فقه الدعاء والزيارة حوار مع سماحة الشيخ علي الصددي
بسم الله الرحمن الرحيم، قال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ}(2).
الدعاء هو الخطاب الصاعد من العبيد إلى ربّهم (عزَّ وجلَّ)، وهو من أجل العبادات وأشرفها، إذ به يتجلى الفقر والاحتياج والذل والمسكنة والانقطاع إلى المعبود الأوحد جل شأنه، وقد ورد الأمر به والتأكيد عليه في الشريعة الإسلامية، ففي الحديث المروي عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن النبي (صلّى الله عليه وآله): «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السماوات والأرض»(3)، وعن أمير المرمنين علي (عليه السلام): «أحب الأعمال إلى الله عز وجل في الأرض الدعاء، وأفضل العبادة العفاف»(4)، بل ذهب بعض الفقهاء إلى وجوب الدعاء في حالات خاصة(5).
كما أن زيارة المشاهد المشرفة والأضرحة المقدسة من أعظم الأعمال وأقرب القربات إلى الله سبحانه، فإن المعصومين (عليهم السلام) هم مظهر أسماء الله الحسنى وصفاته العليا فهم خلفاؤه في الخلق ومرآة جماله وجلاله، قال الإمام الرضا (عليه السلام): «إن لكل إمام عهدا ً في عنق أوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم وتصديقا ً بما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعائهم يوم القيامة»(6).
من هنا فإن الدعاء والزيارة بما يمثلانه من ارتباط روحي وعاطفي وسلوكي بالله سبحانه وتعالى وخلفائه الميامين يضمنان السعادة الأبدية للإنسان، وقد عبر بعض الأعاظم بأن الوصول إلى الله سبحانه يكون بجناحين الرسالة العملية ومفاتيح الجنان، في إشارة منه إلى جنبتي العمل بالأحكام الشرعية وتهذيب النفس وتطهيرها.
إلا أنه في كثير من الأحيان تواجه الداعي والزائر بعض الأسئلة التي يحتاج للإجابة عنها لكي يكون على بصيرة من أمره تجاه الموقف الشرعي المطلوب منه، من هنا كان هذا الحوار مع سماحة الأستاذ الفاضل الشيخ علي الصددي (حفظه الله) نحاول من خلاله تسليط الضوء على بعض الأسئلة المتعلقة بالدعاء والزيارة.
المحور الأول: الدعاء يمتاز المذهب الإمامي من بين المذاهب بوفرة التراث الدعائي المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهي تروي ظمأ الداعي وتشفي غليل المشتاق، ولكن سماحة الشيخ ما هو حكم الدعاء بغير المأثور، وهل يعد تشريعاً محرماً في الشريعة؟ لم يحتمل أحد حرمة الدعاء بغير المأثور، بل قد مارس بعض علمائنا صياغة أدعية وزيارات من قبل أنفسهم وأودعوها كتبهم، فمن تلكم الأدعية دعاء العديلة، فقد حكى الشيخ القمي عن أستاذه النوري (قدّس سرّهما) أن هذا الدعاء من مؤلفات بعض أهل العلم، ليس بمأثور ولا موجود في كتب حَمَلة الأحاديث ونقّادها.
نعم ظاهر بعض الروايات مرجوحيّة وضع الدعاء واختراعه، فقد روى الكليني بسنده عن عبد الرحيم القصير قال: «دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت: جعلت فداك إني اخترعت دعاء ً، قال: دعني من اختراعك…»(7).
على أن الاعتبار يرشد إلى أن خطاب الله سبحانه ومحادثته يتطلب معرفة خاصّة به وبما يناسب أن يقال له وفيه، وهذه المعرفة مما لا يتوفر على النصيب الأوفى منها غير المعصوم (عليه السلام).
ثم إنّ ملاك التشريع هو نسبة المخترَع إلى الشارع وإسناده إليه، فإن لم يتفق من المخترِع تلك النسبة والإسناد فليس تشريعاً محرماً ولا يكون القارئ له مشرّعاً إذا قرأه لا بقصد الورود عن الشارع.
في كثير من الأحيان يلجأ قرّاء الأدعية إلى إضافة بعض الجمل أو التعابير أو حتى الأبيات الحسينية إلى الدعاء المأثور متوسلين بها لاستدرار الدمعة ولبعث الخشوع في النفس، ما حكم هذا الفعل وهل يضر ذلك بالدعاء المأثور؟ هذا الصنيع وأمثاله من تكرار جملة لمرّات، أو إقحام مقطع من دعاء آخر مأثور وما شابه ذلك إذا أتي به لا بقصد الورود فلا حزازة فيه شرعاً، بل قد يزايد من حظوظ استجابة الدعاء، نعم يضر بالدعاء المأثور فيما إذا كانت الإضافة والزيادة كثيرة تخرج فقرات الدعاء المأثور عن وحدتها عرفاً، ومعه تفوت على الداعي خصوصية الدعاء المأثور.
وبعض الإضافات والإقحامات مما لا تنبغي، لكون إضافتها لغواً وزيادة في غير موضعها، ولا تصب في صالح قضاء الحاجة المرجوّة، ويعرف هذا مما قد رواه الصدوق في الإكمال بسنده عن عبد الله بن سنان قال: «قال أبو عبد الله (عليه السلام): ستصيبكم شبهة، فتبقون بلا عَلَم يرى، ولا إمام هدى، و لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: يقول: يا الله يا رحمن يا رحيم، يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك، فقلت: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبي على دينك، قال: إن الله عزّ وجلّ مقلّب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول لك: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك»(8).
عطفاً على السؤال السابق سماحة الشيخ، ما هو حكم تبديل الضمائر في الأدعية، كتبديل قوله: «اللهم ومن أرادني بسوء فأرده» بـ «ومن أرادنا..» إذا كان الدعاء جماعياً؟ مثل هذا التبديل مما يخرج به الدعاء عن كونه مأثوراً، فهو وإن توفّر على خصوصيّة التعميم وإشراك المؤمنين إلا أنه عاد فاقداً لخصوصيّة الورود، فلا ينبغي إضاعة هذه الخصوصيّة ولو بتكرار الفقرة مرّة على ما ورد، وأخرى بخصوصيّة التعميم.
نعم لا ينبغي تبديل الضمائر من الجمع إلى الإفراد حتى فيما إذا كان الداعي يدعو بمفرده، فإنه بهذا التبديل تضيع عليه خصوصية الورود بلا عائدة.
يذكر كثيراً، أنه ينبغي للمؤمن أن يتحرى مواطن استجابة الدعاء عند إرادته الدعاء بالمأثور وغيره، فما هي هذه المواطن؟ قد يراد من المواطن المواضع والأماكن التي يستجاب فيها الدعاء، فأوضحها المساجد خصوصاً المسجدين الحرام والنبوي، ومشاهد المعصومين سيما مشهد سيد الشهداء (عليه السلام)، بل قد تكون مكّة المكرمة بتمامها وكذا المدينة المنوّرة من مواطن استجابة الدعاء.
وقد يراد من المواطن ما يعمّ الأمكنة والأزمنة وما عليه الداعي من حالات، فشهر رمضان من بين شهور السنة، وليالي القدر من بين ليالي شهر رمضان، وأيام البيض من بين أيام الشهر، ويوم الجمعة وليلته من بين أيام الأسبوع، والسحر من بين آنات اليوم – أزمنة ُيرجى فيها بامتياز إجابة الدعاء.
وكون الداعي متطهِّراً من الحدث ومن الذنوب والآثام، مستقبلاً للقبلة، ساجداً، باكياً، حالات للداعي يرجى له معها إجابة دعوته.
وكذا توفّر الدعاء على الثناء على الله سبحانه والصلاة على النبي وآله ابتداءً وختماً، أمر ٌ يؤهِّل لاستجابة مثل هذا الدعاء في نفسه.
إذا دار الأمر بين سماع الدعاء وقراءته، أيهما يقدّم؟ مع ملاحظة أنه في كثير من الأحيان يكون سماع الدعاء أقوى من ناحية التأثير في روحية المستمع.
الوارد أن ندعو الله سبحانه {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(9)، ومجرد سماع الدعاء لا يعدّ دعاءً ما لم يقترن بترديد الدعاء باللسان، ففي مجالس الدعاء الجماعية التي لا تخلو أجواؤها من صعقات روحية تقفز بروح حضّارها لا ينبغي للمستمع أن يغفل عن ترديد ما يقرأه الداعي على مسامع الحاضرين ليكون بذلك داعياً، ولا مجال بعد هذا للمقايسة بين قراءة الدعاء وسماعه المحض.
نعم ورد أنّ استماع القرآن أفضل من قراءته.
جرت عادة بعض الأمهات أو الآباء بالدعاء على أولادهم عند فعلهم فعلاً لا يرتضونه، فهل لهذا الدعاء أثر من ناحية الاستجابة وعدمها، علماً أنه لا مراد جدي للأم أو الأب بحيث لو أصابه المكروه لتأذوا؟ توجد مرويات تدل على استجابة دعوة الأم وإن كانت في حال غضب بحيث لو زال الغضب لتمنّت أن لم تكن قالت ما قالت، ويمكن أن يستأنس من بعض الروايات أنه لا يلزم القصد الجدّي في الدعاء ليستجاب، ففي الرواية عن الأمير (عليه السلام) أنه قال:«إذا غلبتك عينك وأنت في الصلاة فاقطع الصلاة ونم، فإنك لا تدري لعلّك أن تدعو على نفسك»(10).
لذا ينبغي للأبوين أن لا يسترسلا في الدعاء على الولد، لئلا يقع ما لم تحمد عقباه للولد، فيدخل عليهما زيادة على أذاه لهما الأذى له، وأيضاً ينبغي للولد أن يجانب إيذاء أبويه ولو محاذرةً من دعائهما عليه، فإن دعائهما له وعليه مستجاب، وفي الرواية عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إياكم ودعوة الوالد فإنها أحدُّ من السيف»(11).
إذا التمس شخص من آخر الدعاء، أو قلّده الدعاء والزيارة، فهل يجب عليه الدعاء له من باب الأمانة؟ وهل يكون تخلفه عن ذلك خلفاً للوعد؟ التماس الدعاء من الأخ المؤمن خصوصاً للمهمّات من أمر المغفرة وحسن العاقبة سبيل لا ينبغي إهمال استطراقه لتلك المهمّات، ففي سورة يوسف: {قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ، قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}(12)، وقد روى الصدوق جازماً أنه سأل منصور بن يونس بزرج أبا عبد الله (عليه السلام): «عن الرجل يتباكى في الصلاة المفروضة حتى يبكي، فقال: قرّة عينٍ والله، وقال (عليه السلام): إذا كان ذلك فاذكرني عنده»(13).
ولكن مجرد سؤال الدعاء والتماسه لا ينتج وعداً في عهدة المسؤول، ويكون مخلفاً بوعده عند تخلّفه عن الدعاء للسائل.
نعم لا ينبغي أن يغيب عن الذهن أن التماس أخي للدعاء منّي حسن ظن منه بي، ومثل هذا الظن الحسن من المؤمن بأخيه من الوسائل المقرّبة إلى الله، وقد عهدت من أحدهم أنه يقول في دعائه: (اللهم أغفر لجميع إخواني وأخواتي من المؤمنين والمؤمنات الذين أوصوني بالدعاء، واغفر لي بحسن ظنهم بي).
ما هو حكم مسح الوجه باليدين في الصلاة بعد الفراغ من القنوت من جهة، وما هو حكم إدارة الخاتم في القنوت كذلك؟ أفتى جمع من الفقهاء كالسيد اليزدي (رحمه الله) في العروة بكراهة أن يمرّ بكفيه على وجهه وصدره عند الوضع من القنوت، وفصّل بعضهم كالسيد الخميني (قدّس سرّه) بين قنوت الفريضة وقنوت النافلة ورأى أن الكراهة مختصّة بالفريضة، وكذا الحرّ العاملي في الوسائل معنوناً الباب بباب كراهة ردّ اليدين من القنوت على الرأس والوجه في الفرائض واستحبابه في نوافل الليل والنهار، وأورد رواية وحيدة وهي مكاتبة الحميري إلى الصاحب (عجّل الله تعالى فرجه الشريف): «يسأله عن القنوت في الفريضة إذا فرغ من دعائه أن يردّ يديه على وجهه وصدره للحديث الذي روي أن الله أجلّ من أن يردّ يَدَي عبدٍ صفرا بل يملأهما من رحمته أم لا يجوز، فإن بعض أصحابنا ذكر أنه عَمَلٌ في الصلاة، فأجاب (عليه السلام): ردّ اليدين من القنوت على الرأس والوجه غير جائز في الفرائض، والذي عليه العمل فيه إذا رجع يديه في قنوت الفريضة وفرغ من الدعاء أن يرّد بطن راحتيه مع (على) صدره تلقاء ركبتيه على تمهّل ويكبر ويركع والخبر صحيح، وهو في نوافل النهار والليل دون الفرائض، والعمل به فيها أفضل»(14).
وأما أمر إدارة الخاتم في القنوت فلم أقف على ما يدلّ على ندبه فيه بالخصوص، نعم ورد ما يدلّ على ندبه في الدعاء لا في الصلاة ولا في قنوتها بالخصوص، فعن الرضا (عليه السلام) كما في عدةّ الداعي: «أن من أصبح وفي يده خاتم فصّه عقيق متختماً به في يده اليمنى، وأصبح من قبل أن يراه أحد فقلب فصّه إلى باطن كفّه وقرأ إنا أنزلناه إلى آخرها ثم يقول: “آمنت بالله وحده لا شريك له (وكفرت بالجبت والطاغوت) وآمنت بسرّ آل محمد (صلّى الله عليه وآله) وعلانيتهم (وولايتهم) وقاه الله تعالى في ذلك اليوم (من) شرِّ ما ينزل من السماء وما يعرج فيها وما يلج في الأرض وما يخرج منها وكان في حرز الله وحرز رسوله (صلّى الله عليه وآله) حتى يمسي»(15).
وأما ما دلّ على مرجوحية تحويل الخاتم ليذكر الحاجة فهو أجنبي عمّا نحن بصدده، إذ المراد منه تحويل الخاتم من إصبع إلى آخر أو من كون فصّه إلى ظاهر الكف إلى باطنه ليذكر الحاجة ولا ينساها وأنه من الشرك الخفيّ، لما فيه من عدم التوكّل على الله سبحانه في أمر الذكر وعدم النسيان، ولا علاقة لذلك بالصلاة أو قنوتها.
ما هي الأدعية المأثور قراءتها أثناء القنوت والسجدة الأخيرة من الصلاة؟ أفضل ما يقنت به -على ما ذكره في العروة- كلمات الفرج، وهي «لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله العلي العظيم، سبحان الله ربّ السماوات السبع ورب الأرضين السبع، وما فيهن وما بينهن وربّ العرش العظيم والحمد لله رب العالمين»(16)، وذكر السيد المرعشي النجفي (قدّس سرّه) أنّه رأى في بعض الإجازات التأكيد على المداومة على هذا الدعاء الجامع الموجب لقضاء الحوائج في القنوتات وهو «سبحان من دانت له السماوات والأرض بالعبودية، سبحان من تفرّد بالوحدانية، اللهم صلّ على محمد وآل محمد وعجّل فرجهم، اللهم اغفر لي ولجميع المؤمنين والمؤمنات، واقض حوائجي وحوائجهم بحقّ حبيبك محمّد وآله الطاهرين، صلّى الله عليه وآله أجمعين»، وأضاف (رحمه الله) بأن من الأدعية التي أكّد أرباب كتب السنن على قراءتها في القنوت ما رواه السيد ابن طاووس بطرقه أن سيدتنا الزهراء البتول (روحي لها الفداء) كانت تدعو في القنوت بهذا الدعاء وهو «اللهمَّ إني أسألك بحقّ فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسرّ المستودع فيها أن تصلّي على محمّد وآل محمّد وأن تفعل بي ما أنت أهله ولا تفعل بي ما أنا أهله برحمتك يا أرحم الراحمين».
وأضاف ابن طاووس (رحمه الله) إنّ هذا دعاء الملائكة في قنوتاتهم(17).
ثم إنه لم تؤثر أدعية للسجدة الأخيرة بالخصوص في حدود اطلاعي، إلا أن جملة من العلماء دأبوا على الدعاء في السجدة الأخيرة بمهمّات الدعوات نحو «اللهمَّ اجعل عاقبة أمري خيرا»، و«اللهمَّ قني شحّ نفسي»، و«اللهمَّ تب عليّ حتى أتوب واعصمني حتى لا أعود»، و«اللهمَّ تب عليّ حتى لا أعصيك واختم لي بخير حتى لا تضرّني الذنوب»، و«اللهمَّ إني أسألك العافية والشكر على العافية»، و«اللهمَّ إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب»، و«اللهمَّ أعنِّي على نفسي بما تعين به الصالحين على أنفسهم»، و«اللهمَّ فرّغني لما خلقتني له، ولا تشغلني بما تكفّلت لي به»، و«اللهمَّ إني أسألك خشوع الإيمان قبل خشوع الذلّ في النار»، و«اللهم لا تكلّني إلى نفسي طرفة عين أبدا، ولا أقلَّ من ذلك ولا أكثر»، إلى غير ذلك مما يهمّ المؤمن.
نعم ندبتنا بعض الروايات إلى أدعية في سجود الصلاة بصورة عامة، كما في معتبرة الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال:«إذا سجدت فكبّر وقل “اللهمّ لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكّلت وأنت ربي سجد وجهي للّذي خلقه وشقّ سمعه وبصره الحمد لله ربّ العالمين تبارك اللَّه أحسن الخالقين” ثم قل “سبحان ربي الأعلى: ثلاث مرات فإذا رفعت رأسك فقل بين السجدتين “اللهم ّاغفر لي وارحمني وأجرني وادفع عنّي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير تبارك اللَّه رب العالمين»(18).
وكما في معتبرة زيد الشحام عن الباقر (عليه السلام) قال:«ادع في طلب الرزق في المكتوبة وأنت ساجد يا خير المسؤولين ويا خير المعطين ارزقني وارزق عيالي من فضلك الواسع فإنك ذو الفضل العظيم»(19) كيف نستطيع التوفيق بين استحباب الدعاء من جهة وبين الإيمان بالقضاء والقدر من جهة أخرى؟ الداعي يؤمن بأن كلّ شيء بقضاء وقدر، ورغم ذلك يدعو من منطلق أن للدعاء خاصّيتين فيما يرجع إلى القضاء والقدر، إحداهما: خاصّية رفع القضاء، والأخرى: دفعه.
ففي الأثر: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، وأن الدعاء يرد القضاء وقد أبرم إبراما»(20).
ولا يتراءى تنافٍ بين فعل الدعاء والإيمان بالقضاء والقدر، بل نفس القضاء والقدر يحرّكانه نحو فعل الدعاء لردّ القضاء وإن أبرم ما دام لم يقع.
قد درج أهل البحرين على إضافة ذكر (لا إله إلا الله) بعد التكبيرات الثلاث حين الانتهاء من الصلاة فما هي حقيقة هذا الذكر وهل له أصل ومستند روائي؟ مما ندب إليه المصلي أن يقول بعد التسليم «لا إله إلا الله وحده وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وأعزّ جنده، وغلب الأحزاب وحده، فله الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي، وهو على كل شيء قدير»(21).
فلعلّ ما درج عليه بعض المؤمنين من الإتيان بـ(لا إله إلا الله) إثر التكبير ثلاثاً بعد التسليم مقتطع مما تقدمّ، ولا بأس به وإن أتي به بقصد الخصوصية والذكر الخاص، لما عهد من أمر تعدد المطلوب في باب المستحبات.
نعم ورد عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «من سبح الله في دبر الفريضة تسبيح فاطمة المائة مرة وأتبعها بـ(لا إله إلا الله) مرّة غفر له»(22).
المحور الثاني: الزيارة يتردد كثيراً على أسماعنا أن بعض الفقهاء يوجب زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، فما هو مستند هذا القول؟ وردتنا جملة من الروايات -فيها ما هو صحيح سنداً- ظاهرها وجوب زيارة الحسين (عليه السلام)، منها صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فإن إتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين (عليه السلام) بالإمامة من الله عزّ وجلّ»(23).
ولا بد من حملها على تأكّد استحباب زيارته صلوات الله عليه، إذ لو كانت واجبة لشاع هذا الأمر وذاع، ولقرينية بعض الروايات على عدم الوجوب كمعتبرة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «والله لو حدّثتكم بفضل زيارته وبفضل قبره لتركتم الحجّ رأساً وما حجّ منكم أحد، ويحك أما تعلم أن الله اتّخذ كربلاء حرما آمنا مباركا قبل ان يتّخذ مكّة حرما.
قال ابن أبي يعفور: فقلت له: قد فرض الله على الناس حجّ البيت ولم يذكر زيارة قبر الحسين (عليه السلام)، فقال: وإن كان كذلك فإنّ هذا شيئ جعله الله هكذا، أما سمعت قول أبي أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث يقول: إن باطن القدم أحق بالمسح من ظاهر القدم، ولكن الله فرض هذا على العباد أو ما علمت أن الموقف لو كان في الحرم كان أفضل لأجل الحرم، ولكن الله صنع ذلك في غير الحرم»(24).
وقد حمل الشيخ الحر العاملي (رحمه الله) تلك الروايات على الوجوب الكفائي، إذ عنون الباب السابع والثلاثين من أبواب المزار ب “باب تأكد استحباب زيارة الحسين بن علي (عليهما السلام) ووجوبها كفاية”، وعنون الباب الرابع والأربعين من أبواب المزار بهذا العنوان: “باب وجوب زيارة الحسين والأئمة (عليهم السلام) على شيعتهم كفاية”.
نقرأ في بعض كتب الأدعية أن من يريد زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) من بعيد فإنه يصعد إلى السطح ويتجه صوب كربلاء ويقرأ الزيارة، فهل أن الزيارة من داخل الغرفة لا تجزي ويلزم الصعود إلى سطح الدار؟ نعم ورد فيما يخصّ زيارة الحسين (عليه السلام) والصلاة والتسليم عليه من بعيد أن تصعد فوق سطحك ثم تلتفت يمنة ويسرة ثم ترفع رأسك إلى السماء، ثم تنحو نحو القبر فتقول: السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك ورحمة الله وبركاته(25).
وورد أن تبرز في الصحراء أو تصعد سطحاً مرتفعاً في دارك.
كما ورد من غير تقييد بشيء من ذلك كما في معتبرة الحسين بن ثوير بن أبي فاختة، قال: «كنت أنا ويونس بن ظبيان والمفضل بن عمر وأبو سلمة السرّاج جلوسا عند أبي عبد الله (عليه السلام)، وكان المتكلم يونس، وكان أكبرنا سنا، فقال له: جعلت فداك إني كثيرا ما أذكر الحسين (عليه السلام) فأي شيء أقول، قال: قل: السلام عليك يا أبا عبد الله – تعيد ذلك ثلاثا.
فإنّ السلام يصل إليه من قريب ومن بعيد»(26).
إذن لا تختص زيارته (عليه السلام) من بعيد في البروز في الصحراء أو صعود للسطح، بل هما مرتبتان من مراتب الفضل.
يستفاد من بعض الروايات الواردة في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) استحباب كون الزائر أشعث، أغبر، حافي القدمين، وفي المقابل هناك روايات يستفاد منها استحباب أن يكون الزائر على غسل، وأن يلبس نظيف الثياب، فأيهما المستحب؟ تكثّرت الروايات الدالة على استحباب الغسل من ماء الفرات لزيارة الحسين (عليه السلام)(27)، ولا ينافي ذلك ما دلَّ على إتيانه وزيارته وأنت أشعث مغبر -على حد تعبير الرواية – كما في صحيحة علي بن الحكم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إذا زرت الحسين (عليه السلام) فزره وأنت حزين مكروب أشعث مغبر جائع عطشان، فإن الحسين قتل حزيناً مكروباً شعثاً مغبراً جائعاً عطشاناً، واسأله الحوائج وانصرف عنه ولا تتخذه وطنا»(28).
ووجه عدم التنافي أنّ إتيانه (عليه السلام) أشعث أغبر إما كناية عن الانقطاع عن الدنيا وملذاتها، ففي الرواية: «تالله إن أحدكم يخرج إلى قبر أبيه كئيباً حزيناً وتأتونه -يعني الحسين (عليه السلام)- أنتم بالسُفَر، كلا حتى تأتونه شعثاً غبرا»(29).
أو أن المراد من ذلك ما اشتملت عليه بعض الروايات: «فإذا أردت المشي إليه فاغتسل ولا تطيّب ولا تدّهن ولا تكتحل حتى تأتي القبر»(30).
ما هو حكم الإتيان بركعتي الزيارة بعد زيارة غير الأئمة (عليهم السلام) كزيارة السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) وأم البنين (عليها السلام) مثلاً؟ الإتيان بركعتين أو أكثر بعد زيارة غير الأئمة (عليهم السلام) بعنوان ركعتي الزيارة غير مشروع ما لم يوظّف من قبل الشارع، بل ما في زيارة العباس بن علي (عليه السلام) من صلاة ركعتين إنما يؤتى بهما لا بعنوان ركعتي الزيارة، بل تصليهما بقصد القربة المطلقة، على أنّ بعض زيارات المعصومين (عليهم السلام) ليس فيها ركعتا الزيارة فيؤتى بالركعتين بالقصد المتقدّم.
نعم لا بأس بالإتيان بركعتين أو أكثر بعد زيارة غير المعصوم أو قبلها بالقصد المتقدّم ثم إهداء ثوابهما إلى روحه.
قيل بأن الزيارة معناها حضور الزائر عند المزور، فإذا ورد استحباب لزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين مثلاً هل يشمل هذا الاستحباب الخاص بما يترتب عليه من ثواب منصوص الزيارة من بعد؟ تقدم استحباب زيارة الحسين (عليه السلام) ولو من بعيد، ولكن لا شاهد على ترتُّب خصوصيات زيارة القريب للبعيد.
ما هو حكم زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في ظرف التقية والخوف الشديد على النفس؟ يوجد في الروايات ما يدل على رجحان زيارة الحسين (عليه السلام) ولو مع الخوف، وبعضها تحضّ وتستحث على زيارته، ففي رواية ابن بكير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قلت له: إن قلبي ينازعني إلى زيارة قبر أبيك، وإذا خرجت فقلبي وجل مشفق حتى أرجع خوفاً من السلطان والسعاة وأصحاب المصالح (المسالح)، فقال: يا ابن بكير، أما تحبّ أن يراك الله فينا خائفاً؟ أما تعلم أنه من خاف لخوفنا أظلّه الله في ظل عرشه؟ وكان يحدّثه الحسين (عليه السلام) تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزع، فإن فزع وقرته الملائكة وسكنت قلبه بالبشارة»(31).
ما هو حكم الصلاة مع المخالف جماعة في الحرمين الشريفين؟ يفتي مراجعنا العظام (أيدهم الله) بجواز الصلاة خلفهم، ويحتّم جملة منهم على المأموم أن يقرأ لنفسه إخفاتاً إن أمكنه وإلا يقرأ في نفسه، واختلفوا في جواز ترتيب أحكام الجماعة على جماعتهم، فيرى السيّد الخوئي جواز ذلك، فللمأموم الرجوع إلى الإمام الحافظ عند الشكّ في عدد الركعات، وتغتفر زيادة الركوع إذا رفع رأسه قبل الإمام سهواً فيرجع للمتابعة وغير ذلك، بينما يذهب السيّد السيستاني إلى أنه لا ضير في نية الاقتداء بالإمام منهم ولكن من دون ترتيب أحكام الجماعة.
ثمَّ إنّه لا بد من إحراز دخول وقت الصلاة.
ولا بد من أداء الظهر لمن صلّى معهم الجمعة.
ما هي وظيفة المكلف إذا كان يصلي جماعة مع إمام الحرم وقد قرأ الإمام آية توجب السجود عند سماعها؟ إذا استمع إلى آية السجدة وهو في صلاة الفريضة فوظيفته أن يومئ إلى السجود وهو في الصلاة -لزوماً أو احتياطاً لازماً على الخلاف- ثم يأتي بالسجود بعد الفراغ من الصلاة -احتياطاً لازماً أو لزوماً على الخلاف .
لا يسعنا في ختام هذا الحوار إلا أن نشكر سماحة الأستاذ الفاضل الشيخ على الصددي (حفظه الله) على ما أفادنا به وعلى رحابة صدره، ونسأل الله تعالى أن يسدد خطاه وينفع به الأمة ويوفقه لما فيه خير وصلاح الإسلام وأهله إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر والهوامش
- (1) سماحة الشيخ من علماء وفضلاء الجالية البحرانية المقيمين في مدينة قم المقدسة، وأحد أهم الكتّاب في هذه المجلة المباركة، وفي غيرها من المجلات كمجلة “فقه أهل البيت (عليهم السلام)”، درس فترة في النجف الأشرف، ثم عاد إلى البحرين، وأصبح مديراً لحوزة الإمام زين العابدين (عليه السلام)، بالإضافة لكثير من الأنشطة الدينية والاجتماعية، وحاليا يقيم في مدينة قم المقدسة، يحضر فيها عند كبار المراجع (حفظهم الله)، ويدرِّس مرحلة السطوح.
- (2) الفرقان: 77.
- (3) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج2 ص468.
- (4) المصدر نفسه.
- (5) كابن عقيل العماني الذي قال بوجوب الدعاء عند رؤية هلال شهر رمضان. حكاه عنه: العلامة الحلي، المختلف ص236.
- (6) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج2 ص468.
- (7) المصدر نفسه ج3 ص476.
- (8) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة ص 352.
- (9) غافر: 60.
- (10) الشيخ الصدوق، الخصال ص 629.
- (11) الميرزا النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل ج5 ص256.
- (12) يوسف: 97، 98.
- (13) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه ج3 ص317.
- (14) الحر العاملي، وسائل الشيعة ج3 ص293.
- (15) ابن فهد الحلي، عدة الداعي، ص118.
- (16) العروة الوثقى والتعليقات عليها، ط مؤسسة السبطين العالمية، ج7 ص 437.
- (17) المصدر نفسه ج7 ص 440.
- (18) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج3 ص321.
- (19) المصدر نفسه ج2 ص551.
- (20) المصدر نفسه ج2 ص469.
- (21) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6 ص452.
- (22) المصدر نفسه ج6 ص440.
- (23) جعفر بن محمد بن قولويه، كامل الزيارات ص236.
- (24) المصدر نفسه ص 449.
- (25) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه ج2 ص599، ومحمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام ج6 ص 116.
- (26) المصدر نفسه ص 363.
- (27) الحر العاملي، وسائل الشيعة ج14 ص483.
- (28) محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج4 ص 587.
- (29) جعفر بن محمد بن قولويه، كامل الزيارات ص250.
- (30) محمد بن الحسن الطوسي، تهذيب الأحكام ج6 ص 76.
- (31) الحر العاملي، وسائل الشيعة ج10 ص356.