والعصر منهج حياة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم * وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}(1).
سورة العصر من السور القصار في القرآن الكريم، وقد اختلف في كونها مكية أو مدنية إلاّ أن الظاهر أنها سورة مكية لقصر آياتها وتأكيدها على العقائد الرئيسية -التوحيد والنبوة والمعاد- فإنّ هذه الأمور تعد مؤشراً على كونها مكية.
وقد ذكر صاحب تفسير الأمثل في هذا الشأن: “المعروف أنّ هذه السّورة مكّية، واحتمل بعضهم أنها مدنية. ويشهد على مكّيتها لحنُها ومقاطعها القصيرة”(2).
وذكر صاحب تفسير رغائب القرآن وغرائب الفرقان ما نصه: “وهي مكية وقال المعدل وقتادة: مدنية…”.
وقد حكى صاحب التبيان أنها مكية ونسب ذلك إلى ابن عباس والضحاك حيث قال: “مكية في قول ابن عباس والضحاك، وهي ثلاث آيات بلا خلاف في جملتها وإن اختلفوا في تفصيلها”(3).
وقد ذكر صاحب تفسير الكاشف أنها مكية أيضا، وهذا ما عليه صاحب التفسير المبين وتفسير المعين وتفسير بيان السعادة بل أغلب المفسرين.
فضلــهــا روي في فضل هذه السورة عدة روايات: ففي ثواب الأعمال عن الصّادق (عليه السلام): «من قرأ والعصر في نوافله، بعثه الله يوم القيامة مشرقا وجهه ضاحكا سنّه، قريرا عينه، حتّى يدخل الجنّة».
أخبرنا كامل بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن مطر قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك قال: حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا سلام بن سليم قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن مسلم، عن أمّه، عن أبي أمامة، عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه (صلّى الله عليه وسلم): «من قرأ سورة والْعَصْرِ ختم الله له بالصبر، وكان مع أصحاب الحق يوم القيامة»(4).
وأخرج الطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي مليكة الدارمي وكانت له صحبة قال: كان الرجلان من أصحاب رسول (صلّى الله عليه وسلم) إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الأخر سورة والْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إلى آخرها ثم يسلم أحدهما على الأخر(5).
المعنى العام للسورة أمّا الحديث عن معناها فقد كتب المفسرون عنها الكلمات العجاب حيث قال صاحب تفسير في ظلال القرآن: “في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام.
وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة، إنها تضع الدستور الإسلامي كلَّه في كلمات قصار، وتصف الأمة المسلمة، حقيقتها ووظيفتها في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة.. وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا اللّه.. والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه: إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار، وامتداد الإنسان في جميع الأدهار، ليس هنالك إلا منهج واحد رابح، وطريق واحد ناجٍ. هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده، وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه.
وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار..”(6).
وقد كتب صاحب تفسير الوسيط (زحيلي) تحت عنوان (أصول النجاة): “… ليست النجاة بين يدي اللّه (عزّ وجلّ) بالمال أو الجاه، أو العلم، أو الابتكار، أو العمل الدنيوي المحض، أو غير ذلك من زخارف الحياة، ومظاهر العيش التي يتنافس فيها الناس، ويحرصون عليها، وإنما النجاة بين يدي اللّه إما بموقف كريم يعتمد على قاعدة الإيمان الصحيح بالله ورسوله، وإما بأصول أربعة هي: جسر النجاة في الموازين الإلهية، ألا وهي الإيمان الثابت، والعمل الصالح، والتواصي بالتزام الحق والعدل والخير، والتواصي بالصبر على الطاعة وعلى مصائب الدنيا، وهذا ما حكم به اللّه سبحانه في سورة العصر المكية عند الأكثرين”.
وقال بعد ذلك بسطور: “هذه سورة جامعة لأصول الخير والنجاة عند اللّه تعالى، قال الإمام الشافعي رحمه الله: لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم، لو لم ينـزل غير هذه السورة لكفت الناس، لأنها شملت جميع علوم القرآن”(7).
“قال الآلوسي: وهي على قصرها جمعت من العلوم ما جمعت”(8).
وذكر صاحب تفسير الميزان: “تلخص السورة جميع المعارف القرآنية وتجمع شتات مقاصد القرآن في أوجز بيان”(9).
أمّا صاحب تفسير من وحي القرآن فقد كتب: “هذه السورة القصيرة في كلماتها، الكبيرة في معانيها، تلتفت إلى الزمن كلِّه الحاوي للإنسان كلِّه، ليمنحه الفرصة الواسعة التي تدفعه إلى الفلاح في الدنيا والآخرة.
ثم توجه الإنسان إلى أن الخسارة سوف تحيط به من كل جانب، إذا لم يأخذ بأسباب الربح التي تؤكد له حركة إنسانيته في اتجاه بناء الحياة على الحق في عمق وحيه الفكري والعملي، في الانفتاح على اللّه في خط الإيمان والعمل الصالح، في ما يمكن للإنسان أن يأخذ به في حياته الفردية في ذاتية الروح الإيمانية، وفي خصوصية فكره وشعوره، وفي حركية الإيمان في خطه العملي في ما يمثله العمل الصالح، وفي التعمّق في المسؤولية الاجتماعية التي تلتقي عند الحق عندما يضعف تأثيره في الواقع بفعل التيارات المتنوعة التي تملك القوّة المادية، فتحيط بالحق لتضغط عليه بمختلف الضغوط وأقساها لتضعف تأثيره في نفوس أصحابه، فيتواصون بالحفاظ عليه والالتزام به والإصرار عليه.
وتلتقي عند كلِّ أوضاع الحرمان ومواقع الآلام التي قد تدفع المؤمنين إلى السقوط تحت تأثير ذلك كلِّه.
وربما ينفرد الطغاة بجماعة هنا ليسلّطوا عليها كلَّ العذاب، وبجماعة هناك، ليطبقوا عليها بكلِّ الحرمان، ليسقطوا بفعل الضعف الغريزيّ الإنسانيّ، فيتواصون بالصبر ليشدَّ بعضهم بعضاً، ويقوّي بعضهم بعضاً، ليستمروا على الإيمان والعمل الصالح، فتستمر الحياة على الخطِّ المستقيم”(10).
وقد أشار صاحب تفسير الأمثل إلى شمولية السورة بآياتها القصار إلى مضامين القرآن حيث كتب: “شمولية هذه السّورة تبلغ درجة حدت ببعض المفسّرين إلى أن يرى فيها خلاصة كلِّ مفاهيم القرآن وأهدافه.
بعبارة أخرى: هذه السّورة -رغم قصرها- تقدم المنهج الجامع والكامل لسعادة الإنسان.
تبدأ السّورة من قَسم عميق المحتوى بالعصر.
وسيأتي تفسيره. ثمّ تتحدث عن خسران كلِّ أبناء البشر خسراناً قائماً في طبيعة حياتهم التدريجية.
ثمّ تستثني مجموعة واحدة من هذا الأصل العام، وهي التي لها منهج ذو أربع مواد: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهذه الأصول الأربعة هي في الواقع المنهج العقائدي والعملي الفردي والاجتماعي للإسلام”(11).
هذا بعض ما ذكره المفسرون في بيان المعنى العام لسورة العصر.
وأمّا الحديث عن المعنى التفصيلي لهذه السورة فيكون تحت عناوين: أولاً: بيان معنى كلمة {والعصر} كلمة (العصر) في الأصل الضغط، وإنّما أُطلق على وقت معين من النهار لأنّ الأعمال فيه مضغوطة.
ثمّ أُطلقت الكلمة على مطلق الزمان ومراحل تاريخ البشرية، أو مقطع زماني معين، كأن نقول عصر صدر الإسلام.
ولكن الكلام لماذا أقسم الله بالعصر وأيّ معنى يريد الله (سبحانه وتعالى) أن يقسم به لأن الله (سبحانه وتعالى) لا يقسم في القرآن الكريم إلا بشيء ذي أهمية، لذا كل من ذكر معنى من المعاني في تفسير سورة العصر تراه يبرر لهذا المعنى لكي ينسجم مع السياق من جهة، ويتناسب مع القسم الإلهي من جهة أخرى، وعليه تم ذكر معاني متعددة وكثيرة لكلمة (العصر) نذكر بعضاً منها مع ما ذكر من استدلال على المعنى المذكور: 1- قيل: إنّه وقت العصر من النهار، بقرينة وجود مواضع أخرى أقسم اللّه فيها بأوّل النهار كقوله تعالى: {وَالضُّحى} أو {والصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ}.
وإنّما أقسم بالعصر لأهميته، إذ هو في وقت من النهار يحدث فيه تغيير في نظام المعيشة وحياة البشر، فالأعمال اليومية تنتهي، والطيور تعود إلى أوكارها، وقرص الشمس يميل إلى الغروب، ويتجه الجو إلى أن يكون مظلماً بالتدريج.
2- وقيل: انّه كلّ الزمان وتاريخ البشرية المملوء بدروس العبرة، والأحداث الجسيمة.
وهو لذلك عظيم يستحق القَسم الإلهي.
3- وقيل:انّه فترة زمنية خاصة ومحدّدة وهي عصر النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) لأن في عصره (صلّى الله عليه وآله) انتشر الإسلام على وجه البسيطة وانطلق نورُ الإسلام إلى كلِّ العالم؛ لذلك أقسم الله تعالى بهذه الفترة الزمنية الخاصة لما لها من تأثير وخير على البشرية.
4- وقيل:إنّه فترة زمنية خاصة أيضاً، ولكن ليس كما ذهب إليه البعض من أنها فترة البعثة النبوية وعصر النبي الأكرم (صلّى الله عيه وآله) بل هي فترة ظهور الإمام الحجة المنتظر؛ لأنَّ في فترة ظهور الإمام سيعمّ السلام والعدل في كلِّ أرجاء الأرض وسوف يتحقق هدف البعثة للأنبياء حيث إنهم بعثوا لإقامة العدل والقسط في الأرض، وهذا ما سيتحقق بظهوره .
ولدينا في المقام حديث عن ابن بابويه عن أحمد بن هارون عن جعفر بن محمد بن مسرور عن علي بن الحسين بن شاذويه جميعاً عن محمد بن عبد الله بن جعفر بن جامع الحميري عن أبيه عن محمد بن الحسين بن زياد الزيات عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر: قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) عن قول اللَّه (عزّ وجلّ): والْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ؟- قال: «العصر عصر خروج القائم (عليه السلام) وإن الإنسان لفي خسر أعدائنا»(12).
5- وقيل: إنّ الكلمة يراد بها صلاة العصر؛ لأنّها (الصلاة الوسطى) التي أمر اللّه أن يحافظ عليها خاصّة.
وأنه سبحانه أقسم بصلاة العصر لا بالعصر نفسه من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أمّا الغرض من القسم بصلاة العصر فهو التنبيه على فضلها كما في قوله تعالى: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى}(13).
6- وقيل: هو الليل والنهار، ويقال لهما العصران عن ابن كيسان.
7- وبعضهم عاد إلى الأصل اللغوي للكلمة، وقال: إنّ القسم في الآية بأنواع الضغوط والمشاكل التي تواجه الإنسان في حياته، وتبعث فيه الصحوة وتوقظه من رقاده، وتذكّره باللّه سبحانه، وتربّي فيه روح الاستقامة.
8- وقيل: إنّها إشارة إلى «الإنسان الكامل» الذي هو في الواقع عصارة عالم الوجود والخليقة.
9- وقيل: الشتاء والصيف، لأنهما يسميان العصرين(14).
10- وقيل: الدهر، وهو الوقت والزمان؛ لما فيه من عجائب الحوادث الدالة على القدرة الربوبية وغير ذلك. ولكن الأنسب منها هو القسم بالزمان وتاريخ البشرية. وذلك لثلاثة أدلة:
1- لأنّ القَسم القرآني يتناسب مع الموضوع الذي أقسم اللّه من أجله، وأن خسران الإنسان الحياة ناتج عن تصرّم عمره الذي يمثل رأس ماله كما سيتضح.
2- السياق؛ فإنَّ قوله تعالى بلا فاصل: {إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} يشعر بأنَّ الإنسان الخاسر هو الذي لا يغتنم فرصة الوقت، ولا يبادر إلى عمل ينتفع به قبل فوات الأوان، وهذا يتناسب مع الزمن والوقت والدّهر؛ لأنَّ الحديث في الآية الكريمة عن خسران الإنسان بسبب غفلته عن رأس ماله وهو الزمن -العمر-.
3- رواية ابن عباس حين سُئل عن معنى العصر قال: هو الدهر.
وهو قول الكلبي والجبائي أيضاً. هذه أهم المعاني التي ذكرت في معنى كلمة (العصر).
ثانياً: في بيان معنى {إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْر} إن الآيات الكريمة فيها عدة تأكيدات على حقيقة حتمية؛ فبدأت بالقسم وهو تأكيد كبير جداً ويكفي، إلاّ أن الآية التي لحقته اشتملت على عدة مؤكدات أُخر لتؤكد الحقيقة نفسها، الحقيقة الخطيرة وهي أن الإنسان في خسر، فـ(إنَّ) و(اللام) التي تدخل على في -لفي- كلها تؤكد على نفس الحقيقة.
والمراد بالإنسان جنسه، والخسر والخسران والخسار والخسارة نقص رأس المال قال الراغب: “وينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته” انتهى.
والتنكير في {خُسْرٍ} للتعظيم، ويحتمل التنويع؛ أي في نوع من الخسر غير الخسارات المالية والجاهية قال تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ}(15).
إنّ الله (سبحانه وتعالى) قد وهب كلَّ إنسانٍ رأسَ مال ليتاجر فيه معه (سبحانه وتعالى) ويستثمره بالشكل الصحيح، حيث إنّ الله سبحانه أعطى كلَّ واحد من بني البشر فترة من الزمن يعيش فيها على قيد الحياة، فإمّا أن يستفيد من هذه اللحظات وهذا العمر في العمل الصالح وإلاّ فهو في خسارة وما أعظمها من خسارة، إن الإنسان في تجارته بالأموال يملك خيارين: إمّا أن يجمّد أمواله ويحفظها في البنك أو في أيّ مكان آخر، وإمّا أن يتاجر فيها في أيّ عمل تجاري.
إذاً هو بالخيار بين تجميد رأس ماله وبين أن يتاجر به ويستثمره.
ولكنّ المسألة مختلفة جداً في رأس المال الذي يعطيك إيّاه الله (سبحانه وتعالى) حيث إنّ رأس المال هذا في تناقص دائم وبدون اختيار منّا.
“الإنسان يخسر ثروته الوجودية شاء أم أبى، تمرّ الساعات والأيّام والأشهر والأعوام من عمر الإنسان بسرعة، تضعف قواه المادية والمعنوية، تتناقص قدرته باستمرار.
نعم، إنّه كشخص عنده ثروة عظيمة، وهذه الثروة يؤخذ منها كلّ يوم شيء باستمرار رغم إرادته، هذه طبيعة الحياة الدنيوية… طبيعة الخسران المستمر! القلب له قدرة معينة على الضربان، وحين تنفذ هذه القدرة يتوقف القلب تلقائيا دون علّة من عيب أو مرض.
هذا إذا لم يكن توقف الضربان نتيجة مرض.
وهكذا سائر الأجهزة الوجودية للإنسان، وثروات قدراته المختلفة”(16).
ينقل الفخر الرازي في تفسير هذه الآية عن أحد الصالحين ما ملخصه: أنّه تعلم معنى هذه الآية الكريمة من بائع ثلج كان يصيح ويقول: ارحموا من يذوب رأس ماله، ارحموا من يذوب رأس ماله(17).
إنّ هذا المعنى موجود في ضمن روايات أهل البيت (عليهم السلام) فقد روي عن الإمام علي الهادي (عليه السلام): «الدنيا سوقٌ، ربحَ فيها قومٌ، وخسر آخرون»(18).
وروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «نفس المرء خطاه إلى أجله»(19).
وروي عنه (عليه السلام): «الدنيا مزرعة الآخرة».
فكلُّ هذه الروايات وغيرها تؤكد على هذه الحقيقة التي لا فرار منها وهي أن رأس مال الإنسان في تناقص دائم، وأنّ كلَّ نبضة ينبض بها قلب هذا الإنسان هي في حقيقتها خطوة منه نحو قبره، ونحو مصيره الحتمي.
فهذا الأمر يجعل الإنسان بين خيارين لا ثالث لهما: إمّا التجارة مع الله (سبحانه وتعالى) وفق المنهج الذي رسمه لنا -وسيأتي بيانه-، وإمّا الخسران المبين والكبير.
هذا الكلام ينطبق على من يقضي وقته في الترّهات والأمور التي لا فائدة فيها، والتي لا قيمة لها فضلاً عن أولئك الذين يقضون أوقاتهم بعيدين عن الله (سبحانه وتعالى)، أو أولئك الذين يقضون أوقاتهم في معصية الله (عزّ وجلّ)، فإن الخسران بالنسبة إلى هؤلاء يكون أوضح وأجلى.
“هناك من ينفق رأس مال عمره وحياته مقابل الحصول على مال قليل أو كثير، على بيت صغير أو فخم.
هناك من ينفق كلَّ رأس المال هذا من أجل الوصول إلى منصب أو مقام.
وهناك من ينفقه في سبيل أهوائه وملذاته.
ليس أيّ واحد من هذه الأمور -دون شك- يمكن أن يكون ثمناً لتلك الثروة العظيمة… ثروة العمر… ثمنها الوحيد رضا اللّه سبحانه ومقام قربه لا غير.
قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): «إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنّة فلا تبيعوها إلا بها».
وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في دعاء شهر رجب: «خاب الوافدون على غيرك وخسر المتعرضون إلا لك».
ومن هنا كان أحد أسماء يوم القيامة (يوم التغابن) كما جاء في قوله سبحانه: {ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ}.
أي ذلك اليوم الذي يظهر من هو المغبون والخاسر. إنّه لتنظيم رائع في علاقة العبد بربّه.
فهو سبحانه من جهة يشتري رأس مال وجود الإنسان: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ…}، ومن جهة أخرى يشتري سبحانه رأس المال القليل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}.
ومن جانب آخر يدفع مقابل ذلك ثمناً عظيماً يبلغ أحياناً عشرة أضعاف وأحياناً سبعمائة ضعف، وأحياناً أكثر: {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ}.
وكما ورد في الدعاء: «يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير».
ومن جهة رابعة، فإنّ كلّ رؤوس أموال الإنسان وثرواته قد وهبها اللّه إيّاه… واللّه بفضله ومنّه ولطفه يعود ليشتري هذه الثروات نفسها بأغلى الأثمان!”(20).
“حينما يعي المؤمن هذه الحقيقة يبادر بالعمل الصالح حتى يستوعب كلَّ لحظة وكلَّ لمحة وكلَّ سعرة حياتية من حياته بما يحول الخسارة فلاحاً وأملاً، فإنَّ أتعبه الكفاح من أجل العيش استراح إلى الصلاة ليتزود منها الحيوية، وإذا أرهق عضلاته الجهد البدني شغل لسانه بالشكر، وقلبه بالفكر، ونفسه بالحب والشوق إلى لقاء ربِّه، وقد ترى أعضاءه غارقة في جهد بدني يفلح الأرض، أو يسعى على مناكبها طلباً للرزق، أو يسخّر ما فيها لتوفير العيش وفي ذات الوقت تجد قلبه في ذكر اللّه، والتدبر في آياته، ولسانه يلهج بحبّ اللّه.
إنه متعدد الأبعاد، واسع النشاط، عريض الطموح، سامي الهمّة؛ لأنه قد وعى حقيقة الزمن، وتزود بسلاح تحدّيه عبر العمل الصالح”(21). وهذا هو المعنى التي تشير إليه الآية التي لحقت بها حيث استثنت من بني البشر صنفاً واحداً لن يكون من الخاسرين، وهذا الصنف لن يخرج من دائرة الخسران إلا إذا اتصف بمنهج ذي أربع مواد وعناصر سيأتي بيانها في تفسير بقية الآيات.
ثالثاً: بيان الأصل الأول:{إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} العنصر الأول التي تذكره الآية الكريمة هو: (الإيمان) إنَّ الإيمان يمثل الأساس الذي يبتني عليه كلُّ أفعال الإنسان؛ لأنَّ الإنسان ينطلق في حياته، وفي مواقفه من عقيدته التي تحرّكه، فالإنسان المجاهد الذي يتقدم إلى الموت بملء إرادته واختياره لولا عقيدته بأنَّ هناك جنة وفوزاً، وأن هناك حياة أخرى بعد هذه الحياة أفضل منها لما أقدم على المخاطرة والمجازفة بهذه الحياة.
ومثال آخر أولئك الذين يتركون أفضل الحياة المليئة بكلِّ أنواع الرفاهية في بلدان أوروبا ترى البعض منهم يذهب إلى الغابات الأفريقية التي لا يوجد فيها لا كهرباء ولا خدمات ولا أيّ نوع من الاحتياجات الرئيسية للحياة الكريمة.
ومثال آخر أولئك الذين يفجّرون أنفسهم في عمليات استشهادية أو انتحارية لا يقومون بهذه الأفعال إلا نتيجة عن إيمان وعقيدة -بعيداً عن كون هذه العقيدة صحيحة أو فاسدة- فـ”«الإيمان» يمثل البناء التحتي لكلّ نشاطات الإنسان، لأنّ فعاليات الإنسان العملية تنطلق من أسس فكره واعتقاده، لا كالحيوانات المدفوعة في حركاتها بدافع غريزي.
بعبارة أخرى، أعمال الإنسان بلورة لعقائده وأفكاره، ومن هنا فإنَّ جميع الأنبياء بدؤوا قبل كلّ شيء بإصلاح الأسس الاعتقادية للأمم والشعوب.
وحاربوا الشرك بشكل خاص باعتباره أساس أنواع الرذائل والشقاوة والتمزق الاجتماعي”(22).
نعم قد تقول إننا نرى أنَّ بعض المؤمنين يقومون ببعض المعاصي فلو كانت العقيدة هي أساس كل الأعمال لما حصلت المعاصي من المؤمنين، ولكن مع الالتفات إلى بعض الروايات التي أشارت إلى أن المؤمن لا يعصي الله حين يعصي وهو مؤمن فقد روي عن الرسول الأكرم (صلّى الله عيه وآله): «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد».
وفي رواية أخرى عن زرارة: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أرأيت قول النبي (صلّى الله عيه وآله): «لا يزني الزاني وهو مؤمن»، ينزع من روح الإيمان؟ قال: ينزع منه روح الإيمان، قلت: فحدثني بروح الإيمان.
قال: هو شيء، ثم قال: هذا أجدر أن تفهمه، أما رأيت الإنسان يهم بالشيء فيعرض بنفسه الشيء يزجره عن ذلك وينهاه؟ قلت:نعم،قال: هو ذاك»(23).
ما المقصود من الإيمان؟ هل المقصود من الإيمان هو الميل القلبي، أو يكفي المرء أن يقول إني مؤمن، أو أن هناك شروطاً أخرى ينبغي للمرء أن يلتزم بها لكي يصدق عليه أنه مؤمن؟ يظهر من روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن الإيمان الذي لا يتعدى اللسان ليس إيماناً حقيقياً فقد روي في الكافي الشريف عن علي بن إبراهيم، عن العباس بن معروف، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن حمادة بن عثمان، عن عبد الرحيم القصير قال: كتبت مع عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله (عليه السلام) أسأله عن الإيمان ما هو؟ فكتب لي مع عبد الملك بن أعين: «سألت رحمك الله عن الإيمان، والإيمان هو الإقرار باللسان، وعقد في القلب، وعمل بالأركان…»(24).
فالإيمان لا يمكن أن يكون إقراراً باللسان فحسب بل لا بدّ من أن يتبعه عقد وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح والأركان، وهذا المعنى الذي ورد عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن إسماعيل، عن محمد بن فضيل، عن أبي الصباح الكناني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قيل لأمير المؤمنين (عليه السلام): من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله (صلّى الله عيه وآله) كان مؤمناً؟قال: فأين فرائض الله؟ قال: وسمعته يقول: كان علي (عليه السلام) يقول: لو كان الإيمان كلاماً لم ينزل فيه صوم ولا صلاة ولا حلال ولا حرام، قال: وقلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن عندنا قوماً يقولون: إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله (صلّى الله عيه وآله) فهو مؤمن، قال: فلِمَ يضربون الحدود، ولمَ تقطع أيديهم؟ ما خلق الله عز وجل خلقاً أكرم من المؤمن؛ لأن الملائكة خدام المؤمنين، وإن جوار الله للمؤمنين، وإن الجنة للمؤمنين، وإن الحور العين للمؤمنين…(25).
وقد روي عن رسول الله (صلّى الله عيه وآله): «ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما خلص في القلب وصدّقه الأعمال»(26).
“والآية الكريمة قالت: {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا} فذكرت الإيمان بمعناه المطلق ليشمل الإيمان بكلِّ المقدسات، ابتداءً من الإيمان باللّه وصفاته، حتى الإيمان بالقيامة والحساب والجزاء والكتب السماوية وأنبياء اللّه وأوصيائهم”(27).
يقول الشيخ مغنية في تفسيره الكشّاف: إنه لا بد من اقتران الإيمان القلبي مع العمل وإلا لا فائدة من الإيمان القلبي في حال انفصاله عن السلوك والعمل؛ حيث يقول في تفسير الآية الكريمة: “معناه أن الذين لم يؤمنوا أو آمنوا ولم يعملوا هم الخائبون الخاسرون، أما الذين آمنوا وعملوا فهم الفائزون الرابحون”.
وقد كتب قبل ذلك بسطور: “{إِنَّ الإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}.
هذا جواب القسم، والمراد بالإنسان من كان موضوعا للتكليف ومسؤولا عن أقواله وأفعاله، وهذا الإنسان خائب خاسر بحكم القرآن وإن كان ثرياً يملك الملايين، وعالماً يكشف أسرار الطبيعة ويسخّرها لمصلحته، وقوياً يخضع الناس لسيطرته، وبليغاً يحسن صناعة الكلام والوعظ.. إنه خائب خاسر إلا إذا آمن باللّه وحلاله وحرامه وناره وجنته، وانعكس هذا الإيمان على أقواله وأفعاله، وإلا فإن الإيمان بلا عمل مجرد فكرة ونظرية.. ولقد قرأت فيما قرأت أن الطيارين الأمريكان الثلاثة الذين ألقوا القنبلة الذرية على هيروشيما في اليابان، ومات وتشوّه بسببها مئات الألوف، كان كلّ واحد منهم يحمل معه نسخة من «الكتاب المقدس» إلى جانب قنبلة الفناء والدمار!!”(28).
لذا نخلص إلى أن الإيمان والعمل الصالح توأمان لا يفترقان، وهما متلازمان دائماً، وحيث ترى إيماناً بلا عمل صالح فينبغي أن نشك في صدق هذا الإيمان.
وهذا المعنى الذي أشار إليه بعض المفسرين حتى قال صاحب تفسير من وحي القرآن في تفسير هذه الآية {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ}: “وهذان هما العنصران اللّذان يمثلان القيمتين الكبيرتين في الجانب الوجداني للإنسان في دائرة فكره وشعوره، وفي الجانب الحركيّ في دائرة حركته في الخط العملي من حياته.
فالإيمان هو الحالة الفكرية المنطلقة من قناعات الإنسان في حقائق الكون، المنفتحة على اللَّه من خلال حركة عقله الذي يتأمل في أسرار الكون، ليكتشف اللَّه من خلالها باعتبار أنه خالق الكون ومدبّره، ويتأمل في كيان الإنسان وحركته في الوجود، فيجد اللَّه في كلّ خفقة من قلبه، وفي كلّ هزة من شعوره، وفي كلّ نبضة من حياته، وفي كلّ نعمة داخلية مما تختزنه ذاته، وفي كلّ نعمة خارجية مما تحيط بوجوده وتتحرك فيه، وذلك باعتباره الخالق المنعم الذي لولاه لما كان الوجود ولما استمرت به حركة الإنسان فيه، أمّا العمل الصالح، فهو الإيمان المتجسد بكلّ معانيه وإيحاءاته وخطواته في الواقع، لأنه ليس مجرد فكرة في العقل، أو خفقة في القلب، أو حركة في الشعور، بل هو موقف ينطلق من فكرة، وفعل يتحرك من إحساس، وحركة تتجسد في واقع.
وبذلك، لا ينفصل العمل عن الإيمان، ولذلك يأخذ منه ملامحه ومعناه، فالإيمان باللَّه لا يتمثل بكلّ عمل كيفما كان، بل يتمثل بالعمل الصالح الذي يرضاه اللَّه ويحبه، ليكون مظهراً للإخلاص له تعالى، في العبادة وفي الموقف، وفي الانتماء، لتكون الحياة كلّها للَّه في حركة الإنسان المؤمنة المسؤولة فيها.
العمل الصالح تجسيد للإيمان.
وفي ضوء ذلك، فإن الإنسان لا يعيش الاثنينيّة في الإيمان والعمل الصالح، بل يعيش الوحدة العميقة المتجسدة في معنى واحد، لأن الثاني نتيجة للأول، بل هو تجسيد له، إن الإيمان باللَّه يوحي للإنسان بالشمولية التي تتسع للكون كلّه، لأنه خلق اللَّه الذي تتمثل فيه قدرته وحكمته وتدبيره، وهو -بعد ذلك- المسؤولية التي يحسّ بها بكلّ كيانه في إحساسه بعبوديته لربّه، فيجد نفسه مسؤولاً عن أن يتعبد له في روحه وفي قلبه وفي عمله، فيعرف أن الخلق كلّهم عيال اللَّه، فيعمل على أن يجعل حياته بركة ومنفعة وخدمة لهم في كلّ أمورهم، ليحصل-من خلال ذلك- على أن ينال الدرجة العليا في محبة اللَّه له، لأن أحبّهم إليه أنفعهم لعياله.
ثم يلتقي الإيمان والعمل الصالح في وحدة القيم الروحية والأخلاقية على صعيد السلوك الفردي الذاتي والسلوك الجماعي، في ما يمكن أن يكون أساساً للتعاون على بناء الحياة على البرّ والتقوى والابتعاد بها عن الإثم والعدوان، في ما يرضاه اللَّه للإنسان من الأعمال التي تقوم على أساس عناوين الرحمة والمحبة والخير والصدق والأمانة والعفّة والسخاء والتواضع، وغير ذلك مما يحقق للحياة توازنها ويحلّق بالروح في آفاق الكمال، ويمنح الإنسانية صفاء الحق وإشراقة العدل وخط الاستقامة.
إن هاتين الكلمتين تختصران الرسالات كلّها في ما انطلقت فيه من الدعوة إلى الإيمان باللَّه الواحد، والاستقامة على هذا الخط التوحيدي في الإخلاص للَّه بالعبادة والطاعة، والابتعاد عن الشرك كلّه، وعن الانحراف كلّه”(29).
هذا وقد كتب صاحب تفسير الأمثل عن هذه العلاقة: “الإيمان ليس فكرة جامدة قابعة في زوايا الذهن، وليس اعتقاداً خالياً من التأثير. الإيمان يصوغ كلّ وجود الإنسان وفق منهج معين.
الإيمان مثل مصباح منير مضيء في غرفة.
فهو لا يضيء الغرفة فحسب، بل إن أشعته تسطع من كلّ نوافذ الغرفة إلى الخارج بحيث يرى كل مارّ نوره بوضوح.
وهكذا، حين يسطع مصباح الإيمان في قلب إنسان، فإنّ نوره ينعكس من لسان الإنسان وعينه وأذنه ويديه ورجليه.
حركات كلّ واحدة من هذه الجوارح تشهد على وجود نور في القلب تسطع أشعته إلى الخارج”(30).
ويتحدث صاحب تفسير في ظلال القرآن عن العلاقة الوثيقة التي تربط الإيمان بالعمل الصالح في تفسير هذه الآية بقوله: “إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير، الذي ينبثق منه كلّ فرع من فروع الخير، وتتعلق به كلّ ثمرة من ثماره، وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته، صائر إلى ذبول وجفاف.
وإلا فهي ثمرة شيطانية، وليس لها امتداد أو دوام! وهو المحور الذي تشدّ إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة.
وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء، ذاهبة بدداً مع الأهواء والنـزوات.. وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال، ويردّها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون، وتنسلك في طريق واحد، وفي حركة واحدة، لها دافع معلوم، ولها هدف مرسوم.. ومن ثم يهدر القرآن قيمة كلّ عمل لا يرجع إلى هذا الأصل، ولا يشدّ إلى هذا المحور، ولا ينبع من هذا المنهج.
والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كلّ الصراحة.. جاء في سورة إبراهيم: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ.
لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ}.. وجاء في سورة النور: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً، حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً}.. وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كلّه، ما لم يستند إلى الإيمان، الذي يجعل له دافعاً موصولاً بمصدر الوجود، وهدفاً متناسقاً مع غاية الوجود.
وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة تردّ الأمور كلّها إلى اللّه.
فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه.
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني، وتناسقه مع فطرة الكون كلّه، ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله.
فهو يعيش في هذا الكون، وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب.
ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان، بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق.
فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل، كان هذا بذاته دليلاً على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى، وهو هذا الكيان الإنساني. وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا الخسران.
ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح.
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية.. خاسرة أيّ خسران! والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان، والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب.
فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة.
ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح.. هذا هو الإيمان الإسلامي.. لا يمكن أن يظل خامداً لا يتحرك، كامناً لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن.. فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت.
شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها. فهو ينبعث منها انبعاثاً طبيعياً.
وإلا فهو غير موجود! ومن هنا قيمة الإيمان.. إنه حركة وعمل وبناء وتعمير.. يتجه إلى اللّه.. إنه ليس انكماشاً وسلبيةً وانزواءً في مكنونات الضمير.
وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة، وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة. وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني.
وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود. صادرة عن تدبير، متجهة إلى غاية. وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود. الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن اللّه”(31). إذاً الإيمان الحقيقي لا يمكن أن ينفصل عن العمل الصالح لذلك قال تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحات} إشارة إلى الإيمان الحقيقي، لا الإيمان الذي لا يتعدى أطراف اللسان.
رابعاً: بيان الأصل الثاني: {وَ عَمِلُوا الصَّالِحات} بعد أن اتضحت العلاقة الوثيقة بين الإيمان والعمل الصالح ينبغي أن نعرف ما هي الأعمال الصالحة التي تشير إليها الآية الكريمة؟ يقول صاحب تفسير الأمثل للإجابة على هذا السؤال: “{.. وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} لا العبادات فحسب، ولا الإنفاق في سبيل اللّه وحده، ولا الجهاد في سبيل اللّه فقط، ولا الاكتفاء بطلب العلم… بل كلّ الصالحات التي من شأنها أن تدفع إلى تكامل النفوس وتربية الأخلاق والقرب من اللّه، وتقدم المجتمع الإنساني. هذا التعبير يشمل الأعمال الصغيرة، كرفع الحجر من طريق الناس والأعمال الجسام مثل إنقاذ ملايين النّاس من الضلالة والانحراف ونشر الرسالة الحقة والعدالة في أرجاء العالم.
وما ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) في تفسير{وعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} بأنّه المواساة والمساواة للأخوة في اللّه، إنّما هو من قبيل بيان المصداق الواضح للآية.
قد تصدر الأعمال الصالحة من أفراد غير مؤمنين، لكنّها غير متجذرة وغير ثابتة وغير واسعة؛ لأنّها لا تنطلق من دافع إلهي عميق، ولا تحمل صفة الشمولية.
القرآن ذكر «الصالحات» هنا بصيغة الجمع مقرونة بالألف واللام لتدل على معنى العموم والشمول.
ولتبيّن أن طريق تفادي الخسران الطبيعي الحتمي بعد الإيمان، هو أداء الأعمال الصالحة جميعاً، وعدم الاكتفاء بعمل واحد أو بضع أعمال صالحات حقّا، لو رسخ الإيمان في النفس، لظهرت على الفرد مثل هذه الآثار.
الإيمان ليس فكرة جامدة قابعة في زوايا الذهن، وليس اعتقاداً خالياً من التأثير.
الإيمان يصوغ كلّ وجود الإنسان وفق منهج معين… ومن هنا اقترن ذكر الصالح في أغلب مواضع القرآن بذكر الإيمان باعتبارها لازماً وملزوماً، فقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً}.
ويقول تعالى عن أولئك الذين تركوا الدنيا دون عمل صالح، إنّهم يصرّون على العودة إلى الدنيا ويقولون:{رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ}.
ويقول سبحانه لرسله: {يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ واعْمَلُوا صالِحاً}، ولما كان الإيمان والعمل الصالح لا يكتب لهما البقاء إلا في ظلّ حركة اجتماعية تستهدف الدعوة إلى الحق ومعرفته من جهة، والدعوة إلى الصبر والاستقامة على طريق النهوض بأعباء الرسالة، فإنّ هذين الأصلين تبعهما أصلان آخران هما في الحقيقة ضمان لتنفيذ أصلي الإيمان والعمل الصالح”(32).
خامساً: في بيان الأصل الثالث: {وتَواصَوْا بِالْحَق} أي الدعوة العامّة إلى الحقّ، ليميز كلّ أفراد المجتمع الحق من الباطل، ويضعوه نصب أعينهم، ولا ينحرفون عنه في مسيرتهم الحياتية.
(تواصوا) كما يقول الراغب تعني أن يوصي بعضهم إلى بعض.
يقول صاحب تفسير في ظلال القرآن في معنى التواصي معانٍ جميلة: “والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية، والأخوة في العبء والأمانة.
فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية، إذ تتفاعل معا فتتضاعف.
تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبّه ولا يخذله”(33).
أهمية التواصي بين المؤمنين: إن طريق الرسالة تعتريه الكثير من الصعوبات والمشاق والمعاناة التي تعيق الحركة، وهذا التدافع الحاصل لا محالة يدفع الكثير من الرساليين إلى التعب، والبعض منهم إلى اليأس، والبعض منهم إلى السقوط في وسط الطريق، فالإنسان لديه طاقة محدودة، ولا يستطيع أن يكمل المشوار في حال كثرة المشاكل والمصاعب والمعاناة والمحن التي عبّر عنها الله في سورة الأنفال أنها طريق ذات الشوكة حيث قال تعالى: {وإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُم وتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم ويُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِه ويَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِين}(34).
في خضم هذه التحديات أحوج ما يكون له المؤمن هو أن يشعر بأن هناك من يقف معه، ومن هو متفق معه في الهدف والمصير لكي يتماسك ويتجلّد ويصبِّر نفسه على المعاناة التي قد تعتريه.
لذا قال تعالى: {وتَواصَوْا بِالْحَق…} فالتواصي يبدو أنه عملية متبادلة بين طرفين أو أكثر، فأنا أوصي أخي المؤمن بالحق، وهو يوصيني بالحق. “التواصي بالحق ضرورة. فالنهوض بالحق عسير.
والمعوقات عن الحق كثيرة: هوى النفس، ومنطق المصلحة، وتصورات البيئة. وطغيان الطغاة، وظلم الظلمة، وجور الجائرين”(35). “{وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ} وهذه هي الصفة الأولى التي تثبت الخطّ المستقيم في قيمة الفلاح الاجتماعي، عندما تهتز الأرض من تحت الحقّ، ويبدأ الزلزال النفسي والفكري والشعوري ليدفع الناس إلى التساقط أمام الأهواء الجامحة والزخارف الخادعة، والأفكار الضالة، والعقائد المنحرفة، والسياسات الخائنة، لأن التهاويل المخيفة والأشباح المرعبة، والطرق الملتوية، والظلمات الدامسة، تطوّق الواقع كلّه، حتى لا يكاد الإنسان يبصر طريقه، أو يتعرف على ملامح الحق في دائرة الوضع.
ويبقى كلّ فرد مع نفسه حائراً خائفاً متزلزلاً، وتتحول الجماعات إلى مزق متناثرة لا تركن إلى وحدة في الفكر وفي الموقف.
وهنا تأتي هذه القيمة الاجتماعية التي يتحرك فيها المؤمنون العاملون بالصالحات للتواصي بالحقّ، ومن مواقع الإيمان والصلاح للدعوة إلى الالتزام به، بعد أن عرفوا فيه المصلحة الحقيقية للإنسان، كما عرفوا فيه مواقع رضى اللَّه، سواء كان الحق حقاً في العقيدة أو في الشريعة، أو في العلاقات، أو في المناهج، أو في السياسة، أو في الاقتصاد والاجتماع، أو في السلم والحرب، ونحو ذلك، حتى يثبت الناس على الفكر الحقّ، وعلى وعي الحقّ، وعلى الانفتاح على كلّ مواقعه على صعيد النظرية والتطبيق، ليبقى الالتزام به السمة البارزة للمجتمع المؤمن، الذي يوحّد الفكر والموقف والنظرة إلى الأشياء على أساس الحقّ، فلا يعيش المؤمنون الانحراف عنه باسم الاستقامة، ولا يختلط عليهم الحقّ بالباطل، ولا يتحركون في خطّ الازدواجية الفكريّة عندما تتحرك الأفكار في خطين متوازيين أو متناقضين مما يؤدي إلى ازدواجية الشخصية، أو انفصامها.
وهذا ما يقوّي أهل الحقّ في موقفهم، وفي إصرارهم على الثبات، وفي استمرارهم على الخطّ”(36). صور التواصي بالحق: للتواصي بالحق صور يمكن ذكرها في المقام:
1- الإرشاد إلى طريق الحق بتعريف الحق وكشف اللبس عنه؛ لأن كثيراً ما يلتبس الحق بغيره ويشتبه على المؤمنين خصوصاً في الفتن التي تنزل بساحة المؤمنين؛ لأن الفتنة تشبِّه على الإنسان ولا يكاد يراه واضحاَ.
2- التواصي باتباع الحق؛ حيث أنَّ الكثير من الناس يعرف الحق إلا أنه يخشى أن يتبع الحقّ لأن طريق الحقّ مليء بالصعوبات والمعاناة، فيكون التواصي من أجل اتباع الحقّ وعدم خذلان الحقّ ركوناً إلى الراحة وحبّ الدعة.
3-التواصي على الصبر في طريق الحقّ؛ فقد يعرف الإنسان الحقّ، وقد يتبعه إلا أنه يتعب في الطريق فيتراجع وهنا يبرز دور التواصي بالثبات على الحقّ وعدم التراجع عن الحقّ.
الحقّ قد يكون موقفاً اجتماعياً، وقد يكون موقفاً سياسياً، وقد يكون موقفاً اقتصادياً، وقد يكون موقفاً عقائدياً أو شرعياً الخ. و(الحقّ) في الأصل الموافقة والمطابقة للواقع.
وذكر للكلمة معانٍ قرآنية متعددة من ذلك، القرآن، والإسلام، والتوحيد، والعدل، والصدق، والوضوح، والوجوب وأمثالها من المعاني التي ترجع إلى نفس المعنى الأصلي الذي ذكرناه وهو المطابقة للواقع.
عبارة {تَواصَوْا بِالْحَقِّ} تحملُ على أيِّ حال معنى واسعاً يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويشمل أيضا تعليم الجاهل وإرشاده، وتنبيه الغافل، والدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح.
وواضح أن المتواصين بالحق يجب أن يكونوا بدورهم من العاملين به، والمدافعين عنه.
سادساً: في بيان الأصل الرابع: {وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ} لماذا الصبر: إن عملية التمسك بالحق تجلب المتاعب الكبيرة والكثيرة على الإنسان، إن الإنسان الذي يتخلى عن المسؤولية ولا يتحمل أيّ نوع من أنواع المسؤولية لا يصيبه الضرر ولا يتعرض للمشاكل والمتاعب، ولكن الشخص الذي يتحمل المسؤولية الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، فإنَّ هذا الأمر يجعله عرضة للأذى والمتاعب والشقاء الدنيوي، وإن الإنسان الذي يتمسك بالحقّ يتعرض للمشاكل والمتاعب التي لا تعدّ ولا تحصى؛ ذلك أن طريق الحقّ مليء بالأشواك والصعوبات قال تعالى:{وإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُم وتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُم ويُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِه ويَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِين}(37).
لذا فإن أحوج ما يحتاجه الإنسان في طريق التمسك بالحقّ هو التسلح بسلاح الصبر، لكي لا يسقط في الطريق حيث أن الطريق طويل وشاق، قال تعالى:{لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ ولكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّة وسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُم يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ واللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُون}(38).
فطول الطريق والمشقة التي تعتري طريق الحقّ كثيراً ما تحول بين الإنسان واتباع الحقّ فهو في هذه الحالة بحاجة إلى الصبر والاستقامة والنفس الطويل لكي يستطيع أن يثبت على طريق الحقّ.
يقول صاحب تفسير الأمثل في هذا الشأن: “التواصي بالصبر، والاستقامة، إذ بعد الإيمان والحركة في المسيرة الإيمانية تبرز في الطريق العوائق والموانع والسرور.
وبدون الاستقامة والصبر لا يمكن المواصلة في إحقاق الحقّ والعمل الصالح والثبات على الإيمان.
نعم، إحقاق الحقّ في المجتمع لا يمكن من دون حركة عامّة وعزم اجتماعي، ومن دون الاستقامة والوقوف بوجه ألوان التحديات. «الصبر» هنا يحمل مفهوماً واسعاً يشمل الصبر على الطاعة، والصبر على دوافع المعصية، والصبر إزاء المصائب والحوادث المرّة، وفقدان الإمكانات والثروة والثمرات”(39).
ويقول صاحب تفسير من وحي القرآن: “والتواصي بالصبر، يمثل العنصر الثاني للفلاح للمجتمع المسلم الذي يواجه الضغوط الصعبة التي تضغط على حريته وعزّته وصلابته في موقعه، وذلك من خلال القوى الداخلية العاملة لمصلحة الكفر والاستكبار، والقوى الخارجية العاملة لاحتواء الأمّة الإسلامية في دائرة مصالحها وتحويلها إلى أمّة ضعيفة لا تملك أيّ موقع للثبات والتوازن في تأكيد شخصيتها المستقلّة، لتكون مجرد هامش من هوامشها السياسية التي تحارب معها من أجل الحفاظ على مصالحها.
وبذلك، تحاول كلّ هذه القوى أن تصادر كلّ وسائل القوّة وكلّ مواقعها، من أجل أن تمنع عملية صنع القوّة في خطط التكامل السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني والعسكري؛ لأن المطلوب هو المنع من بناء القاعدة القوية الثابتة التي يرتكز عليها البناء الفوقي.
وقد يكون من الطبيعي أن تشتد الضغوط، وتكثر المشاكل، وتهتز الأرض تحت أقدام العاملين في سبيل الدعوة إلى اللَّه، والمجاهدين في سبيله، وتتعمق الآلام، وتضعف النفوس، ويصاب المؤمنون بالزلزال النفسي الذي قد يتأثر- بشكل سلبيّ- بالزلزال السياسي والعسكري والاقتصادي، فتنطلق نقاط الضعف لتعمل عملها في إعداد المجتمع للسقوط تحت تأثير الروحية المنهارة في داخل عقلية الهزيمة.
وهنا، يأتي دور الصبر الذي هو من عزم الأمور، باعتبار أنه يمثل القوّة الداخلية التي تتمرد على قساوة الضغوط ومرارة الآلام، وضراوة التحديات، فلا تصرخ ولا تهتز ولا تنهار، بل تبقى هادئة واعية لكل ما حولها ومن حولها، مطمئنة إلى مواقفها، منطلقة إلى أهدافها، عارفة بأنَّ هذه المعاناة هي جزء من الثمن الذي يجب أن يدفعه الدّعاة والمجاهدون في سبيل اللَّه، وهي نوع من البلاء الذي ينـزله اللَّه على عباده الصالحين، ليختبرهم، وليمتحنهم، حتى يؤكد صدقهم في التجربة، وإخلاصهم في حركة المعاناة.
ولن يكون ذلك إلا بالصبر الجميل الذي يشد أعصاب الإنسان ومشاعره إلى الثبات على الموقف”(40). وهذا ما أشار إليه صاحب الظلال بقوله: “والتواصي بالصبر كذلك ضرورة؛ فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة. ولا بدّ من الصبر.
لا بدّ من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير. والصبر على الأذى والمشقة. والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر. والصبر على طول الطريق وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبعد النهاية”(41).
أثر التواصي بالصبر: إن من الصعوبة جداً أن يشعر الإنسان المؤمن أنه يواجه التحديات والصعوبات لوحده، وقد يعرِّض هذا الشعور الإنسان المؤمن إلى التراجع والسقوط في الطريق إلا أن التواصي بالصبر يثبّت القدم ويجدد العزيمة لدى المؤمنين، ويرفع من همتهم، فهو يمثل ضرورة لا يمكن التخلي عنها في طريق الحقّ. يقول صاحب تفسير في ظلال القرآن: “والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة المتجه، وتساند الجميع، وتزودهم بالحبّ والعزم والإصرار.. إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوِّها، ولا تبرز إلا من خلالها.. وإلا فهو الخسران والضياع”(42).
للصبر ثلاثة أقسام:
1-الصبر على الطاعة: إن كلّ عبادة وطاعة لله تعالى تحتاج إلى صبر حيث أن الجهاد فيه تعب وجراح ومعاناة ويحتاج إلى الصبر، والحجّ فيه من التعب الكثير ويحتاج إلى الصبر، والصلاة وخصوصاً صلاة الصبح حيث تستدعي الإنسان أن يتخلى عن أحلى أوقات نومه ويستيقظ ليؤدي ركعتي صلاة الصبح تحتاج إلى صبر، والخمس والزكاة كلّها تحتاج إلى صبر لكي يستطيع الإنسان أن يؤدي هذه العبادات. هذا في الواجبات منها فضلاً عن من أراد أن يأتي بالمستحبات من العبادات.
2-الصبر عن المعصية: إن للإنسان غرائز وشهوات ونفساً أمّارة بالسوء وشيطاناً يوسوس له وكلّ هذه الأمور تدفع الإنسان في اتجاه المعصية، وإمساك النفس عن الوقوع في المعصية ولجمها من أن تقع في شباك أحد هذه الأمور يحتاج إلى صبر كبير جداً خصوصاً في عصرنا هذا الذي انتشرت فيه الرذيلة وأصبحت مظاهر الابتذال في كل بيت وكل موقع من مواقع الحياة، وأصبح أسهل شيء هو الوصول إلى ما يغذي تلك النزعات الشيطانية وتغذية الغرائز الشهوية من خلال ضربة زر في الانترنت أو من خلال القنوات الفضائية في التلفاز، بل قد لا يحتاج الأمر إلى كلّ ذلك؛ فإن الرذيلة اليوم تحاصر الإنسان المؤمن حتى كاد لا يحصل على مكان خالي من مظاهر الابتذال والرذيلة. فكل ذلك بحاجة إلى مجاهدة النفس وكبحها عن شهواتها وبحاجة إلى صبر كبير جداً لكي لا يقع المؤمن في المعصية.
3-الصبر على البلاء: إن الصبر على البلاء هو أن لا يجزع الإنسان في حال وقوع البلاء عليه، فقد يتعرض الإنسان إلى وفاة عزيز عليه، وقد يتعرض إلى السجن، أو المرض، أو الفقر، أو الملاحقة من قبل الظالمين… الخ من أنواع البلاء التي تحلّ بالإنسان. وهذا التقسيم مذكور في عدة روايات عن أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) فقد روي في الكافي الشريف عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى قال: أخبرني يحيى بن سليم الطائفي قال: أخبرني عمر بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عيه وآله): «الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية…»(43).
يبقى في النهاية أن نشير إلى مسألة في غاية الأهمية وهي أن هناك فهمين للصبر(44):
الأول:- فهم سلبي خاطئ: وهو عبارة عن السكون والتحمل السلبي الذي يجعل الإنسان ساكناً لا تكون له أيّ ردة فعل تجاه ما يصيبه من ظلم وابتلاء، وهذا الفهم الخاطئ هو من أفضل المفاهيم التي تُسعد الطغاة والظالمين والمستبدين والمستكبرين والمستحوذين على خيرات الناس بغير حقّ.
الثاني:- فهم إيجابي صحيح: يتمثل هذا الفهم في أن الصبر هو مقاومة وتحدي وثبات على الموقف بل هو حركة متواصلة في طريق الحقّ، وسعي لرفع كل المعوقات التي تعتري طريق الإنسان لكي يصل إلى الحقّ وإلى أهدافه السامية، فهو بدلاً من أن يستسلم إلى الصعوبات والمعوقات التي تعتري طريقه تراه يسعى جاهداً لرفعها عن طريقه.
وهذا المعنى الثاني هو الذي تشير إليه الكثير من الآيات الكريمة مثل قوله تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}(45).
فهذه الآية تشير بوضوح إلى المعنى الثاني الإيجابي حيث أن الصبر هنا بمعنى الثبات والمقاومة في مواجهة العوامل الصعبة والشاقّة التي تعتري المجاهد في ساحة الحرب والقتال لتثنيه عن الاستمرار.
وقوله تعالى:{وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وثَبِّتْ أَقْدامَنا وانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ}(46).
والخلاصة: أن هناك حقيقة ثابتة لا تتبدل وهي أن بني الإنسان في خسر إلا من تسلح بالعناصر الأربعة: الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحقّ والتواصي بالصبر.
والحمد لله رب العالمين.
المصادر والهوامش
- (1) سورة العصر: 1- 3.
- (2) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص429.
- (3) التبيان في تفسير القرآن، ج10، ص404.
- (4) مجمع البيان، ج10، ص434.
- (5) الدر المنثور في تفسير المأثور، ج6، ص392.
- (6) في ظلال القرآن، ج6، ص3964.
- (7) تفسير الوسيط، زحيلي، ج3، ص2928.
- (8) التفسير الوسيط، طنطاوي، ج15، ص499.
- (9) الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص355.
- (10) من وحي القرآن، ج24، ص400.
- (11) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص429.
- (12) البرهان في تفسير القرآن، ج5، ص752.
- (13) البقرة: 238.
- (14) التبيان في تفسير غريب القرآن، ج1، ص350.
- (15) الزمر: 15. الميزان في تفسير القرآن، ج20، ص356.
- (16) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص433.
- (17) تفسير الفخر الرازي، ج32، ص85.
- (18) تحف العقول، ص361، كلمات الإمام الهادي (عليه السلام).
- (19) نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 74.
- (20) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص425.
- (21) من هدي القرآن، ج18، ص336.
- (22) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص436.
- (23) ميزان الحكمة، باب الإيمان تحت عنوان: دور الذنوب في زوال الإيمان.
- (24) أصول الكافي، كتاب الإيمان والكفر، ص349.
- (25) ن م.
- (26) ميزان الحكمة، باب الإيمان تحت عنوان: تآصر الإيمان والعمل.
- (27) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص436.
- (28) تفسير الكاشف، ج7، ص606.
- (29) من وحي القرآن، ج24، ص404.
- (30) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص437.
- (31) في ظلال القرآن، ج6، ص3967.
- (32) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص436.
- (33) في ظلال القرآن، ج6، ص3968.
- (34) الأنفال: 7.
- (35) في ظلال القرآن، ج6، ص3968.
- (36) من وحي القرآن، ج24، ص405.
- (37) الأنفال: 7.
- (38) التوبة: 42.
- (39) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج20، ص439.
- (40) من وحي القرآن، ج24، ص406.
- (41) في ظلال القرآن، ج6، ص3968.
- (42) م ن.
- (43) الكافي، الكليني، 2-91 باب الصبر، ص87.
- (44) للتفصيل أكثر في هذا الموضوع يمكن مراجعة: (بحث حول الصبر) للسيد الخامنئي (حفظه الله).
- (45) الأنفال: 65.
- (46) البقرة: 250.