الصمت آية النبل وثمرة العقل
إن تحصيل العلوم الإسلامية بشتى أنواعها لهو سيف ذو حدين، فتلك العلوم تنفع من تعلمها إن كان قد حظي بتزكية نفسه، مما يؤدي إلى العمل بتلك العلوم، وتضر من لم يزك نفسه، وقد قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}(2) وقال عز وجل:{ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}(3) وبتزكية النفس وطهارتها يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة.
والتزكية هي أن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره(4) والفلاح: الظفر وإدراك بغيةٍ، وذلك ضربان، دنيوي وأخروي؛ فالدنيوي: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الإنسان، وهو البقاء والغنى والعز… وفلاح أخروي، وذلك أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل(5).
والخيبة فوت الطلب(6). “{ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} أي دسَّسها في المعاصي(7).
قال الله سبحانه وتعالى:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}(8) في هذه الآية قدِّمت التزكية على تعليم الكتاب، ولا نرى لذلك وجهاً إلا اهمية التزكية، وكذلك ورد في إحدى الروايات عن النبي(ص) قوله إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق، وعلم الأخلاق له جنبات وتشعبات كثيرة تبحث فيه ولكنا فضلنا البحث في باب “الصمت”، وذلك لغفلة الكثيرين عن هذا الأمر مع أهميته الكبرى، مستفيدين من روايات أهل البيت (ع) فهم أطباء النفوس وهم من أمرنا الله بإتباعهم؛ قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}(9) ورسول الله(ص) يقول: “إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض”، ويقول تعالى{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا}(10) “فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك”(11) يتلخص موضوعنا حول مفهوم الصمت، وما هو الصمت الممدوح وما هو المذموم منه، وما هي ثمرات هذا الصمت.
الصمت عبارة عن السكوت، ولكن ليس السكوت المطلق، إنما المقصود منه هو الصمت الذي يقابل الهَذَر، والهذر هو الفضول من الكلام وهو أيضاً ما يكون في الباطل.
إذن فالصمت المذكور ليس هو السكوت المطلق كما قد يتوهم البعض، لأنه بالكلام تنتشر المعارف الحقة، والكلام إذا كان لإرشاد الناس ووعظهم أو كان في الخير يكون أفضل من السكوت، ولكن مع مراعاة الاختصار قدر الإمكان وذكر ما قلَّ ودلَّ؛ ورد عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: “لا خير في الصمت عن الحكم؛ كما أنه لا خير في القول بالجهل”(12).. بعد بيان أي نوع من الصمت هو المطلوب نستعرض بعض الروايات التي تبيّن أهمية الصمت وثمراته، فمنها ما جاء في حديث المعراج: “قال: يا أحمد! إلى أن يقول: قال: يا رب ما أول العبادة؟! قال: الصمت والصوم.
تعلم يا أحمد ما ميراث الصوم؟! قال: لا، يا رب! قال: ميراث الصوم قلة الأكل، وقلة الكلام، والعبادة.
الثانية الصمت؛ والصمت يورث الحكمة؛ ويورث الحكمة المعرفة؛ ويورث المعرفة اليقين. وإذا استيقن العبد لا يبالي كيف أصبح بعسر أم بيسر.
فهذا مقام الراضين!”(13).” يا أحمد عليك بالصمت فإنَّ أعمر مجلس قلوب الصالحين والصامتين، وإنَّ أخرب مجلس قلوب المتكلمين بما لا يعنيهم… يا أحمد إن العبد إذا جاع بطنه وحفظ لسانه علمته الحكمة، وإنْ كان كافرا تكون حكمته حجة عليه ووبالاً، وإنْ كان مؤمناً تكون حكمته له نورا وبرهانا وشفاء ورحمة، فيعلم ما لم يكن يعلم ويبصر ما لم يكن يبصر، فأول ما أبصره عيوب نفسه حتى يشتغل بها عن عيوب غيره، وأبصره دقائق العلم حتى لا يدخل عليه الشيطان.
يا أحمد ليس شيء من العبادة أحب إليَّ من الصمت والصوم، فمن صام ولم يحفظ لسانه كان كمن قام ولم يقرأ في صلاته، فأعطيه أجر القيام ولم أعطيه(14) أجر العابدين، يا أحمد هل تدري متى يكون العبد عابداً؟ قال: لا، يا رب، قال: إذا اجتمع فيه سبع خصال:… وصمت يكفه عما لا يعنيه… يا أحمد ليس كل من قال أحب الله يحبني حتى… ويلزم صمتاً…”(15).
وقال الرضا (ع) : “من علامات الفقه الحلم والحياء والصمت، إن الصمت باب من أبواب الحكمة، وإنه ليكسب المحبة ويوجب السلامة، وراحة لكرام الكاتبين، وإنه لدليل على كل خير”(16).
وقال عيسى بن مريم (ع) : ” العبادة عشرة أجزاء، تسعة منها في الصمت وجزء واحد في الفرار من الناس”(17).
ابتدأ الله سبحانه وتعالى مخاطبا للنبي (ص) بأن الصمت أوّل العبادة، وذلك لأنه مطردة للشيطان وكذلك يكسب حالة من السكون والتهيؤ النفسي للعبادة ولتلقي العلوم، ويعطي الإنسان إضافة لذلك هيبة ووقاراً.
ومن ثمرات الصمت أنه يورث الحكمة، والله سبحانه وتعالى يقول: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}(18) وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع)، قال: سمعته يقول: “ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً” قال: معرفة الإمام واجتناب الكبائر التي أوجب الله عليها النار”(19) ويعرِّف العلامة الطباطبائي (قده) الحكمة فيقول: (… فالحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقة الإلهية في المبدأ أو المعاد، والمعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطرية التي هي اساس التشريعات الدينية”(20) “ويورث الحكمة المعرفة” وأعلى المعرفة هي معرفة الله ومعرفة الإمام المفترض الطاعة (ع) “ويورث المعرفة اليقين” عن يونس قال: سالت أبا الحسن الرضا (ع) عن الإيمان والإسلام فقال: ” قال أبو جعفر (ع) :… واليقين فوق التقوى بدرجة، ولم يقسم بين الناس شيء أقل من اليقين، قال قلت: فأي شيء اليقين؟ قال: التوكل على الله والتسليم لله والرضا بقضاء الله والتفويض إلى الله…”(21).. “وإنْ كان مؤمناً تكون حكمته له نوراً” النور: الضوء المنتشر الذي يعين على الإبصار، وذلك ضربان دنيوي وأخروي؛ فالدنيوي ضربان: ضرب معقول بعين البصيرة، وهو ما انتشر من الأمور الإلهية كنور العقل ونور القرآن.
ومحسوس بعين البصر، وهو ما انتشر من الأجسام النيرة كالقمرين والنجوم والنيرات”(22).
بعد ذكر شيء من ثمرات الصمت نذكر بعض الأمور التي تذكر لمن أراد أن يلتزم الصمت، لأن الصبر على الصمت قد يكون صعبا نوعا ما لبعض الناس؛ من الأمور التي تذكر في هذا المجال هو أن يعوِّد الإنسان نفسه في بداية الطريق على أن يترك الكلام إلا إذا اضطر إليه اضطرارا شديدا جدا، وكذلك يقلل من مخالطة الناس لكي لا يضطر إلى الكلام؛ ومما يذكر أيضا هو أن يفكر الشخص في مساوئ كثرة الكلام ومحاسن قلته، ويضع ذلك دائما نصب عينه، فلو فكر في الوقت الذي سيصرفه في كلامه لو استغله في أمر آخر ذي فائدة لكان أفضل من إضاعة الوقت في الكلام الزائد أو الذي ليس به فائدة بل ربما يكون فيه مضرة تكسب الإنسان حسرة كبيرة يوم القيامة.
وبعد أن يعتاد الإنسان على حالة الصمت يبرمج نفسه على أن لا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يتكلم فيما يعنيه حتى يرى له موضعا، وكذلك إذا كان بالإمكان أن يترك هذا يتركه أيضا إذا لم يستلزم محذورا شرعيا.
وكلما أكثر الإنسان من الصمت أصبح قادرا على التفكير بشكل أفضل وأمكنه التركيز في الأمور التي تحتاج إلى تركيز، وبهذا يكون أكثر توجها في عباداته، لأن ذهنه يكون خاليا من الأمور التي تشتته.
اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية، وصدق النية وعرفان الحرمة، وأكرمنا بالهدى والإستقامة، وسدد ألسنتنا بالصواب والحكمة، واملأ قلوبنا بالعلم والمعرفة… (23).
المصادر والهوامش
- (1) من كلام لأمير المؤمنين (ع)، ميزان الحكمة 2: 1666.
- (2) سورة الشمس: 9-10.
- (3) سورة العنكبوت: 69
- (4) مفردات ألفاظ القرآن ص381.
- (5) نفس المصدر، ص644.
- (6) نفس المصدر، ص300.
- (7) نفس المصدر، ص314.
- (8) سورة الجمعة: 2.
- (9) سورة الحشر: 7.
- (10) سورة الفرقان: 57.
- (11) من دعاء الندبة.
- (12) نهج البلاغة، القصار من كلماته (ع) : 182.
- (13) رسالة لقاء الله ص25. (14) هكذا في المصدر، ولعل الصحيح اعطه.
- (15) ارشاد القلوب ج1 ص374-381.
- (16) نفس المصدر، ص 203.
- (17) نفس المصدر، ص205.
- (18) سورة البقرة: 269.
- (19) الكافي، ج1، باب الكبائر ص302 ح20.
- (20) الميزان، ج2، ص399.
- (21) الكافي، ج2، باب فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان، ص79 ح5.
- (22) مفردات ألفاظ القرآن: ص827.
- (23) من دعاء لصاحب الأمر عجل الله فرجه الشريف.