاع عن القوَّة والعزَّة ينتج جماعة تتحلَّى بتلك الصفتَين، ويَخلق مجتمعاً لا يُغلب ولا يُقهر.
ومن تفسير الآية: “وهو العمل بما أمرهم الله تعالى به واتّقاء ما نهاهم عنه”[5].
ب ـ قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَميعاً وَ لا تَفَرَّقُوا}[6].
حبل الله فُسّرت بتفاسير شتى، ومنها أنّ المقصود من ذلك هو (دين الإسلام)، ولكن بأيّ تفسير كانت نقول: إنَّ في الآية أمرٌ ونهي، الأمر بالاعتصام والنهي عن التَّفرُّق، ولعلَّ الأمر يكفي في الوصول لمقصد الآية وهو (الوحدة والاتحاد)، ولكن جاء نهي بعدم التفرُّق ليزيد الأمر رسوخاً وثباتاً ومطلوبيّة، ومثال على ذلك من حياتنا، الأب يقول لابنه: أقم الصلاة ولا تتركها، فهنا أمر ونهي، وعلى هذا لا ينكر عاقل أن في الاتحاد قوَّة -نلاحظ ضمير الجمع في الآية- وفي التفرُّق ضعف.
وإذا تصوَّرنا أنَّ مـجموعةً من المؤمنين يعتصمون ببعضهم البعض، وكلٌّ لديه إيـمان وتقوى، ومعارف واعتقادات حقَّة، وعمل وسلوك، فماذا سيحصل؟ سنرى الواحد منهم يُكمّل إيـمان الآخر، وعقيدة الأول تثبِّت عقيدة الثاني وهكذا، فالنتيجة تكامل يؤدِّي إلى نشوء القوَّة والعزَّة لديهم جميعاً وهو المطلوب.
2ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أـ قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزيزٌ حَكيمٌ}[7].
تذكر هذه الآية صفات وعلامات حقيقيَّة للمؤمنين والمؤمنات، ومنها الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، وقد يُسأل ما الربط بين هذه الصفة (الأمر والنهي) و(العزَّة والقوَّة)، فنجد الجواب في وسائل الشيعة في باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر: قَالَ النَّبِيُّ |: >إِنَّ اللهَ§ لَيُبْغِضُ الْمُؤْمِنَ الضَّعِيفَ الَّذِي لَا دِينَ لَهُ< فَقِيلَ وَ مَا الْمُؤْمِنُ الضَّعِيفُ الَّذِي لا دِينَ لَهُ قَالَ: >الَّذِي لَا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ<[8].
القوّة تلازم المؤمن لإيمانه، فالضَّعف لا مكان له عند المؤمن، ومن أبرز ما يمنح العزَّة والقوّة هو أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإحدى الثّمار المترتِّبة على ذلك هو إسكات كلّ فجوة بها مُنكَر التي قد تتسع وتسيطر على الحالة الإيـمانيَّة والدينيَّة، وتوفير كلّ أرضيَّة بها معروف على أرضها ينبت الإيـمان وتسمو الأخلاق، ولا ننسى أن امتثال هذا الواجب عبارة عن إعلاء عزَّة الله§ وهو العزيز.
فنلاحظ في التفسير: “قوله: {إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تعليل لما ذكر من الرحمة فلا مانع من رحمته لعزَّته، ولا اختلال أو وهناً وجزافاً في حكمته”[9].
“وعد اللّه للمؤمنين قطعي ويقيني لأنّ اللّه قادر وحكيم، ولا يمكن للحكيم أن يعد بدون سبب، وليس اللّه القادر بعاجز عن الوفاء بوعده حين وعد إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”[10].
3ـ القيادة الرشيدة الربانيَّة قال تعالى: {وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ َحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَليمٌ}[11].
عند تكوُّن الدولة الإسلامية أو وجود مـجتمع مؤمن مثلاً تأتي حاجة للقيادة، والقائد الناجح هو من يعمل بوظائف القيادة على أكمل وجه، وقبل ذلك توجد صفات يلزم اتصاف القائد بها، ومن ذلك الرُّشد والربانيَّة، يعني أن يكون عاقلاً ذا وعي وبصيرة، ويخاف الله§ في أقواله وأفعاله.
فالدولة الإسلامية أو المجتمع المسلم الذي به أناس مؤمنون، والمواقع الأمنيَّة والسياسيَّة، والمستوى الثقافِي والعلميّ، والجوّ الأخلاقي المحتشم وما إلى ذلك من معالِم القوَّة والعزَّة، وكلُّ هذه الأمور بحاجة لنظرةٍ عقلانيَّة ثاقِبة، ما النَّافع منها وما الـمُضرّ؟ ما الجيِّد وما السَّيء؟ فدور القائد بلحاظ منصبه العالي، يشرف ويراقب الأمور، ويشخِّص موارد الضَّعف والقوَّة، ويقدِّم الإرشادات والنَّصائح لتلافِي المشاكل، ويوجِّه الناس فيما في قبال من ينال من الدِّين والأخلاق وو…، ويعزِّز مواطن العزَّة ويكشف مواطن الذلَّة للقضاء عليها.
4ـ تنمية الفضائل ومحاربة الرذائل قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[12].
في المجتمع توجد محاسن وفضائل، قد ورثها النَّاس من الموروث الديني أو التقليدي النافع، وقد توجد رذائل وقبائح تراكمت وأصبحت عادات معاشة، وكلٌّ من الفضائل والرذائل له علاقة بنفس الإنسان، والإنسان له عقيدة وفكر، وأقوال وأفعال، وسلوك وأنـماط، وهذه القضايا لا يصحِّحها موروث فاسد، أو عادة سيئة، فقد يحسب البعض أن تطبيق قول الوالدين في كلّ أمر بشكل مطلق فضِيلة وقوَّة، ومورد تفاخر عندهم، بينما الصَّحيح هو طاعة الوالدين فيما يطابق قولهم كلام الشَّرع المقدَّس.
وبعبارة أخرى عند تنمية أمر به فضيلة أو ردّ أمر به رذيلة، يعني ذلك تشجيعاً على حياة سليمة من الأمراض الأخلاقيَّة، وتوفير بيئة صحيَّة من الشوائب والأدناس الروحيَّة، فهذه الحياة تزرع قوَّة نفسيَّة وعزَّة داخليَّة، فبها ينطلق الإنسان لبناء حياة كريـمة لائقة به.