ثقافة

الإسلام وأصول التعامل مع الآخرين -1

بسم الله الرحمن الرحيم

أصول المعاشرة

من وصية للإمام علي عليه السلام لولده الحسن عليه السلام: ” يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلمِ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ”1

ترتكز تعاليم الدين الإسلامي في قضية العلاقات بين أبناء البشر على الترغيب والحث على إحترام الحقوق بين الناس، والتآزر والتعاطف فيما بينهم، ومحبّتهم لبعضهم البعض، وعدم نشر البغضاء والحق والحسد، وغيرها من المبادئ التي تكفل إيجاد الروابط السلمية والكفيلة ببناء المجتمع الإنساني والإرتقاء به إلى أعلى المستويات. وبالتالي تحقيق أسمى وأرقى القيم الإجتماعية لتكون هي الحاكمة على علاقات الناس ببعضهم البعض.

والإمام علي عليه السلام في وصيته الخالدة لولده الإمام الحسن عليه السلام يقدّم لنا نموذجاً رائعاً عن كيفية التعامل مع الآخرين، ويضع لنا بذلك الموازين الصحيحة والسليمة لهذه العلاقة، والتي تقوم على الأسس التالية:

أولاً: أن يحب الإنسان لغيره ما يحبّه لنفسه.
ثانياً: أن يكره لغيره ما يكره لنفسه.
ثالثاً: أن لا يظلم كما لا يحب أن يُظلم.
رابعاً: أن يُحسن للآخر بقدر محبته لإحسانهم إليه.
خامساً: أن يستقبح من نفسه ما يستقبحه من الآخرين.
سادساً: أن يرضى من الناس بما يرضاه لنفسه منهم.
سابعاً: أن لا يقول ما لا يعلم.
ثامناً: أن لا يقول ما لا يُحب أن يُقال لهم.

إنّ هذه الأصول والمبادئ يفوح عطرها من ذلك الإنسان الإلهي الربّاني الذي قاد مسيرة الإسلام العظيم مع الني الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والعارف بأسرار الوحي الإلهي.

لهذا يجدر أن تكون وثيقة يستند إليها كل من يريد تحقيق وإرساء القواعد الإجتماعية، وتحقيق الروابط السليمة بين أبناء المجتمع البشري.

ومن هذا المنطلق وبالعودة إلى تعاليم الإسلام في هذا المجال يمكن القول بأنّ الدين الإسلامي وضع الأسس والمبادئ لأصول المعاشرة بين الناس حيث أنّه في الوقت الذي دعا فيه حُسن المعاشرة وضع لها أنظمة وقوانين، وأمر بحُسن معاشرة صنف من الناس والإبتعاد عن معاشرة صنفٍ آخر، وفصّل القول في بيان من تجب مصادقته ومصاحبته ومن تُكره مجالسته ومرافقته.

ومع ذلك كلّه كان العنوان الحاكم على كل هذه العناوين هو التحبّب إلى الناس والتودّد إليهم. ولأجل بيان هذه الرؤية والمرتكزات نسلّط الضوء عليها ضمن النقاط التالية:

حُسن المعاشرة وما يجب فيها:

غرس الإسلام في نفوس المسلمين مفاهيم المحبّة والمودّة، وأمر بحُسن معاشرة الناس ومودّتهم ومحبّتهم ليزدادوا قوّةً ومِنعةً وتجاوباً في أحاسيس الودّ ومشاعر الإخاء.

قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾2

وفي وصيّة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: “خَالِطُوا النَّاسَ مُخَالَطَةً إِنْ مِتُّمْ مَعَهَا بَكَوْا عَلَيْكُمْ وَ إِنْ عِشْتُمْ حَنُّوا إِلَيْكُمْ”3

وفي وصية الإمام الصادق عليه السلام لأبي أسامة زيد الشَّحَّامِ، قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ” اقْرَأْ عَلى‏ مَنْ تَرى‏ أَنَّهُ يُطِيعُنِي‏مِنْهُمْ وَيَأْخُذُ بِقَوْلِيَ السَّلَامَ. وَأُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْوَرَعِ فِي دِينِكُمْ، وَالِاجْتِهَادِ لِلَّهِ، وَصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَطُولِ السُّجُودِ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ، فَبِهَذَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله، أَدُّوا الْأَمَانَةَ إِلى‏ مَنِ ائْتَمَنَكُمْ عَلَيْهَا، بَرّاً أَوْ فَاجِراً، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله كَانَ‏ يَأْمُرُ بِأَدَاءِ الْخَيْطِ، وَالْمِخْيَطِ4، صِلُوا عَشَائِرَكُمْ، وَاشْهَدُوا جَنَائِزَهُمْ‏، وَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَأَدُّوا حُقُوقَهُمْ، فَإِنَ‏ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إِذَا وَرِعَ فِي دِينِهِ، وَصَدَقَ الْحَدِيثَ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ، وَحَسُنَ خُلُقُهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هذَا جَعْفَرِيٌّ، فَيَسُرُّنِي‏ ذلِكَ، وَيَدْخُلُ عَلَيَّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَقِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، وَإِذَا كَانَ عَلى‏ غَيْرِ ذلِكَ، دَخَلَ عَلَيَّ بَلَاؤُهُ وَعَارُهُ، وَقِيلَ: هذَا أَدَبُ جَعْفَرٍ، فَوَ اللَّهِ‏، لَحَدَّثَنِي أَبِي عليه السلام أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ فِي الْقَبِيلَةِ مِنْ شِيعَةِ عَلِيٍّ عليه السلام، فَيَكُونُ زَيْنَهَا: آدَاهُمْ لِلْأَمَانَةِ، وَأَقْضَاهُمْ لِلْحُقُوقِ، وَأَصْدَقَهُمْ لِلْحَدِيثِ، إِلَيْهِ‏ وَصَايَاهُمْ‏ وَوَدَائِعُهُمْ، تُسْأَلُ‏ الْعَشِيرَةُ عَنْهُ‏، فَتَقُولُ‏: مَنْ مِثْلُ فُلَانٍ؟ إِنَّهُ لَآدَانَا لِلْأَمَانَةِ، وَأَصْدَقُنَا لِلْحَدِيثِ“.5

ومن المفاهيم التي أشار إليهما الأئمة عليهم السلام حاجة الناس إلى بعضهم البعض.

قال الإمام الصادق عليه السلام: ” إنه لابد لكم من الناس إن أحدا لا يستغني عن الناس حياته والناس لابد لبعضهم من بعض”6.

ووضع الإمام الصادق عليه السلام: ميزاناً للإنسان في الانتساب إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام وهو حسن الصحبة والمعاشرة.

يقول عليه السلام: فيما نقله أبو ربيع الشامي: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام والبيت غاصُّ بأهله فيه الخراساني والشامي ومن أهل الآفاق فلم أجد موضعاً أقعد فيه، فجلس أبو عبد الله عليه السلام وكان متّكأً فقال عليه السلام: “يا شيعة آل محمد، إعلموا أنه ليس منا من لم يملك نفسه عند غضبه ومن لم يحسن صحبة من صحبه ومخالقة من خالقه وممالحة من مالحه، يا شيعة آل محمد اتّقوا الله ما استطعتم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله”7.

الإعتدال في العشرة:

من الحكمة أن يكون الإنسان معتدلاً في محبّة الناس والثقة بهم الركون إليهم دون إسراف أو مغالاة، فلا يصح الإطمئنان إليهم وإطلاعهم على ما يخشى إفشاءه من أسراره وخفاياه.

فقد يرتدّ الإنسان الصديق ويغدو عدواً لدوداً، فيكون آنذاك أشدّ خطراً وأعظم ضرراً من الخصوم والأعداء.

وقد حذّرت وصايا أهل البيت عليهم السلام من هذا الأمر.

يقول أمير المؤمنين عليه السلام: “أَحبِبْ حَبِيْبَكَ هَوْنًا ما، عسى أن يكون بَغِيضَكَ يَومًا ما، وابْغِضْ بَغِيضْكَ هَوْنًا ما، عسى أن يكون حَبْيِبَكَ يومًا ما”8

مداراة الناس

تعترض العلاقات الإنسانية بعض الشوائب والمشاكل، والإنسان مهما حَسُنت أخلاقه فإنّه معرّض للخطأ والتقصير لكون غير معصوم، فإذا ما بدرت من أحدهم هفوة في قول أو فعل كخلفِ وعدٍ، أو كلمةٍ جارحة، أو تخلّف عن مواساة في فرح أو حزن ونحو ذلك من صور التقصير فما هو الواجب تجاه ذلك؟

إنّ على الإنسان المؤمن أن يتغاضى عن الإساءة، ويصفح عن الزلل والخطأ، ومحاولة إصلاح الإساءة بالإحسان.

يقول الله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾9

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ..﴾10

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: “أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض”11

فالأخلاق الإسلامية تفرض علينا غض النظر وتناسي إساءة الآخرين علّ ذلك يدفع المسيء إلى الحرص أكثر وعدم العودة إلى الخطأ.

وإنّ قبول معذرة الصديق عند إعتذاره دون تعنّت هو من سمات كرم الأخلاق وطهارة الضمير والوجدان.

وفي أكثر الأحيان قد لا يجدي العتاب نفعاً، وقد يكون الصفح أبلغ وأجمل في ردع الإنسان عن خطأه.

أحضر الإمام الكاظم عليه السلام ولده يوماً ما وقال لهم: “ياَ بنيَّ إني موصيكم بوصيةٍ، فمن حفظها لم يضع معها، إن آتاكم آتٍ فأسمعكم في الأُذن اليمنى مكروهاً، ثم تحوّل إلى الأُذن اليسرى فاعتذر وقال: لم أقل شيئاً فاقبلوا عذره”

وصدق أمير المؤمنين عليه السلام حين قال: ” أَوَّلُ عِوَضِ الْحَلِيمِ مِنْ حِلْمِهِ أَنَّ النَّاسَ أَنْصَارُهُ عَلَى الْجَاهِلِ “12

  • سماحة الشيخ خليل رزق.

المصادر والمراجع

1- نهج البلاغة، الخطبة 270.
2- سورة المائدة، الآية:2
3- نهج البلاغة، الحكمة:9.
4- الخيط: السلك، والمخيط: الإبرة
5- الأصول من الكافي، ج2، ص636، ح5.
6- المصدر نفسه، ص 635: ج1
7- المصدر نفسه، ص 6375: ج2
8- نهج البلاغة: الحكمة:268.
9- سورة فصل، الآيات:34-35
10- سورة آل عمران، الآية:159
11- الوافي،ج3،ص86
12- نهج البلاغة: الحكمة 203.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى