الإصرار على إقامة الشعائر الحسينية
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد
إن جولة سريعة في كلمات سيدنا ومولانا أبي عبد الله الحسين (ع)، التي ترتبط بثورته المباركة وخروجه على الفاجر يزيد، يتبين بوضوح لا يعتريه شك، بأن الهدف الرئيسي لثورته ليس هو الانتصار العسكري، إذ أن الانتصار العسكري غير ممكن أصلا في تلك الظروف التي عاشها الحسين (ع) وهو (ع) كان على يقين بشهادته هو وأصحابه المخلصين، فهو الذي يقول:
«…كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم…»(1)
إذن لا بد أن يكون الهدف عظيما بعظمة دم الحسين (ع) هدف يستحق أن تبذل له النفوس وتسترخص له الدماء، نعم إن الهدف هو حفظ الشريعة والدين الذي بعث من أجله الأنبياء والرسل (ع).
إن كان دين محمد لم يستقم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني
وبحصول تلك المأساة التي اقشعرت لها القلوب وبكت لأجلها العيون، قد تحقق هذا الهدف المقدس ولا زلنا نعيش بركات ذلك الانتصار العظيم، انتصار الدم على السيف، ولولا دم الحسين (ع) لما ضمن أحد منا أن يبقى مسلما مؤمنا بالله تعالى.
ولكن التساؤل الذي يتبادر إلى أذهان الكثير منا هو أن الهدف إذا كان هو حفظ الشريعة والدين فإنه قد تحقق بشهادة الحسين (ع)، وغيره من الأئمة (ع).
أيضا كانت لحركاتهم المختلفة أهدافا وقد تحققت تلك الأهداف، فلماذا الإصرار على إقامة الشعائر الحسينية بالخصوص، وهل مصيبة الحسين (ع) أعظم من مصيبة جده المصطفى (ص) أو أبيه المرتضى (ع) ؟
للإجابة على مثل هذا التساؤل، يجب أن نعرف أولا من هو المتسائل؟ وهل هذا التساؤل لمعرفة الهدف من إقامة هذه الشعائر المقدسة بعد الإيمان بضرورة إقامتها أو أنه للاعتراض على أصل إقامتها وأنه لا دليل على ذلك ؟
وبعبارة أخرى السائل إما مستفسر أو مستنكر.
فإذا كان السائل ممن يناقش أصل إقامة هذه الشعائر(مستنكر) فنقول له باختصار :
إننا بإقامة الشعائر الحسينية إنما ننهج نهج الأئمة الأطهار، ونسلك سبيلهم (ع)، ونقتفي خطاهم، فإن أول إمام جاء بعد هذه المصيبة العظيمة وهو زين العابدين (ع)، لا يخفى حاله وحزنه وبكاءه الدائم على أبيه، فقد بكى عليه ما يقارب عشرين عاما(2)، وكذلك غيره من الأئمة (ع) إلى آخرهم وهو الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) الذي ولد بعد واقعة الطف بما يقارب المائتي عام والذي يقول كما ينقل عنه (ع):
«لأبكين عليك بدل الدموع دماً»(3)
وحيث أننا من المؤمنين بعصمة الأئمة (ع)، فنعلم جيدا أن إصرارهم على إقامة العزاء والشعائر الحسينية بالخصوص لم يكن إلا ليرسخوا ذلك في نفوس الناس، وحتى تصبح سنة وعقيدة إلى يوم القيامة.
ولا يضر بذلك أن نجهل الحكمة منه، وأنه لماذا الحسين (ع) بالخصوص دون غيره من الأئمة وهل أن السبب هو بشاعة ما تعرض له الحسين (ع) وأصحابه وأهل بيته، أم أن هناك سبب آخر أهم.
وكم من الأحكام ما لا نعرف الحكمة منها، مع أن الحكمة من إقامة الشعائر الحسينية قد تكون واضحة لمن يتمعن في قضية الحسين (ع) كما سنبين ذلك بعد قليل بإذنه تعالى.
وأما إذا كان السائل مستفسرا ويريد الحكمة من ذلك، فانه لمعرفة الهدف والحكمة لابد من تقديم مقدمة منها تعرف النتيجة فنقول: إن أصل الأصول التي بعث من أجلها الأنبياء والرسل (ع)، هو معرفة الله تعالى وتوحيده، فـ(أول الدين معرفته)، والإيمان بالله تعالى وتوحيده إثبات لا يمكن أن يتحقق إلا بأن يسبقه نفي، فـ(لا اله) أولا ثم (إلا الله) فلا يمكن أن يكون الإنسان موحدا إلا بعد أن ينفي كل إله غير الله تعالى، وهذا أمر ذكره القرآن الكريم وقد عبر عن النفي بـ(الكفر بالطاغوت ) فقال عز وجل في آية الكرسي : {فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}(4)، ومعنى الطاغوت الذي يكون الكفر به شرطا أساسيا لتحقق الإيمان بالله تعالى هو كل معبود ومتبوع سوى الله عز وجل(5).
فالشيطان طاغوت والنفس والهوى قد تصبح طاغوتا والحاكم إذا عبد من دون الله فهو طاغوت.
والأنبياء والرسل (ع) عندما جاؤوا إلى الناس، كانوا يركزون على هذا الأمر وهو (الكفر بالطاغوت) وأما الإيمان بالله تعالى فإنه أمر فطري موجود عند كل البشر وعلى مر الأزمان، وتاريخ الأقوام السابقة أفضل شاهد على ذلك.
ومن أخطر تلك الطواغيت التي حاربها الأنبياء (ع) هم سلاطين الجور والفساد، الذين لم يكن لهم سبيل لتدعيم وتثبيت سلطانهم وملكهم إلا عن طريق استعباد الناس وإبعادهم عن الدين وعن أحكام السماء، لأنهم يعرفون جيدا أن تمسك الناس بالدين يعني رفضهم كحكام شرعيين.
فخطر هؤلاء الحكام لا يخفى على أحد، وسبب انحراف كثير من الفرق الإسلامية، أو بعبارة أصح تفرق المسلمين إلى فرق متعددة سببه هو إتباع حكام الجور والفساد، فمسخ الدين، وعطلت الأحكام، ولم يبق من الدين إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه.
فما هو صمام الأمان للبقية الباقية من المسلمين الذين تمسكوا بنهج القرآن وهدى الأئمة (ع)، من أن ينجرفوا فيما انجرف فيه الآخرون؟، وما هو المبين لهم خطورة الحكومات الأرضية المادية، البعيدة عن تعاليم السماء؟
إن صمام الأمان هو ذكر الحسين (ع)، وذكر مواقفه التي وقفها في وجه المنحرفين والضالين، والسير على سيرته المباركة في ذلك، ليبقى المؤمن بإقامته لشعائر الحسين (ع) على حذر دائم ومستمر لما يكاد له من أعداء الدين، وليعلم جيدا أن الحاكم غير الشرعي مهما قدم للناس من خدمات ظاهرية، فهو عدو وطاغوت، الدنو منه يمثل خطرا على إيمان الإنسان وتقواه وتدينه.
وإن البكاء على الحسين (ع) وان كان في نفسه عملا راجحا لأنه مصداق لقولهم (ع) (يحزنون لحزننا(6»، إلا أنه أيضا وسيلة عاطفية تشحن روح المؤمن بالولاء لقادته وتزيده تمسكا وتعلقا بهم، ووسيلة كذلك لزرع العداء والغضب والانتقام في نفس المؤمن لأولئك الأوغاد المارقين عن الدين والمحاربين لله ولرسوله في كل عصر وزمان.
فالتمسك بالشعائر الحسينية إذن له هدف كبير وعظيم، فإن ما حققه الإمام الحسين (ع) بثورته المباركة وتضحياته العظيمة، لا يمكن المحافظة عليه إلا بالإصرار على إقامة شعائره المقدسة، وحث الناس عليها.
فإقامة الشعائر الحسينية هي امتداد لثورة الحسين (ع)، فثورته خالدة بخلود هذه الشعائر المقدسة.
وتمسكنا بالشعائر الحسينية تمسك بالتوحيد وإصرار على عبادة الله وحده، وكلما كان ارتباط المؤمن بهذه الشعائر أكثر وأعمق كان أكثر توحيدا لله تعالى، لما بيناه من أن الشعائر الحسينية هي صمام الأمان من الانجرار نحو طواغيت الأرض الذي هو بمثابة الشرك بالله تعالى، فتمسكنا بالشعائر هو ابتعاد عن الطاغوت وقرب من الله تعالى، وتخلينا عن الشعائر هو اقتراب من الطاغوت وابتعاد عن الله عز وجل.
وأما بقية الأئمة (ع) فإنه وإن كان إحياء ذكرهم واجبا شرعيا على كل مسلم أيضا، إلا إنهم لم تتوفر لهم الظروف المناسبة لأن يقفوا موقفا كموقف الحسين (ع)، فأمير المؤمنين (ع) بدأ أول إمامته ساكتا لازما بيته بوصية من النبي(ص)، والإمام الحسين (ع) أضطر إلى الصلح، وهكذا بقية الأئمة (ع).
وتمسكنا بالشعائر الحسينية هو في الحقيقة تمسك بنهج جميع الأئمة (ع)، وتمسك وذكر للنبي (ص) فهو الذي يقول: (حسين مني وأنا من حسين)(7).
ثم إن الإمام المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) عندما يظهر في آخر الزمان ينادي بطلب الثأر لجده الحسين (ع)، فلماذا لا ينادي بطلب الثأر لغيره من الأئمة (ع) وكلهم في الفضل سواء، و(ما منا إلا مسموم أو مقتول).
وطبعا لابد أن تكون هناك أهداف وحكم أخرى للتمسك بشعائر الحسين (ع) غير ما ذكرنا، لا يسع المجال لذكرها هنا.
ونختم كلامنا برواية مروية عن النبي (ص) انه قال :(إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا)(8).
فكأن من شروط إيمان المؤمن أن تكون في قلبه هذه الحرارة لسبط النبي (ص)، التي قد تكون تعبيرا عن طلب الثأر له (ع).
والحمد الله رب العالمين
المصادر والهوامش
- (1) اللهوف لابن ص:53.
- (2) الخصال للصدوق ص:518، الوسائل ج:11 ص:542.
- (3) المزار للمشهدي ص:501، البحار ج:98 ص:238و320.
- (4) البقرة: 256.
- (5) راجع الميزان ج:2 تفسير الآية: 256، وكذلك الأمثل.
- (6) مستدرك سفينة البحار ج:7 ص:212، والعوالم للشيخ عبد الله البحراني، ص:525.
- (7) البحار ج،23 ص:261، الإرشاد للشيخ المفيد ج:2 ص:127.
- (8) مستدرك الوسائل ج:1 ص:318.