أصل الخلاف بين البيت الهاشمي والبيت الأموي
إنّ من يتتبّع التأريخ يرى أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) قد أولى الإمام الحسين (عليه السلام) اهتماماً كبيراً، ولا سيّما أيّام ولادته، حيث ذكر أرباب السِيَر أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أخبر عن الأحداث المستقبليّة التي تحْدث للإمام الحسين (عليه السلام)، وبكى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لِما يجري عليه وعلى عائلته من الظلم والاضطهاد، وكذلك يروي أصحاب السِيَر أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إذا سمع بكاء الإمام الحسين (عليه السلام) وهو طفل ينكسر قلبه ويبكي ويخاطب فاطمة الزهراء (عليها السلام): يا بنيّة سكّتيه فإنّ بكاءه يؤذيني. نقول: هذه الشخصيّة العظيمة التي فجّرت الثورة الحسينيّة وحفظت لنا الإسلام الأصيل، الإسلام المحمديّ، ونفَس هذه الثورة إلى يوم القيامة يكون باقياً ضد كلّ ظالم وجائر، وضد كلّ من يتربّص بالإسلام أو المسلمين بسوء.
نريد أن نسلّط الضوء على زاوية معيّنة من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، وهي أنّ معارضة البيت الأموي للإمام الحسين (عليه السلام) والحقد الموجود في نفوسهم على آل البيت (عليهم السلام) والذي تمثَّل في كربلاء بأبشع صورة حتّى بعد قتْل الإمام الحسين (عليه السلام)، ومع العلم أنّ هناك معارضين للبيت الهاشميّ مثل سعد بن أبي وقّاص، ولكنْ لم يمارسوا هذا العنف بكلّ شدّة وقسوة.
فالسؤال المطروح هنا: متّى نشأ هذا الخلاف والحقد، هل هو من زمن خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، أو من زمن بدء الدّعوة الإسلاميّة أو أنّ هناك حوادث وأحقاد حدثت قبل زمن النبيّ (صلّى الله عليه وآله)؟ المتتبّع للتأريخ في حياة البيت الهاشميّ والبيت الأموي يجد أنّ الخلاف بينهما موجود ومتجذّر، فهنا نقطتان نسلّط الضوء عليهما بشكل مختصر: النقطة الأولى: العلاقة النسبيّة بين البيت الهاشميّ والبيت الأموي، والسلسلة النسبيّة بينهما.
النقطة الثانية: متى نشأت الخلافات، وما هي أسبابها؟ النقطة الأولى: ذكر أربابُ التأريخ والنّسب أنّ بني هاشم وبني أميّة بطنان من أب واحد، وهو عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، إلى آخر السلسلة المتصاعدة الضاربة إلى عدنان.
إذن فبنوا هاشم وبنو أميّة شجرتان متفرّعتان من جذر واحد، ولكن شتّان ما بين الشجرتين، شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، وشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
أولاد عبد مناف: ذكر أرباب النّسب أنّ أولاد عبد مناف أربعة، وهم: هاشم، وعبد شمس، ونوفل، والمطّلب.
وهنا مصبّ البحث عن عقب هاشم وعقب عبد شمس.
عقب هاشم: أمّا عقب هاشم بن عبد مناف من البنين أربعة، وهم: عبد المطلب -وهو شيبة الحمد-، ونضلة، وأسد، وأبو صيفي، وليس لهاشم عقب مستمر إلا من ولده عبد المطلب.
عقب عبد المطلب: من البنين عشرة، وهم: عبد الله، وأبو طالب، والعباس، والحارث، وأبو لهب، والحمزة، والزبير، والمقوّم، وضرار، والغيداق(1).
فعقب عبد الله وعقب أبو طالب هم من تعرّضوا للحقد، والنزاع، والقتل، والملاحقة تحت كلّ حجر ومدر.
عقب عبد شمس: أمّا عقب عبد شمس فقد ذكر المؤرخون والنّسابون أنّ لعبد شمس من البنين ثمانية أو أكثر، والمعقبون منهم سبعة، وهم: أميّة الأكبر، وأميّة الأصغر، وعبد أميّة، وحبيب، ونوفل، وعبد العزّى، وربيعة.
البيت ينحدر من أميّة الأكبر، وبه يُقال لبنيه بالخصوص «بنو أميّة» على الإطلاق.
عقب أميّة الأكبر: وعقب أميّة الأكبر من البنين خمسة، وهم: حرب، والعاصي، وأبو العاص، والعيص، وأبو العيص، مع العلم أنّ له أكثر من خمسة أولاد.
وحديثنا هنا مع ابنه حرب، وله جماعة من الأولاد ولكن ليس له عقب إلا من أبي سفيان «صخر بن حرب».
عقب أبو سفيان: من بنيه الكثيرين في أربعة منهم: معاوية، ومحمّد، وعنبسة، وعتبة، وأمّا عقب معاوية في ابنه يزيد، وعقب يزيد من بنيه ابنيه خالد وعبد الله(2). ملاحظة: قبل الدخول في هذه الخلافات نتعرّض إلى بعض صفات وسمات الشخصيات التي تدور حولها الأحداث، وهما: هاشم، وعبد شمس.
صفات هاشم وسماته: ذكر أرباب التأريخ في صفات هاشم وسماته أنّه كان غضّ الشباب، وريّق العمر، طيب النشر، باسم الثغر، نضير الغصن، أغر الجبين، أنف العرنين، صبيح الوجه، مبارك الطلعة، رشيق القوام، مترف الهندام.
ذكروا عنه أيضاً في صفاته النفسيّة، أنّه كان يتمتّع بسعة الصدر، وسماحة الطبع، ولين الجانب، ورقّة الشمائل، وكبرياء النبل، وبذخ الشرف، وقوة النفس، وتفهم الأحداث، ووضع الحلول المناسبة لها.
صفات عبد شمس وسماته: أمّا صفات عبد شمس فهنا نورد كلاماً نقله ابن أبي الحديد عن أبي عثمان الجاحظ قال: “إنّ شيخنا أبا عثمان قال: إنّ أشرف خصال قريش في الجاهليّة اللواء، والسقاية، والرفادة، وزمزم، والحجابة، وهذه الخصال مقسومة في الجاهليّة لبني هاشم وعبد الدّار وعبد العزّى دون بني عبد شمس.
قال شيخنا أبو عثمان: وكان اسم هاشم عمرواً، وهاشم لقب، فغلب هذا اللقب على اسمه حتّى صار لا يُعرف إلا به، وليس لعبد شمس لقب كريم، ولا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف، ولم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه، ويرفع من قدره، ويزيد في ذكره، ولهاشم عبد المطلب سيّد الوادي غير مدافع، أجمل النّاس جمالاً، وأظهرهم جوداً، وأكملهم كمالاً، وهو صاحب الفيل والطير الأبابيل، وصاحب زمزم، وساقي الحجيج، وولد عبد شمس أميّة -وأمية نفسه- ليس هناك وإنّما ذكر بأولاده، ولا لقب له، ولعبد المطلب لقب شهير، واسم شريف (شيبة الحمد)، وإنّما عرف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي، وبني ابنه أميّة بن عبد شمس، وهاشم شرف بنفسه وبأبيه عبد مناف وبابنه عبد المطلّب.
ويختم كلامه بقوله: وشرف هاشم متّصل من حيث عددت كان الشرف معك كابراً عن كابر، وليس بنو عبد شمس كذلك”(3).
النقطة الثانية:- متّى نشأت الخلافات وما هي أسبابها؟ أوّلاً: ذكر المؤرخون بأنَّ هاشم وعبد شمس توأمان في بطن واحد، وقد لصقت إبهام رجل هاشم في جبهة عبد شمس فلمّا نزعت بالسيف أو المدية دمي المكان فتطيّرت قريش، فقالوا: سيكون بينهما وبين أولادهما السيف والدم إلى الأبد(4).
ثانياً: من خلال الصفات التي ذكرناها لهاشم، ولم يكن لعبد شمس شيء منها، أوغلت هذه الصفات صدر عبد شمس إذ لم يمتلك عبد شمس كما كان يمتلكه هاشم، ولا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف، ولم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه ويرفع من قدره ويزيد في ذكره.
وعلى هذا باعد الحسد بين الأخوين وبين أبنائهما من ذلك المنطلق، فكانت الشرارة الأولى للخلاف بين البيت الهاشمي والبيت الأموي هي الحسد، وللأسف الشديد فقد ورّث هذا الحسد إلى الأبناء والأحفاد، بل حتّى الأتباع أيضاً.
* يروي ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج عن جعفر بن مكّي الحاجب، فيما سأل هو الآخر محمد بن سليمان حاجب الحجاب، فقال: “قال جعفر: سألت عمّا عنده في أمر عليّ وعثمان؟ فقال: هذه عداوة قديمة النّسب بين بني عبد شمس وبني هاشم، وقد كان حرب بن أميّة نافر عبد المطلب بن هاشم، وكان أبو سفيان يحسد محمداً (صلّى الله عليه وآله) وحاربه، ولم تزل الثنتان -أي القبيلتان- متباغضتين وإن جمعتهما المنافيّة-أي وحدة الأبوة في عبد مناف بن قصي-“(5).
* يقول الدكتور حسن إبراهيم حسن: “كان العداء بينهم -أي بين بني هاشم وبين بني أميّة- قديماً منذ الجاهليّة ولم يزد الإسلام إلا شدّة، فبنو حرب لم ينسوا ما كان من حمزة وما كان من عليّ يوم بدر، كما أنّ بني هاشم لم ينسوا ما كان من هند يوم أحد”(6).
وهنا نذكر ثلاث منافرات حدثت بين البيت الهاشمي والبيت الأموي بشكل مختصر.
المنافرة الأولى:- حصلت بين هاشم وابن أخيه أميّة الأكبر بن عبد شمس: قال ابن الأثير في الكامل: “وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف ما كان إليه من السقاية والرفادة، فحسده أميّة بن عبد شمس على رئاسته وإطعامه، فتكلّف أن يصنع صنيع هاشم فعجز عنه، فشمتت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنّه وقدره، فلم تدعه قريش حتّى نافره على خمسين ناقة، والجلاء عن مكّة عشر سنين، فرضي أمّية، وجعلا بينهما الكامن الخزاعي، وهو جد عمرو بن الحمق، ومنـزله بعسفان وكان مع أميّة همهمة بن عبد العزّى الفهري وكانت ابنته عند أميّة.
فقال الكاهن: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجوّ من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغائر، لقد سبق هاشم أميّة إلى المآثر، أوّل منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر.
فقضى لهاشم بالغلبة، وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها، وغاب أميّة عن مكّة بالشام عشر سنين، فكانت هذه أوّل عداوة وقعت بين هاشم وأميّة”(7).
المنافرة الثانية:- منافرة عبد المطلب وأميّة: عاد أميّة من المنفى بعد انقضاء أجله الذي فرضه عليه هاشم في منافرته معه من الشام إلى مكّة ممتلأ صلفاً ولؤماً وحقداً، فوجد هاشماً قد مات في غيابه، وخلفه من ولده من لا يقل عنه شأناً ومقاماً، وهو شيبة الحمد، وفتى هاشم عبد المطلب.
فظنّ أميّة ولسوء حظّه العاثر أنّه كان قد أخفق في منافرته مع الأب فسينجح فيها مع الابن؛ ليستردّ ولو بعض الشيء ممّا خسره في الصفقة الأولى من المال والكرامة، فأخذ يُفاخر عبد المطلب ويُباريه بكلّ ما يعمل، ويتظاهر بمميّزاته، وحضر بعد مطاولة ومزاولة دارت بينه وبين عبد المطلب أن يراهنه ويباهله عبد المطلب على سباق فرسين لكلّ منهما فرس، وفرضت هذه المراهنة على المغلوب منهما مائة ناقة، وعشرة عبيد، ومثلها من الإماء، مع إجلاء سنة كاملة، وجزّ الناصية، فتمّ الموعد وانعقد المحضر من عموم قريش وحلفائها، وتبارى الفرسان يطويان الأرض، فتعالى الصياح من الحاضرين، ولم يلبثوا طويلاً حتّى رأوا جواد عبد المطلب يطوي المسافة، ويقف على مركز الهدف قبل أن يصل إليه فرس مناوئه أميّة، فتمّ الربح لعبد المطلب، ورضخ أميّة لتلك الشروط الثقيلة عليه، فأخذ عبد المطلب النوق ووزعها على قريش، وهكذا فعلب بالعبيد والإماء، وأراد عبد المطلب أن يجزّ ناصية أميّة تطبيقاً لكمال الشروط، ولكنّ أميّة افتدى جزّ ناصيته بأن يستعبده عبد المطلب عشر سنين، وقبل عبد المطلب ذلك الفداء من أميّة لعلّه يتذكّر أو يخشى.
ويختم ابن أبي الحديد هذا الكلام بقوله:” فكان أميّة بعد حشم عبد المطلب وعضاريطه عشر سنين، والعضاريط جمع عضروط، وهو الرجل الذي يخدم بطعامه بطنه”(8).
وهنا نورد ملاحظتين عن أميّة بن شمس: الملاحظة الأولى: ذكر بعض المؤرخين أنّ أميّة الأكبر ليس ابن عبد شمس، بل عبد تبنّاه عبد شمس وألحقه به كما هي عادة العرب في زمان الجاهليّة، وكان غلاماً روميّاً.
ويشهد لهذه الدعوى دليلين: الدليل الأوّل: مكاتبة دارت بين معاوية والإمام علي (عليه السلام)، حيث كتب معاوية إلى عليّ (عليه السلام) متطاولاً ومتنمراً: “ونحن عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل، إلا فضل واحد -ويقصد النبوة- لا يستذلّ به عزيز ولا يسترقّ به حر…”.
فأجابه الإمام علي (عليه السلام) بكتاب جاء فيه: «وأمّا قولك إنّا بنو عبد مناف فكذلك نحن، ولكن ليس أميّة كهاشم، ولا حرب كعبد المطّلب، ولا أبو سفيان كأبي طالب، ولا المهاجر كالطليق، ولا الصريح كاللصيق، ولا المحق كالمبطل، ولا المؤمن كالمدغل، ولبئس الخلف خلف يتبع سلفاً، هوى في نار جهنّم، وفي الدنيا.
بعدُ فضل النبوة التي أذللنا بها العزيز، ونعشنا بها الذليل، ولمّا أدخل الله العرب في دينه أفواجاً، وأسلمت له هذه الأمة طوعاً وكرماً كنتم ممّن دخل في الدّين، إمّا رغبة وإمّا رهبة على حين فاز أهل السبق بسبقتهم، وذهب المهاجرون الأولون بفضلهم، فلا تجعلنّ للشيطان فيك نصيباً، ولا على نفسك سبيلاً، والسلام»(9).
نلحظ من كلامَ أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: «ولا الصريح كاللصيق» لرأيناها واردة في عرض المقابلة، والتمايز بين أفراد القبيلتين المنحدرتين من أب واحد، ولرأيناها منصبّة أكثر في خصوص التمايز بين بني هاشم وأميّة باعتبارهما المنطلقين الشاخصين لكلتا الأسرتين من حيث الفخر والفضيلة، والخزي والرذيلة.
ونستنتج أيضاً التلميح على الأقل إلى ذلك التشكيك في صحة نسب أميّة ووضوح انتمائه إلى قريش.
الدليل الثاني: قال أبو طالب في أبيات شعر يشير بها إلى تظاهر بن عبد شمس ونوفل عليه وعلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على إثر الدعوة الإسلاميّة:
توالى علينا موليانا كلاهما إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر
بلى لهما أمر ولكن تراجما كما ارتجمت من رأس ذي القلع الصخر
أخص خصوصاً عبد شمس ونوفلاً هما نبذانا مثلما نبذ الخمر
هما أبغضا للقوم في أخويهما فقد أصبحت أيديهما وهما صفر
قديما «أبوهم» كان عبداً لجدّنا بني أميّة شهلاء جاش بها البحر(10)
ففي هذا البيت الأخير يشير أبو طالب إلى عبوديّتين لأميّة: الأولى مجازيّة: وهي ما تضمنها صدر البيت، إشارة إلى قصة استبعاد عبد المطلب لأميّة عشر سنين على أثر رهان ومباهلة، ويقصد بكلمتي «أبوهم» و«جدّنا» الجدّين الأعليين لأسرتي أميّة وهاشم.
الثانية حقيقية: وهي ما تضمنه عجز البيت المذكور، فالمقصود بنو أميّة الذي هو شيء قذفه البحر إلى الحجاز من التجارات الواردة إليه من الروم وغيرها، ولعلّ في وصف «الأمة» بـ«شهلاء» ممّا يؤيّد المعنى المقصود حيث أنّ الشهل: هو الزرقة المشابه بالسواد في العين كانت معروفة يومئذٍ في العيون الروميّة أكثر.
الملاحظة الثانية: الرواية الأولى في صفات أمية: روى ابن أبي الحديد عن أغاني الإصفهاني: “إنّ معاوية قال لدغفل النّسابة: أرأيت عبد المطلب؟، قال: نعم، قال: كيف رأيته؟، قال: رأيته رجلاً نبيلاً وضيئاً كان على وجهه نور النبوّة وعز الملك.
قال معاوية: أفرأيت أميّة؟، قال: نعم، قال: كيف رأيته؟، قال: رأيته رجلاً ضئيلاً نحيف الجسم منحني القامة أعمى يقوده عبده ذكوان”(11).
الرواية الثانية: روى ابن أبي الحديد أنّه روى الوليد بن هشام بن قحذم، قال عثمان يوماً: “وددت أنّي رأيت رجلاً قد أدرك الملوك يحدّثني عمّا مضى؟ فذكر له رجل بحضرموت فبعث إليه فحدّثه حديثاً طويلا إلى أن قال له عثمان: أرأيت عبد المطلب بن هاشم؟، قال: نعم رأيت رجلاً قعداً «بكسر فسكون» بمعنى حسن الهيئة، أبيض طويلاً مقرون الحاجبين بين عينيه غرّة يُقال: إنّ فيها بركة، وإنّ فيه بركة. قال: أفرأيت أميّة بن عبد شمس؟، قال: نعم رأيت رجلاً آدم ذميماً قصيراً أعمى، يُقال إنّه نكد، وإنّ فيه نكداً، فقال عثمان: يكفيك من شرّ سماعه، وأمر بإخراج الرجل من مجلسه”(12).
المنافرة الثالثة:- منافرة حرب لعبد المطلب: روي أنّ حرب بن أميّة وريث أبيه في غروره نافر عبد المطلب شيبة الحمد، وذؤابة المجد، من أجل يهوديّ كان في جوار عبد المطلب، قُتل وأخذت أمواله في قصّة طويلة، فأدّت الخصومة بين الشخصين إلى حضورهما نفيل بن عبد العزّى بن رباح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عديّ بن كعب، وكان الرجل معروفاً بالكهانة والعرافة والنسب ومن حكّام قريش قبل الإسلام.
فلمّا بصر بهما الرجل مقبلين عليه أصابته الدهشة واستغرب أن ينافر رجلاً بمنتهى العظمة كعبد المطلب بن هاشم وظلّ يرمقهما ببصره، حتّى إذا حضرا أمامه التفت إلى حرب قائلاً بلغة السّجع والكهانة «أبا عمرو» أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأوسم منك وسامة، وأقلّ منك لامة، وأكثر منك ولداً، وأجزل منك صفداً، وأطول منك مذوداً، ثمّ أخذ الكاهن ينفر حرب بن أميّة ويشير إلى عبد المطلب، ويقول:
أبوك معاهر وأبوه عفّ وذاد الفيل عن بلد حرام(13)
فأشار إلى صفات أبيه، وأبي عبد المطلب، وأيضاً صفات عبد المطلب نفسه.
توراث العداوة بين القبيلتين وجاء دور سيّد البشر وخيرة العرب وفخر قريش وعميد الهاشميّين النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فما إن صدع برسالة الإسلام حتّى كان بنو أميّة في طليعة من انتدب لمنافرته ومنافرة مناصريه من الهاشميّين وغيرهم، وتأليب كفّار قريش وسفهاء الأعراب عليه وعلى مناصريه أيضاً، على طول المسيرة الإسلاميّة، حتّى جاء دور الإمام علي (عليه السلام) ونافره معاوية وحاربه، وأظهر ذلك الحقد والحسد الدفين حتّى مع الإمام الحسن (عليه السلام) حتّى جاء دور سيّد الشهداء (عليه السلام)، وأظهر يزيد بن معاوية الأحقاد، وأفرط في مواجهة البيت الهاشميّ وعلى رأسهم الإمام الحسين (عليه السلام)، وكذلك تتبع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) وشيعتهم ومواليهم تحت كلّ حجر ومدر.
الخلاصة: إنّ هذا العداء والحقد من البيت الأموي للبيت الهاشمي لم يكن وليد ساعة، بل خلافاً قديماً بين الأجداد، وقد ورّث هذا الحسد والحقد إلى الأبناء والأحفاد، بل حتّى الأتباع.
والحمد لله رب العالمين.
المصادر والهوامش
- (1) السيرة النبوية لابن هشام، ج1، ص2/ نهاية الإرب للنويري، ج16، ص3/ أعلام الورى للطبرسي، ص6/ مروج الذهب للمسعوديّ، ج2، ص274.
- (2) معارف ابن قتيبة ص72-74/ تأريخ الخلفاء للسيوطي ص147-164، ص195-250/ العقد الفريد للأندلسي، ج3، ص316، ج4، ص360/ سير أعلام النبلاء للذهبي، ج1-3/ جمهرة الأنساب لابن حزم ص78-115.
- (3) شرح النهج للحديديّ، ج15، ص198-206.
- (4) النزاع والتخاصم للمقريزي ص10-11/ تاريخ الطبري، ج2، ص252/ كامل ابن الأثير، ج2، ص10.
- (5) شرح النهج للحديدي، ج9، ص24.
- (6) تأريخ الإسلام، ج1، ص375.
- (7) ابن الأثير في الكامل، ج2، ص10/ تاريخ الطبري، ج2، ص253/ النزاع والتخاصم للمقريزي، ص12.
- (8) شرح النهج للحديديّ، ج15، ص231.
- (9) شرح النهج للحديديّ، ج15، ص117/ صفين لنصر بن مزاحم ص117-538/ الإمامة والسياسة لابن قتيبة، ج1، ص118/ مروج الذهب للمسعودي، ج2، ص61/ ربيع الأبرار للزمخشري باب 66.
- (10) شرح النهج للحديديّ، ج15، ص231.
- (11) شرح النهج الحديديّ، ج15، ص233.
- (12) شرح النهج الحديديّ، ج15، ص233.
- (13) النزاع والتخاصم، ص12/ شرح النهج الحديديّ، ج15، ص207.