الإمام الحسن(ع) معز المؤمنين
تجلّت مظاهر العزّة والكرامة والبصيرة الثّاقبة في حياة الإمام الحسن المجتبى السّياسيّة والجهاديّة بأجلى صورها ومعانيها، خصوصاً فيما يتعلّق بالموقف السّياسيّ الّذي اتّخذه الإمام في (قضيّة الصّلح).
هذه المسألة مازالت إلى يومنا هذا مثاراً للبحث والمناقشة والأخذ عند كثير من الكتّاب والباحثين، وبغضّ النّظر عن تقييم صحيحها من سقيمها، تعرّضت للأسف هذه المسألة (الصّلح) للتّشويه والتّضليل والإسـاءة المتعمّدة من قبل الأقـلام المأجورة والمغرضة، والّتي صاغـت التّاريخ وفق مشتهيـات
أصحاب السّلطة، كما كانت عرضة لقراءات متحيّزة وناقصة مبتورة تحمل نفساً طائفيّاً بغيضاً، كان الأجدى بأصحابها أن تمارس أدنى درجات الموضوعيّة المطلوبة لدى الباحث عن الحقيقة، وهنا لا نريد أن ندخل في الإسفاف المأجور الّذي دوّنته هذه الأقلام في أغلب كتب التاريخ المدسوسة، خصوصاً ما يتعلّق بشخصيّة الإمام الحسن من افتراء متعمّد ، مثل أنّ سبب اختيار الإمام للصّلح هو شخصيّته الّتي دعته للدّعة والرّاحة ليأخذ بهذا الخيار؟؟!
الإمام الحسن عاش من صغره في بيت النّبوّة والإمامة، وتعلّم وترعرع في كنف جدّه المصطفى محمّد’ تعاليم الوحي السّامية وأخذ منه شمائل النّبوّة الهادية، وورث منه الهيبة والسّؤدد يقول’:
>أمّا الحسن فإنّ له هبيتي وسؤددي …<[1]، كما ذكر الشّيخ المفيد في كتاب الإرشاد:
لم يكن أحد أشبه برسول اللّه’ من الحسن بن علي‘ خَلقاً وخُلقاً وهيأة وهدياً وسؤدداً…
كما عاش الإمام أيضاً المحن العظيمة والرّزايا الجليلة أمام ناظريه من المحنة الكبرى لرحيل جدّه المصطفى الأكرم’ وما جرى بعد رحيله، وما جرى على أمّه المظلومة الشّهيدة وأبيه الصّابر المحتسب‘.
النظرة الكلّيّة المتكاملة
من الضّروريّ للمتأمّل والباحث الحصيف أن يطالع سيرة أهل البيت^ بصورة مترابطة ومتكاملة، كما يقرأ القراءة التّفصيليّة لحياة كلّ إمام معصوم من أهل البيت^، خصوصاً القراءة الأولى (المتكاملة) فهي تفسّر بشكل واضح وجليّ حقيقة مواقف الأئمّة^ المختلفة من الأحداث والأوضاع الّتي عاشوها، ضمن نسيج مترابط ومنسجم يكمّل بعضه الآخر، وبدون ذلك قد تصبح القراءة ربّما ملتبسة وناقصة، ولكي نقرأ موقف الإمام الحسن على ضوء النّظرة المتكاملة المترابطة ..
نبدأ من بعد رحيل النّبي الأكرم’ وما أحدث من هزّة في واقع الأمّة، مروراً بسيرة أبيه أمير المؤمنين والّذي واجه معركة من نوع آخر وهي (معركة التّأويل) ذكرها النّبي الأكرم’ > … يا عليّ تقاتلهم على التّأويل كما قاتلتهم على التّنزيل<[2].
لا شكّ أنّ هذه المعركة عصفت بأهمّ ركن في الإسلام والرّسالة وأعظم نعمة للإسلام، ألا وهي (الإمامة) الّتي بها نظام الملة والأمان من الفرقة-كما عبّرت السّيّدة الزّهراء÷-، والّتي كان لها الدّور المؤثّر في الدّفاع عن هذا الموقع الإلهيّ العظيم واستشهدت في سبيله، فهو الطّريق إلى النّجاة والفلاح من الزّيغ والضّلال وهو الفوز بالجنّة والرّضوان.
لكن كيف قابلت الأمّة هذه النّعمة ؟! كيف حفظت الأمانة والوصيّة؟ ألم تقابلها بالكفران والجحود ونقض العهود، حينها دخلت الأمّة في فتنة عمياء مظلمة لم ينجُ منها إلا العدد القليل من صحابة النّبي الأكرم’، ممّن عرفوا أهل البيت^ حقّ معرفتهم وشايعوهم، وبقوا على طريقهم متمسّكين بنهجهم مضحّين بمهجهم وما بدّلوا تبديلاً.
أمام (معركة التّأويل) .. واجه أمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب وهو المخلّص الأمين للإسلام ومصالح الأمّة في طوال مسيرة حياته المباركة، هذا الواقع المؤلم واجهه بالعمل على خطّين أساسيين هاّمين -كانا عرضة لمعول الهدم بصورة مستمرّة عبر فتنة كبرى تعيد الجاهليّة الأولى (بستار الإسلام)- وهما:
أ – الحفاظ على أصالة تعاليم الإسلام الّتي جاء بها النّبي الأكرم’ ونقاوتها من التّحريف والضّياع والعبث.
ب – تقديم النّموذج الأصيل للإسلام من خلال (نهج الإمامة)، والمحافظة على أتباعهم الخُلّص أمام التّحديات والصّعوبات الّتي تواجه بناء كيانهم العلوي.
وعلى هذا واصل الإمام الحسن مسيرة أبيه أمير المؤمنين، ومن ثمّ الإمام الحسين سار على ذلك بحيث تكسّرت على يديه آخر فصول الزّيف الأمويّ وأركانه من خلال نهضته المباركة.
إذاً المسألة مترابطة ومكمّلة لبعضها الآخر ضمن مشروعٍ واحد (الإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين^ تحقّقت على أيديهم الأهداف المرجوّة من حيث:
ـ إسقاط مشروع إعادة المشروع الجاهليّ والأمويّ المتستّر بالإسلام وتعريته.
ـ ترسيخ الإسلام العلويّ النّقي ليشعَّ نوره في الأمّة، بحيث أصبحت الأمّة تميّز بوعي الطّريقين، وتسعى جاهده من أجل أن يعمّ نور الإسلام المحمّديّ الأصيل ونموذج الحكم العلويّ.
أسلوبا المسالمة والمواجهة
وتنوّعت أساليبهم^ في الحفاظ على هذين الرّكنين الأساسيين (أصالة الإسلام ورعاية مصالح الأمّة)، فقد مارس أمير المؤمنين في البدء (أسلوب الصّبر والمسالمة) بحسب ما دعت له الظّروف والأوضاع آنذاك، وكان هذا الأسلوب حينها هو الأقرب لمصلحة الإسلام ولوضع المسلمين، فهو يقول: >لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها من غيري، وواللّه لأسلمنّ ما سلمت أُمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلّا عليّ خاصّة<[3].
من خلال سنوات الصّبر والمسالمة تمكّن الإمام من إعطاء صورة واضحة للإسلام في أصالته بعد ما تمّ إبعاده عن موقع قيادة الأمّة وإدارتها، فأخذ الإمام علي يغذّي روح الإيمان الصّادق لدى أصحابه الخُلّص ممّن عرفوا الإمامة وتشّرّبوا من معينها الصّافي، كما سعى لإصلاح ما أمكن إصلاحه من تجاوزات وانحرافات طرأت على مسيرة الإسلام والأمّة من قبل من الولاة، كما ركّز كثيراً على حقّه المشروع في الإمامة والخلافة على ضوء ما أوصى به النّبي الأكرم’.
بعدها تولّى الإمام أمور المسلمين وجاءت الأمّة حينها تصرّ على الإمام لتسلّم الخلافة، بل إنّهم أصرّوا وألحّوا فقبل الإمام بعد أن امتنع في البدء، فبدء في مشروعه في تقديم النّموذج الصّالح للحكم، وكانت له مواقفه الحاسمة أمام جبهة النّفاق السّياسيّ (المتستّرة بالإسلام) والّتي تمثلت في ثلاث فئات هم (فئة المتحجّرين الخوارج-فئة المتزلّفين أصحاب المطامع- فئة الحكّام المفسدين من آل أميّة) وبعد مناشدات عديدة للقوم، و بعد يأس من النّصح وأخذ قراره من موقع الحاكم الشّرعي (بالمواجهة والحرب).
كذلك مواقف الإمام الحسن ليست بدعاً ولا شذوذاً كما يصوّره البعض، بل هي نفس مواقف جدّه وأبيه^، اللذان مارسا كلا الأسلوبين (أسلوب المسالمة والمواجهة) بحسب ما دعت إليه الظّروف والأوضاع آنذاك، وهنا يحدّثنا التّاريخ أنّ الإمام الحسن كان له الدّور الفاعل في معارك أبيه أمير المؤمنين، وكانت له صولات وجولات بطولية في الحروب يقتحم الميادين وسوح القتال بكلّ بسالة وشجاعة وإقدام، وله الرّوح الوثّابة المضحّية كما كان أبوه، كما شارك في حرب الجمل مع أبيه في الصّفوف الأماميّة، و يعبّأ الجيش للقتال كما في معركة صفّين الّتي كانت في مواجهة معاوية(لعنه الله) الباغيّ، يقاتل قتال الأبطال المضحّين الطّالبين للشّهادة، حتّى أنّ أمير المؤمنين طلب من أصحابه أن يمنعوه وأخاه‘ من القتال كي لا ينقطع نسل الرّسول الأكرم’.
الإمام الحسن .. في مواجهة الفتنة
لمّا استلم الإمام الحسن الإمامة بعد شهادة أبيه أمير المؤمنين، وتولّى الخلافة وجاءت النّاس تبايعه وكان كلّما قصدته جماعة من النّاس لتبايعه شرط عليها في البيعة السّمع والطّاعة، ويحاربون من حارب ويسالمون من سالم، وهو شرط مهمّ.
كما عمل الإمام على تجهيز الجيش بكلّ ما يحتاج من عتاد ومستلزمات لقتال معاوية(لعنه الله) المتمرّد على الخلافة الشّرعيّة، والذي أراد السّلطة له، ليمزّق كيان المسلمين ووحدتهم..
هنا ناشد الإمام الحسن القوم وحرّضهم مراراً على القتال والمواجهة، ولكن للأسف وجد الإمام منهم طلب الرّاحة والدّعة عن المواجهة والقتال، خصوصاً من الجيش الّذي يمثّل عماد حركة الإمام وجهاده، حيث كان الأعمّ الأغلب من المسلمين آنذاك ينظر للإمام الحسن على أنه خليفة كسائر الخلفاء الّذين حكموا ، وليس بما هو إمام مفترض الطّاعة، إضافة لذلك كان المجتمع الكوفيّ متنوّع المشارب والأطياف، منهم الخوارج ومنهم أصحاب المطامع ومنهم من يجهل موقع الإمامة ووغيرهم من المنهزمين، كما كان للأمويين حضورهم المشبوه بين صفوف ذلك المجتمع الممزق والمنهزم، سواء عبر بث الشّائعات أو إغراء القيادات بالأموال وغيرها، وهذا لا يعني عدم وجود الصّفوة المخلصة المرتبطة بالإمام وإن كانت قليلة بالقياس لمجموع ذاك المجتمع.
ذات يوم خرج الإمام الحسن فاعتلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:
>أمّا بعد: فإنّ الله كتب الجهاد على خلقه وسمّاه كُرهاً ، ثمّ قال لأهل الجهاد: اصبروا إنّ الله مع الصّابرين، فلستم أيّها النّاس نائلين ما تحبّون إلّا بالصّبر على ما تكرهون، إنّه بلغني أنّ معاوية بلغه أنّا كنّا عزمنا على المسير إليه فتحرّك لذلك، اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم في النّخيلة حتّى ننظر وتنظرون، ونرى وترون<، ولما أنهى خطابه وجم الحاضرون، وأخرست ألسنتهم، واصفرّت ألوانهم كأنّهم قد سيقوا إلى الموت، فلم يجب الإمام أحداً منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام، وحبّهم للسّلم، وإيثارهم للعافية، وكان هذا التّخاذل في بداية الدّعوة إلى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو إلى التّشاؤم واليأس من صلاحهم[4].
الخيارات المتاحة أمام الإمام الحسن
بعد أن عمد معاوية(لعنه الله) من خلال خطوات عديدة دسّ من خلالها مجموعة من الدسائس والمؤامرات والحيل والاغتيالات من أجل تمزيق القاعدة الشّعبية للمجتمع الكوفيّ، كما أرسل العيون والعملاء بالأموال وشراء الضّمائر والذّمم وعبر بثّ الشّائعات والفوضى، خلق جواً من التّقاعس والخذلان بين صفوف الجيش أدّى إلى خيانات عديدة من قبل بعض قيادات الجيش، هنا عاش الإمام الحسن محنة عظيمة من قبل ذلك المجتمع.
هنا وجد الإمام نفسه أمام واقع مفكّك ومهزوم:
ـ إمّا أن يواصل خياره العسكريّ والمواجهة مع قلّة النّاصر وخذلان الجيش ..
– أو يختار التّضحية والشّهادة..
وكلا الخيارين وإن كانا مطلوبين للإمام لكنّ السّؤال عن مدى تجاوب ذاك المجتمع؟ وهل يتحقّق بهما الأهداف المرجوّة؟ أمّا مع الظّروف والأوضاع -الّتي ذكرناها- فستكون النّتائج عكسيّة و النّتيجة حتميّة بالهزيمة و الانكسار للجيش، بل ضياع جهود الشّهادة المؤثّرة بحيث لا تعطي أثرها المطلوب والمؤثّر، خصوصاً في ظلّ واقع ممزّق يعيش الوعي الهابط والإرادة المشلولة، و هذا يفرق عن شهادة الإمام الحسين في ظرفها ومسبّباتها حيث كان لها الأثر البالغ والمؤثّر إلى يومنا هذا، في زمان الإمام الحسين كانت الأزمة أزمة إرادة لا وعيّ، أمّا في زمان الإمام الحسن فكانت أزمة شكّ وانخفاض وعي و إرادة منهزمة، كما أنّ الإمام الحسين في ثورته المباركة انطلق من موقع المعارض لا الحاكم فهو أقرب للمظلوميّة في نظر النّاس، بخلاف الإمام الحسن فالنّاس ربّما تدين الإمام.
ـ هنا أصبح خيار الهدنة (وقف الحرب مؤقّتاً) واقعاً حتميّاً والدّخول في الصّلح هو الخيار المتاح، فقد أشاع معاوية(لعنه الله) وأتباعه بين النّاس أنّ الإمام الحسن يطلب الصّلح، أراد بذلك أن يثير الفوضى والبلبلة في صفوف جيش الإمام، هنا الإمام انتهز الفرصة ليكشف زيف معاوية(لعنه الله) وألاعيبه، فقبل بالصّلح وفق شروطه، وكان معاوية(لعنه الله) يريد من الصّلح إحراج الإمام، والإمام الحسن لما دخل الصّلح لم يتخلّى عن موقع الإمامة كما يحلو للبعض، بل سلّم السّلطة التّنفيذيّة بشرط -سنأتي على ذكر بنود الصّلح لاحقاً- وهنا مسألة هامّة لا بدّ أن نلتفت إليها وهي أنّ صلح الإمام الحسن لم يكن صلح موادعة وضعف، بل صلح عزّة ومن موقع القوّة، كما كان النّبي الأكرم’ في صلح الحديبيّة وأمير المؤمنين في بعض فترات حياته حينما صالحوا، إنّما كان موقف العزّة الّذي حتّم وفق الظّروف السّائدة والمصلحة الشّرعيّة حينما تتزاحم بين (المهمّ والأهمّ) يقدّم الأهمّ على المهم، وهنا رأى الإمام أنّ حقن الدّماء في تلك الفترة أهمّ، كما تشير بعض كلماته وليس ما يدّعيه البعض من تهم وافتراء من أنّ الإمام الحسن آثر الحياة والرّاحة والدّعة!!.
الإمام الحسن.. والمواجهة السّياسيّة
بعدما فرض الإمام الحسن شروطه في الصّلح مع معاوية(لعنه الله)، انتقل بذلك من المواجهة العسكريّة إلى المواجهة السّياسيّة من خلال الصّلح، والّتي هيّأت الظّروف لثورة الإمام الحسين المباركة، والإمام يعلم بأنّ هذه الشّروط الّتي وضعها لن تصمد مع مرور الوقت، بل أنّ معاوية(لعنه الله) وسينقلب عليها، حينها ستتكشّف الحقيقة أمام الرّأي العامّ ويظهر زيف معاوية(لعنه الله) وغدره.
وقد اشتملت (معاهدة الصّلح) على خمسة بنود أساسيّة هي:
1ـ السّلطة مقيّدة ومشروطة
الأول: أن يستلم الأمر (الخلافة) معاوية(لعنه الله) ويعمل وفق كتاب الله وسنته
2ـ التّنازل عن السّلطة التنفيذيّة مؤقّتاً على أن تعود الخلافة إلى أصحابها
الثّاني: أن يكون الأمر بعد للإمام الحسن ومن بعده للإمام الحسين وليس له أن يعهد ذلك لأحد.
3ـ وقف الإعلام المسيء والمغرض والسّماح بذكر فضائل علي
الثّالث: أن يرفع سب أمير المؤمنين علي من على المنابر وقنوت الصّلوات وألا يذكر عليّاً إلا خيراً.
4ـ تعزيز الجانب الاقتصاديّ والماليّ
الرّابع: استثناء ما في بيت مال الكوفة وهو خمسة ملايين درهم وتكون بحوزة الإمام الحسن، وأن يفضّل بني هاشم في العطاء والصّلات على بني أُميّة، وأن يفرّق في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين يوم الجمل وصفّين مليون درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد.
5ـ تأمين الجانب الاجتماعيّ والأمنيّ خصوصاً للشّيعة
الخامس: النّاس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم، وأن يأمن الأسود والأحمر، وأن يحتمل معاوية(لعنه الله) ما صدر من هفواتهم، وألّا يتّبع أحداً بما مضى، وألا يأخذ أهل العراق بإحنة وحقد، وعلى أمان أصحاب عليّ حيث كانوا، وألا ينال أحداً من شيعة عليّ بمكروه، وأنّ أصحاب عليّ وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم، ألا يتعقّب عليهم شيئاً ولا يتعرّض لأحد منهم بسوء، ويوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه، وعلى ألا يبغي على الحسن بن علي ولا أخيه الحسين‘ ولا أحد من أهل بيت الرسول سرّاً ولا جهراً، ولا يخيف أحداً منهم في أُفق من الآفاق.
فكتب معاوية(لعنه الله) جميع ذلك بخطّه وختمه بخاتمه، وبذل عليه العهود المؤكّدة والأيمان المغلّظة، وأشهد على ذلك جميع رؤساء أهل الشّام[5].
نقض العهد
سار معاوية(لعنه الله) حتّى نزل بالنّخيلة (موضع قرب الكوفة)، وكان ذلك يوم جمعة فصلّى بالنّاس ضحى النّهار، فخطبهم وقال في خطبته: إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلون ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون. ألا وإنّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها له[6].
في الختام.. نقاط مضيئة:
1- قاعدة هامّة: فهم مواقف الأئمّة الأطهار في حياتهم السّياسيّة والجهاديّة، لا بدّ أن يقوم على أساس مصلحة الإسلام العليا ومصالح الأمّة ووحدتها وبالخصوص أتباع مدرستهم الخُلّص.
وأمّا الأساليب الجهاديّة المختلفة فتتنوّع بحسب ما تمليه الظّروف الزّمنيّة والذّهنيّة العامّة في زمانهم، ضمن موازنة ثنائيّة دقيقة بين (المبدئيّة والواقعيّة) وهذا ما يحتاج العاملون الالتفات إليه في مسيرتهم العمليّة.
2- تجلّيات القيادة السّياسيّة عند الإمام الحسن، فهو إضافة لمناقبه الأخلاقيّة العالية برزت مجموعة صفات أساسيّة يحتاجها العاملون المخلصون لقضايا الأمّة وهم يمرّون بمحن اجتماعيّة صعبة وهي: (الرؤية الحكيمة والثّاقبة، الموقف الصّابر والشّجاع، الحلم وسعة الصّدر، الالتزام بالعهود والمواثيق، التّضحية في سبيل المبدأ الإلهيّ).
3 – المكاسب السّياسيّة الّتي حقّقها الإمام من خلال الصّلح:
(فضح ألاعيب الزّيف الأمويّ (المتستّر بالإسلام) ـ الحفاظ على عزّة الإسلام وأصالته -حماية أتباعه الخلُّص- تهيئة الظّروف والأنصار لثورة الإمام الحسين).
4 ـ مفهوم السّياسيّة عند الإمام الحسن:
سأل بعض النّاس الإمام الحسن عن رأيه في السّياسة، فقال[7]:
هي أن تراعي حقوق الله، وحقوق الأحياء، وحقوق الأموات.
ـ فأمّا حقوق الله، فأداء ما طلب، والاجتناب عمّا نهى.
ـ وأمّا حقوق الأحياء، فهي أن تقوم بواجبك نحو إخوانك، ولا تتأخّر عن خدمة أمّتك، وأن تخلص لولي الأمر ما أخلص لأمّته، وأن ترفع عقيرتك في وجهه إذا حادّ عن الطّريق السّويّ.
ـ وأمّا حقوق الأموات، فهي أن تذكر خيراتهم، وتتغاضى عن مساوئهم، فإنّ لهم ربّاً يحاسبهم.
5 ـ إضاءات فكريّة:
ـ المفكر الشّهيد الشّيخ مرتضى مطهّري يقول: لو سُئلنا هل الإسلام دين صلح أم دين حرب؟ فبماذا نجيب؟ فإذا رجعنا إلى القرآن نرى تشريع الحرب كما نرى تشريع الصّلح فالآيات التي تدعو للحرب مع الكفّار والمشركين كثيرة كقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوَاْ} وغيرها من الآيات كما أن هناك آيات في الصّلح كقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا }[8]، وفي آية أخرى: {وَالصّلْحُ خَيْرٌ}[9]، إذن الإسلام دين أيهما؟ الإسلام لا يجعل الصّلح قاعدة في كلّ الظّروف كما أنّه لا يقبل الحرب دائماً بل هما تابعان للظّروف والأهداف والمسلمون سواء كانوا في زمن الرّسول’ أو في زمن أمير المؤمنين أو في زمن الإمام الحسن أو في زمن الإمام الحسين أو الأئمّة الآخرين^ أو في زماننا ففي كلّ زمان وعلى أيّ حال يجب أن يكون سعيهم لتحقيق الهدف وهدفهم الإسلام وحقوق المسلمين يجب أن يأخذوا الظّروف والأوضاع بعين الاعتبار، فإن كانوا بالقتال يمكنهم تحقيق الهدف في شكل أفضل فعليهم سلوك هذا الطّريق وإذا رأوا أحياناً أن الهدف يمكن تحقيقه بالصّلح بشكل أفضل فعليهم اختيار هذا السّبيل[10].
ـ السّيّد القائد الخامنئي~: “لا يخفى أنّ المصالح تختلف أهمّيّة كما أنّ مصاديق الجهاد تختلف كذلك، ومن المعلوم عدم إمكان التّحديد بالنّسبة إلى مراتب الأهمّيّة سواء في المصالح أو في عمليّات الجهاد في سبيل الله، وإنّما الأمر في ذلك أي: في تشخيص أهمّيّة المصلحة الدّاعية إلى الهدنة في كلّ مورد أو أهمّيّة عمليّة الجهاد المفروض في ذلك المورد، وكذا مراتب الأهمّيّة كلّها بيد من إليه أمر الجهاد وبناء على ذلك، أي على فرض وجود مراتب للمصلحة وأن المناط في الانتماء إلى المهادنة في كلّ مرحلة هو كون المصلحة فيها أهمّ من العمليّة الجهاديّة الّتي هي موضوع تلك المرحلة، فربّما وصلت أهمّيّة الصّلح والهدوء مرتبة يحكم معها بوجوبه وعدم جواز التّخلّف عنه”[11].
المصادر والهوامش
- [1] الخصال، الصّدوق، ص263.
- [2] المستدرك للحاكم، ج3، ص122.
- [3] نهج البلاغة، الخطبة الرابعة والسبعون.
- [4] أعيان الشّيعة، ج4، ص19.
- [5] صلح الإمام الحسن×، الشّيخ راضي آل ياسين، ص259- 261.
- [6] الإرشاد، الشّيخ المفيد، ج2، ص14.
- [7] حياة الإمام الحسن×، الشّيخ باقر القرشيّ، ج1، ص142.
- [8] سورة الأنفال: 61.
- [9] سورة النساء: 128.
- [10] حياة الأئمّة الأطهار^، الشّهيد مرتضى مطهّريّ+.
- [11] كتاب الهدنة، الإمام الخامنئي. ويمكن الاستفادة من دراسات قيّمة في فهم صلح الإمام الحسن× للشّيخ راضي آل ياسين، السّيّد عبدالحسين شرف الدّين&، الشّهيد السّيّد محمّد باقر الصّدر+، الشّهيد مرتضى مطهري+، السيد محمد جواد فضل الله.