التأمل لسلوك الطريق إلى الله
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد: لا شك أن كل إنسانٍ يريد أن يزداد قُرباً من صاحب الفضائل والمنن والنعم العظيمة، وهو الله جل وعلا، وهذا لا يتأتى إلا بالتدبر والتفكر في نعمه وآلائه التي أنعم بها على عباده من بني البشر.
إن الطريق إلى الله طريقٌ شائكٌ بكثير من الأشواك، ولابد لسالكه من أن يطأ بقدمه عليها، كما أنه يجب عليه أن يصبر على آلام تلك الأشواك.
إنّ طريق العلم هو من أفضل الطرق المؤدية إلى الله، ولزوم القرب من الحضرة المقدسة، وهذا لا يحصل إلا بالتفكر في النعم التي منّ الله بها علينا وذلك بأن نُرْجِعَ جميع أعمالنا إلى لطفه ورحمته على عباده الفقراء المحتاجين، وهذه الأمور لا يمكن أن يتحلى بها الإنسان إلا إذا أصبح على درجةٍ من اليقين أننا فعلاً مساكين تائهون، إننا فعلاً مساكين تائهون، إننا ندرس ونضيع قسطاً من عمرنا، ثم نعمل لكسب لقمة العيش في هذه الدنيا الدنية، ونظلّ نتمسك بها وبمغرياتها حتى يصبح لدينا تفكير الخالدين فيها مع أنها دنيا لأنها أدنى من كل شيء.
إننا حقاً غافلون عن تكوين مصيرنا الأخروي المستقبلي، إننا غالباً نخطط للعيش برغد ويسر في عالم الدنيا، ولكننا نغفل عن ارتقاء الدرجات العالية والمقامات الرفيعة في جنة الخلد مع الأولياء والصالحين، ومهما كانت الدنيا وما فيها فهي فانيةٌ لا محالة، ولا بدّ لنا في الصبر على مشاكلها وهمومها في سبيل الله؛ لأنها لا تخلو من المشاكل والصعاب التي تشيب الشباب وتملأه ناراً، ولكن هذه الهموم تزول عند تبين القرب الإلهي، فالله جلَّ وعلا هو الذي خلق خلقه وتكفل برزقهم وضمان معيشتهم، وهيّأ لهم كامل السبل للوصول إليه والدنو منه، ولكننا ـ مع الأسف ـ مقصرون تجاه هذا الرب الرحيم الذي تفيض السماوات والأرض من نور رحمته وكرمه، ولو أننا أدركنا مصلحة صبرنا على المصاعب وكامل هموم الحياة مع لزوم الإخلاص لله والتقرب إليه وطلب الالتجاء والدنو منه لتمنينا أن نقرض بالمقارض.
ولنا في أئمتنا(ع) المثل الأعلى، فنجد مثلاً الإمام الكاظم(ع) أربعة عشر عاماً يرزح في ظلمة تلك الزنزانة التي لا يعلم ولا يفرق فيها بين الليل والنهار، ولكنه يزداد قرباً وشوقاً إلى الله فيزداد في عبادته وصومه وقيامه، فلنسأل لماذا وكيف لم يتأثر الإمام(ع)؟ وإنه بلا شك كان يفكر في بناء الحياة الأبدية والجنة السرمدية مع الأنبياء والصديقين؛ فلذلك لم نره يتزحزح أبداً، بل كان على يقينٍ بلطف ربه وكان يرجوه أن يهيئ له الحياة الأخرى على أكمل وجه.
وهكذا نرى أمثلةً أخرى، ولعلّ أكثرها وضوحاً وقوةً هو موقف العقيلة زينب(ع) حينما رأت أخاها مقطع الأوصال ومقطوع الرأس، نجدها أنها لم تبكِ ولم تتأثر، بل رفعت ذلك الجسد الطاهر قائلةً «ربنا تقبل منا هذا القربان».
إنّ هذا الكلام لم ينطلق من شفتيها إلا لأنها على يقينٍ من بلوغ أبي عبد الله الحسين(ع) الدرجات الرفيعة بعد استشهاده، كما أنها واصلت المسيرة والجهاد من بعده على يقينٍ وثقةٍ كاملةٍ، ولم تهتم بمباهج الدينا، ولم تُدِرْ بالاً لشماتة الأعداء، وإهانتها مع الأطفال والنساء، على الرغم مما كانت تتمتع به من عزٍّ وكرامةٍ أيام أبيها، ولكنها في كلا الوضعين بقيت ثابتةً كالجبل الراسخ لا يزحزحه شيءٌ أبداً متصلاً برب الأرباب، وجبّار الجبابرة، وعظيم العظماء، ذي القوة المتين.
وكذلك نلحظ ذلك مع الإمام الرضا(ع) وقد أقبلت عليه الدنيا بزخارفها، وصبر على ولاية العهد، ولكنه ظل مشتغلاً بالقرب الإلهي والدنو إلى الحضرة المقدسة.
هؤلاء هم قادتنا، علمونا أن نفكر في بناء آخرتنا بدنيانا، لا أن ننشغل بها حتى تنسينا آخرتنا.
ولابد لنا أن نجعلهم قدوةً لنا، نتبع أحكامهم ونتقصى آثارهم، ونمشي على خطاهم وسيرتهم، فطريق العلم هو طريق الأنبياء والأئمة(ع)، فلابد أن يكون ذا مصاعب وشدائد، ولابد من تحمّل هذه المصاعب والشدائد والتماس القرب والحماية واللطف من الله جل وعلا، فإن هذا الطريق هو طريق الفلاح والنجاة، ولكن بشرط أن تتحمل جميع مصاعبه وشدائده مع كامل الثقة بالله وبلطفه بعباده ورأفته بهم، فإنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين ويتكفل بأمور الأولين والآخرين.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.