مقام الصديقة فاطمة الزهراء (ع) عند العامة
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل على محمد وآل محمد.
للزهراء (عليها السلام) مكانة خاصة عند الله سبحانه، وعند رسوله (صلّى الله عليه وآله) وعند أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ولأجل ذلك يخصّها شيعتها بمحبة خاصّة، ومعاملة مميّزة، ولا يشكّون في عصمتها، وطهرها، وكونها أفضل امرأة خلقها الله تعالى على وجه الكون، وهذا أمر واضح جداً لمن عايشهم، وقرأ كتبهم، ولكنّ السـؤال المهـم هو: ما هو مقام الزهراء (عليها السلام) عند العامة والمخالفين لنهج أبنائها (عليهم السلام)؟ وهل يمكن إثبات فضلها وعصمتها من كتبهم؟
ونريد هنا أن نستعرض بعض آراء علماء العامة، وما رووه في كتبهم مما يدلُّ على فضل الزهراء (عليها السلام) وعظمتها، سواء قبلوا بمضمون تلك الروايات أو لم يقبلوا.
سيّدة نساء العالمين:
وردت روايات كثيرة جداً تشير إلى أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء هذه الأمة، وسيّدة نساء أهل الجنة، وهذا المضمون -مع اختلاف التعبيرات- من الأمور المسلمة عند جميع المسلمين، ولذلك نرى البخاري في باب مناقب الزهراء (عليها السلام) يبدأ فيقول: قال النبي -صلّى الله عليه وسلم-: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة» (1). من دون أن يذكر سند الحديث وكأنّه من الأمور المستغنية عن ذكر السّند.
وفي المستدرك عن عائشة، أن النبي (صلّى الله عليه وآله) قال -وهو في مرضه الذي توفي فيه-: «يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء العالمين، وسيّدة نساء هذه الأمة، وسيّدة نساء المؤمنين» “هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا”(2).
وفي البخاري ومسلم ومسند أحمد واللفظ للأخير عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: «أقبلت فاطمة تمشي كأنَّ مشيتها مشية رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، فقال: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم إنّه أسرَّ إليها حديثاً فبكت، فقلت لها: استخصك رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- حديثه ثم تبكين، ثم إنّه أسرّ إليها حديثا فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عمَّا قال، فقالت: ما كنت لأفشي سرَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- حتى إذا قبض النبي -صلّى الله عليه وسلم- سألتها فقالت: إنه أسرّ إليَّ فقال: إنّ جبريل (عليه السلام) كان يعارضني بالقرآن في كلِّ عام مرة، وإنّه عارضني به العام مرتين، ولا أراه إلا قد حضر أجلي، وإنَّك أوّل أهل بيتي لحوقاً بي، ونعم السّلف أنا لك، فبكيت لذلك، ثمَّ قال: ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأمة، أو نساء المؤمنين، قالت: فضحكت لذلك»(3).
وفي مسند أحمد وفضائل الصحابة للنّسائي واللفظ للأول عن حذيفة قال: «سألتني أمّي منذ متى عهدك بالنبي -صلّى الله عليه وسلم- قال: فقلت لها: منذ كذا وكذا، قال: فنالت مني وسبّتني، قال: فقلت لها: دعيني فإنّي آتي النبي -صلّى الله عليه وسلم- فأصلي معه المغرب ثمَّ لا أدعه حتى يستغفر لي ولك، قال: فأتيت النبي -صلّى الله عليه وسلم- فصلّيت معه المغرب، فصلّى النبي -صلّى الله عليه وسلم- العشاء، ثم انفتل فتبعته، فعرض له عارض فناجاه، ثمّ ذهب فاتّبعته فسمع صوتي، فقال: «من هذا؟» فقلت: حذيفة، قال: «مالك؟» فحدّثته بالأمر فقال: «غفر الله لك ولأمك»، ثم قال: «أما رأيت العارض الذي عرض لي قبيل»، قال: قلت: بلى، قال: «فهو ملك من الملائكة لم يهبط الأرض قبل هذه الليلة، فاستأذن ربه أن يسلّم عليّ ويبشرني أنَّ الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة، وأنَّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنة»(4). ورواه الترمذي في سننه وقال: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل”(5).
ونزول ملك لم ينزل إلا تلك الليلة لتبشير النّبي (صلّى الله عليه وآله) إنما يدلُّ على أهمية ما يبشّر به، ومزيد اهتمام المولى وملائكته بذلك الأمر المهم.
وقد ذكر في المستدرك أنّ عروة بن الزبير كان يحدث بحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال عن ابنته زينب:«هي أفضل بناتي»،فبلغ ذلك علي بن الحسين(الإمام السجاد -عليه السلام-)، فانطلق إلى عروة فقال: «ما حديث بلغني عنك تحدِّث به تنتقص به حق فاطمة»، قال عروة: والله إني لا أحب أنّ لي ما بين المشرق والمغرب وأنّي انتقص فاطمة (رضي الله عنها) حقّاً هو لها، وأمّا بعد فإن لك أن لا أحدث به أبدا. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه… قال الإمام أبو بكر في آخر هذه اللفظة: أفضل بناتي، معناه أي من أفضل بناتي لأنَّ الأخبار ثابتة صحيحة عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ فاطمة (عليها السلام) سيّدة نساء هذه الأمة وكذلك ثابت عن النبي (صلّى الله عليه وآله)، أنَّه قال: «فاطمة سيّدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران»”(6).
فاطمة أفضل أم مريم (عليهما السلام):
إذا كنَّا نحن والروايات المتقدمة -باستثناء الرواية الأخيرة- فإنّها تدلُّ بشكل واضح على تفضيل فاطمة الزهراء (عليها السلام) على السيّدة مريم (عليها السلام)، ولكن الرواية الأخيرة وغيرها تخصص ذلك، وإن كانت ساكتة عن أيتهن الأفضل، ولا توجد رواية صريحة في تفضيل العذراء مريم (عليها السلام)، ومن فضَّلها إنما استشهد بشواهد يمكن مناقشتها.
ووقع خلاف عند العامة في أيتهن الأفضل، وادعى البعض تفضيل حتى عائشة على الزهراء (عليها السلام)، والظاهر أنَّ أكثر أهل السنة يقولون: بتفضيل مريم العذراء على فاطمة الزهراء. أمّا الشّيعة فقد أجمعوا على تفضيل فاطمة الزهراء تفضيلاً مطلقاً ووافقهم على تفضيلها جمهور كبير من شيوخ أهل السنة، وصرّح به كثير من المحققين منهم. والقائلون بتفضيل مريم على فاطمة (عليهما السلام) أهمّ دليل يستدلون به هو تصريح القرآن المجيد باصطفائها على نساء العالمين، في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} (7).
وقال المناوي في فيض القدير أنّ في المسألة “خلاف مشهور، فرجّح البعض تفضيل فاطمة لما فيها من البضعة الشريفة، وبعضهم مريم لما قيل بنبوتها، ولأنَّه تعالى ذكرها مع الأنبياء في القرآن، قال القرطبي: ظاهر القرآن والأحاديث يقتضي أنَّ مريم أفضل من جميع نساء العالم من حواء إلى آخر امرأة عليها، ويؤيده أنّها صدّيقة ونبيّة بلّغتها الملائكة الوحي من الله بالتكليف والأخبار والبشارة وغيرها كما بلغت جميع الأنبياء قال: فهي نبيّة خلافاً لبعضهم، وحينئذٍ فهي أفضل من فاطمة؛ لأنَّ النبي أفضل من الولي”(8).
وممّن ذهب إلى تفضيل الزهراء (عليها السلام) ما يظهر من البلقيني في (فتاويه) قال: “الذي نختاره أنّ فاطمة أفضل ثم خديجة ثم عائشة، للحديث الصحيح، وأنّه قال لفاطمة: «أما ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأمة، وسيّدة نساء المؤمنين»، وفي النّسائي مرفوعا: «أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد»، سنده صحيح، فالحديث صريح في أنّها وأمّها أفضل نساء أهل الجنة، والحديث الأول يقتضي فضل فاطمة على أمّها، وفي حديث آخر: «فاطمة بضعة منّي» وهو يقتضي تفضيل فاطمة على جميع نساء العالم ومنهنّ خديجة وعائشة وبقية بنات النبي -صلّى الله عليه وسلم-“(9).
قال الصالحي الشامي(م942هـ): “قال شيخنا: والذي اختاره تفضيل فاطمة، ففي مسند الحارث بن أسامة بسند صحيح لكنّه مرسل: «مريم خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها». أخرجه الترمذي موصولا من حديث علي -رضي الله تعالى عنه- «خير نسائها مريم، وخير نسائها فاطمة»، قال الحافظ ابن حجر: والمرسل يعضد المتصل. وروى النّسائي عن حذيفة -رضي الله تعالى عنه- أنَّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- قال: «هذا ملك من الملائكة استأذن ربّه ليسلّم عليّ، ويبشّرني أنّ حسناً وحسيناً سيدا شباب أهل الجنة، وأمّهما سيدة نساء أهل الجنة»، انتهى كلام الشيخ -رحمه الله تعالى- في شرحه لنظم جمع الجوامع، وقال في كتابه: (إتمام الدراية): ونعتقد أنّ أفضل النساء مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد، ثم أورد حديث علي، وحديث حذيفة السابقين، ثم قال: في ذلك دلالة على تفضيلها على مريم بنت عمران، خصوصاً إذا قلنا بالأصح: إنها ليست نبيّة، وقد تقدر أن هذه الأمة أفضل من غيرها.
قلت: وحاصل الكلام السابق أنّ السبكي اختار أنّ السيدة فاطمة أفضل من أمها، وأنّ أمها أفضل من عائشة، وأنّ مريم أفضل من خديجة، واختار شيخنا أنّ فاطمة أفضل من مريم، وقال القاضي قطب الدين الخضري -رحمه الله تعالى- (في الخصائص) بعد أن ذكر في التفضيل بين خديجة ومريم: إذا علمت ذلك فينبغي أن يستثنى من إطلاق التفضيل سيدتنا فاطمة ابنة رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- فهي أفضل نساء العالم، لقوله -صلّى الله عليه وسلم-: «فاطمة بضعة مني»، ولا يعدل ببضعة رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- أحد، وسئل الإمام أبو بكر عمر ابن إمام أهل الظاهر داود: هل خديجة أفضل أم فاطمة؟ فقال: الشارع قال: «فاطمة بضعة مني»، قال الشيخ تقي الدين المقريزي في الخصائص النبوية في كتابه (إمتاع الأسماع): إن قلنا بنبوة مريم كانت أفضل من فاطمة، وإن قلنا إنّها ليست بنبيّة احتمل أنّها أفضل للخلاف في نبوتها، واحتمل التسوية بينهما تخصيصاً لهما بأدلتهما الخاصة من بين النّساء، واحتمل تفضيل فاطمة عليها، وعلى غيرها من النساء، لقوله -صلّى الله عليه وسلم-: «فاطمة بضعة مني»، وبضعة النبي -صلّى الله عليه وسلم- لا يعدل بها شيء، وهو أظهر الاحتمالات لمن أنصف”(10).
وقال ابن حيان في التفسير المحيص: “قال بعض شيوخنا: والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء، أنهم ينقلون عن أشياخهم: أنّ فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنّها بضعة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)”(11).
وأهم أدلّة القوم على تفضيل السيدة مريم (عليها السلام) دليلان:
الدّليل الأول: كونها نبيّة، وهو أمر مختلف فيه بينهم، ولا يقول به أحد من الشيعة، وربما الدليل الذي ذكر على ذلك هو الوحي الذي هو خاص بالأنبياء (عليهم السلام)، ويردّه قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}(12)، إلا إذا كان الوحي هنا بمعنى الإلهام، وقال ابن عطية الأندلسي: “وجمهور النّاس على أنّه لم تنبأ امرأة”(13).
ويقول الرازي في ردّه على دعوى نبوّة مريم (عليها السلام): “اعلم أنّ مريم (عليها السلام) ما كانت من الأنبياء لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} (يوسف: 109)، وإذا كان كذلك كان إرسال جبريل (عليه السلام) إليها إمّا أن يكون كرامة لها، وهو مذهب من يجوز كرامات الأولياء، أو إرهاصاً لعيسى (عليه السلام)، وذلك جائز عندنا، وعند الكعبي من المعتزلة، أو معجزة لزكريا (عليه السلام)، وهو قول جمهور المعتزلة، ومن النّاس من قال: إنّ ذلك كان على سبيل النّفث في الرّوع والإلهام والإلقاء في القلب، كما كان في حقِّ أم موسى (عليه السلام) في قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى}“(14). وورد من طرقنا تسمية الزهراء (عليها السلام) بالمحدَّثة، وأنّ الملائكة كانت تحدّثها.
الدّليل الثّاني: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}(15). وهي -حسب الدعوى- صريحة على تفضيلها (عليها السلام) على جميع نساء العالمين، والبحث في هذه الآية طويل، وورد من طرقنا عن ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّ الملائكة ينادون فاطمة (عليها السلام) «بما نادت به الملائكة مريم فيقولون: يا فاطمة {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}»(16).
وعند الرجوع إلى كتب المفسرين فإنَّ أكثرهم يقولون بأنّ الاصطفاء الثّاني لمريم (عليها السلام) خاصّ بزمانها، أو مع ذكر احتمال كل الأزمان من دون ترجيح أيّهما الأظهر. وإليك بعض تلك الكلمات:
1- الطبري في جامع البيان:” {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} يعني: اختارك على نساء العالمين في زمانك بطاعتك إياه، ففضّلك عليهم”، “عن ابن جريج: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قال: ذلك للعالمين يومئذ”(17).
2- السدي: “{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} قال: على نساء ذلك الزمان الذي هم فيه”(18).
3- الواحدي: {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، على عالمي زمانك”(19).
4- النحاس:”{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}. فيه قولان: أحدهما: أن المعنى على أهل زمانها، والقول الآخر على جميع النّساء بعيسى، فليس مولود ولد من غير ذَكَر إلا عيسى (عليه السلام)”(20).
5- الجصّاص: “قيل: في قوله: {اصْطَفَاكِ}: اختارك بالتفضيل على نساء العالمين في زمانهم”، يروى ذلك عن الحسن وابن جريج، وقال غيرهما: “معناه أنَّه اختارك على نساء العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح”(21).
6- البغوي: “{وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ}، قيل: على عالمي زمانها، وقيل على جميع نساء العالمين في أنّها ولدت بلا أب، ولم يكن ذلك لأحد من النّساء، وقيل: بالتحرير في المسجد ولم تحرر”(22).
7- ابن الجوزي: “وفي هذا الاصطفاء الثّاني أربعة أقوال: أحدها: أنّه تأكيد للأول. والثّاني: أنّ الأوّل للعبادة. والثّاني: لولادة عيسى (عليه السلام)، والثّالث: أنّ الاصطفاء الأوّل اختيار منهم، وعموم يدخل فيه صوالح من النّساء، فأعاد الاصطفاء لتفضيلها على نساء العالمين. والرابع: أنّه لمّا أطلق الاصطفاء الأوّل، أبان بالثّاني أنّها مصطفاة على النّساء دون الرّجال. قال ابن عباس، والحسن، وابن جريج: اصطفاها على عالمي زمانها. قال ابن الأنباري: وهذا قول الأكثرين”(23).
8- الشوكاني: “والمراد بالعالمين هنا قيل نساء عالم زمانها وهو الحق، وقيل نساء جميع العالم إلى يوم القيامة، واختاره الزجاج، وقيل الاصطفاء الآخر تأكيد للاصطفاء الأوّل، والمراد بهما جميعا واحد”(24).
9- الآلوسي: “وقيل: المراد نساء عالمها؛ فلا يلزم منه أفضليتها على فاطمة رضي الله تعالى عنها، ويؤيده ما أخرجه ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النّبي -صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: «أربع نسوة سادات عالمهنّ، مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخدجية بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد -صلّى الله عليه وسلم- وأفضلهنّ عالماً فاطمة»، وما رواه الحرث بن أسامة في (مسنده) بسند صحيح لكنه مرسل «مريم خير نساء عالمها» وإلى هذا ذهب أبو جعفر رضي الله تعالى عنه وهو المشهور عن أئمة أهل البيت -والذي أميل إليه- أنّ فاطمة البتول أفضل النّساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، بل ومن حيثيات أخر أيضا، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة؛ لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات وبحيثيّة من الحيثيات -وبه يجمع بين الآثار- وهذا سائغ على القول بنبوة مريم أيضاً؛ إذ البضعية من روح الوجود، وسيّد كل موجود لا أراها تقابل بشيء، وأين الثريا من يد المتناول، ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير… وبعد هذا كلّه الذي يدور في خلدي أنّ أفضل النساء فاطمة، ثم أمّها، ثم عائشة، بل لو قال قائل: إن سائر بنات النبي -صلّى الله عليه وسلم- أفضل من عائشة لا أرى عليه بأسا؛ وعندي بين مريم وفاطمة توقف؛ نظراً للأفضلية المطلقة، وأما بالنظر إلى الحيثيّة فقد علمت ما أميل إليه”(25).
ثم على فرض كون الاصطفاء على جميع نساء العالم، فإنّه اصطفاء بولادة المسيح (عليه السلام) من دون أب، وهذا لا يقتضي الاصطفاء في جميع الجوانب، ولا يقتضي أفضليّة السيدة مريم (عليها السلام) على السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام).
وعلى فرض التساوي أو حتى أفضلية السيدة مريم (عليها السلام)، لا شكَّ أنّ الزهراء البتول (عليها السلام) هي أفضل نساء هذه الأمة، فالسؤال يأتي: هل تعاملُ الأمةِ معها (عليها السلام) يتناسب مع مقامها الشامخ، أم بُخس حقها وإلى يومنا هذا؟!
أدلة العصمة:
وأكتفي بمضمون واحد من الروايات التي يمكن دعوى التواتر فيها، والتي لا يمكن أن ينكرها أحد من المسلمين، وقد جاءت بألفاظ مختلفة وفي موارد متعددة:
في البخاري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «فاطمة بضعة منّي، فمن أغضبها أغضبني»(26).
وفي المستدرك: “عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لفاطمة: إنّ الله يغضب لغضبك، ويرضى لرضاك»، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”(27).
وفيه أيضا: “عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنما فاطمة شجنة مني، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها»، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”(28).
ينابيع المودة عنه (صلّى الله عليه وآله): «إنما فاطمة بضعة مني، يسرني ما يسرها، ويبغضني ما يبغضها»(29).
تكثّر هذا الحديث بصيغ مختلفة يدلُّ على أنَّ هناك هدفاً كبيراً يريد أن يوصله النبي (صلّى الله عليه وآله) لهذه الأمة، وهو أنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) تمثّل الفاصل بين الحق والباطل، فالمواضع التي ترضى فيها يكون هو موضع الحق ومحلّه فيجب اتباعه، والمواضع التي لا ترضى فيها يكون موضع الباطل فيجب اجتنابه.
ولا يوجد منصف -لو تمعّن في هذه الأحاديث- إلا ويفهم منها عصمة الزهراء (عليها السلام)، فلا يمكن حمل فعل النبي (صلّى الله عليه وآله) على العاطفة والمجاملة والمحاباة لابنته (عليها السلام)، بل لأنها (عليها السلام) لا تغضب إلا للحق، ولا ترضى إلا للحق.
تمييع الحديث:
وحاول أعداء الله أن يضربوا عصفورين بحجر واحد كما يقال، فإنّهم لمّا رأوا أنّ هذا الحديث ثابت لا يمكن إنكاره لكثرته، غيّروا معناه ومورده الصحيح، فوضعوا أحاديث كاذبة تنتقص من أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي نفس الوقت لا تكون للزهراء فيها فضيلة كبيرة وإن ذكروها في فضائلها (عليها السلام)، وهي أنّ مورد هذا الحديث هو لمّا أراد علي (عليه السلام) أن يتزوج على الزهراء (عليها السلام)، والظاهر أنّ كل الروايات عن المسور بن مخرمة. وعن أبي الوليد أنّه قال: “إنما كان المسور بن مخرمة ابن ثمان سنين”(30).
ففي البخاري عن المسور بن مخرمة: “أنّ عليّاً خطب بنت أبي جهل، فسمعت بذلك فاطمة فأتت رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- فقالت: يزعم قومك أنّك لا تغضب لبناتك، وهذا عليٌ ناكح بنت أبي جهل، فقام رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- فسمعته حين تشهد يقول: أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني وصدقني، وإنّ فاطمة بضعة مني وإنّي أكره أنّ يسوءها، والله لا تجتمع بنت رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- وبنت عدو الله عند رجل واحد فترك علي الخطبة”(31).
وفي البخاري عن المسور بن مخرمة أيضاً: “أنّه سمع رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- على المنبر وهو يقول: إنّ بني هشام بن المغيرة استأذنوني أن يُنكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب فلا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، ثم لا آذن لهم، إلا أن يحب ابن أبي طالب أنّ يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنّما ابنتي بضعة منّي يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها”(32).
ونقل بعض علمائهم بعد نقل هذا الحديث عن “عمر بن داود وكان من النبلاء يقول: لمّا قال النبي -صلّى الله عليه وسلم-: فاطمة بضعة منّي، يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها، حرَّم اللهُ على عليٍ أن ينكح على فاطمة (عليها السلام) فيؤذي رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- لقول الله (عزّ وجلّ): {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ}“(33)، وهذا إقرار بمضمون الحديث وإن كان مورده مكذوباً.
ولا نحتاج إلى الرد على هذا الافتراء، وإنّما نبيّن المهم الذي أراد أن يوصله النّبي (صلّى الله عليه وآله) للأمة.
مورد الحديث:
نقول: إنَّ الهدف من تأكيد النبي (صلّى الله عليه وآله) لهذا الحديث هو ما كان يعلمه (صلّى الله عليه وآله) من الأحداث التي ستحدث من بعده، فموقف الزهراء (عليها السلام) كان يمثل حجَّة على الأمّة لو كانت الأمّة تريد الحق، فالحق مع الزهراء ومع علي (عليهما السلام)، فأمّا علي فأخرجوا روايات مكذوبة تقول بأنّه قد بايع، لعلمهم بأنّ عدم مبايعته يخدش في شرعيّة الخلافة. وأمّا حديث رضا فاطمة (عليها السلام) فحاولوا تمييع مضمونه كما تقدّم، ولكن لنرى البخاري ماذا ينقل لنا حول ذلك:
في البخاري:”عن عروة عن عائشة: أنّ فاطمة (عليها السلام) بنت النّبي -صلّى الله عليه وسلم- أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر فقال: أبو بكر إنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- قال: لا نورث ما تركنا صدقة، إنما يأكل آل محمّد في هذا المال، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- عن حالها التي كان عليها في عهد رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته، فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي -صلّى الله عليه وسلم- ستّة أشهر، فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلاً ولم يُؤذن بها أبا بكر وصلّى عليها، وكان لعلي من النّاس وجه حياة فاطمة، فلمّا توفيت استنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك كراهية لمحضر عمر…”(34).
نضع هنا خطوطاً عريضة جداً على بعض النّقاط التي أثبتها هذا الخبر، ففيه حقائق لا زال يكذّبها الكثير؛ لأنّها -بالنسبة إليه- حقائق مرَّة، ولكنّه الواقع:
فأولاً: الزهراء (عليها السلام) رحلت من الدنيا وهي واجدة (غاضبة) على أبي بكر، بل وهجرته فلم تكلمه حتى التحقت بربّها، ومن يتجرّأ ويقول بأنَّ ذلك لمجرد قضية (فدك المادية) فقد ظلم سيّدة نساء العالمين.
ثانياً: موقف الزهراء (عليها السلام) وإصرارها على هجران الخليفة الهدف منه نزع الشرعيّة عن الخليفة، وأبقت علامة مهمّة مدى الدهر لمن يبحث عن الحق، عندما أوصت علياً (عليه السلام) أن يصلّي عليها ويدفنها سراً دون معرفة مكان قبرها حتى الآن، ولم يُعلِموا الخليفة الذي من المفترض أن يكون حاضراً في هذا الحدث المهم.
ثالثاً: يؤكّد هذا الخبر بأنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يبايع أبا بكر طوال هذه الفترة، وعبارة “فلما توفيت استنكر عليّ وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الأشهر”، تدلُّ على وجود الخصومة بين علي (عليه السلام) والقوم على مسألة الخلافة وليس أمراً آخر.
ولخطورة حديث (يرضى الله لرضاها) ودلالته المهمة على العصمة، نرى البعض ينفي غضب الزهراء (عليها السلام) على الخليفة، رغم الروايات الواضحة، ومثال على ذلك كلام الألباني وابن كثير حول نصّ من هذه النصوص التي فيها مخاصمة بين الزهراء (عليها السلام) وبين الخليفة، وننقله على طوله.
يقول الألباني: “حديث: إذا أطعم الله نبيا طعمة ثم قبضه فهو للذي يقوم بها من بعده”. رواه (أبو بكر) حسن. أخرجه الإمام أحمد في “مسنده”، وكذا ابنه عبد الله في زوائده عليه، وأبو يعلى في “مسنده” من طريق الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال: “لما قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أرسلت فاطمة إلى أبي بكر: «أنت ورثت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أم أهله»؟ قال: فقال: بل أهله، قالت: «فأين سهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله)»؟ قال: فقال أبو بكر إني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: إن الله إذا أطعم نبيا طعمة ثم قبضه، جعله للذي يقوم من بعده. فرأيت أن أرده على المسلمين، فقالت: «فأنت وما سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)». قلت: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات رجال مسلم، غير أنّ ابن جميع وهو عبد الله ابن الوليد بن جميع ضعّفه بعضهم من قبل حفظه حتى قال الحكم -على تساهله- “لو لم يذكره مسلم في (صحيحه) لكان أولى”. وقال الحافظ في (التقريب). “صدوق، يهم، ورمي بالتشيع”.
والحديث أخرجه أبو داود من هذا الوجه. وقال الحافظ ابن كثير في “تاريخه” بعد أن عزاه إليه وإلى أحمد: “ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة، ولعلّه روي بمعنى ما فهم بعض الرواة، وفيهم من فيه تشيّع فليعلم ذلك، وأحسن ما فيه قولها: أنت وما سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهذا هو الصواب، والمظنون بها، واللائق بأمرها، وسيادتها، وعلمها، ودينها (رضي الله عنها)، وكأنّها سألته بعد هذا أن يجعل زوجها ناظراً على هذه الصدقة، فلم يجبها إلى ذلك لما قدمناه، فعتبت عليه بسبب ذلك، وهي امرأة من بنات آدم، تأسف كما يأسفون وليست بواجبة العصمة، مع وجود نصّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ومخالفة أبي بكر الصديق رضي الله عنها. وقد روينا عن أبي بكر رضي الله عنه أنّه ترضّى فاطمةَ وتلايَنَها قبل موتها، فرضيت”(35).
ملاحظات سريعة على هذا الكلام:
أولا: إنّ الألباني عنون الحديث بما نقله أبو بكر عن النّبي (صلّى الله عليه وآله)، ولعلّ ذلك لصرف النّظر عن المضمون الأهمّ في الرواية.
ثانياً: رغم عدم تفصيل الرواية لما حدث، ورغم صحة السّند بطريق مسلم، نرى التشكيك في صحة السند.
ثالثاً: ربط المسألة بالتشيّع، كقول ابن كثير: “وفيهم من فيه تشيّع، فلْيُعلم ذلك”، وكأنّه أدرك أنّ رضا الزهراء (عليها السلام) مهم في شرعيّة الخلافة، ولذلك قال: “وقد روينا عن أبي بكر (رضي الله عنه) أنه ترضّى فاطمةَ وتلايَنَها قبل موتها، فرضيت”؛ لأنّه يعلم أنّ سخطها يسحب الشرعيّة من الخلافة فيثبت ما يقوله الشيعة، ولذلك قال: “ففي لفظ هذا الحديث غرابة ونكارة”.
رابعاً: محاولة ابن كثير تحريف ما يفهم من عدم رضا الزهراء (عليها السلام) بما أجابه أبو بكر، حيث ردّت عليه قائلة: «فأنت وما سمعت من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)».
العلاقة بين الزهراء (عليها السلام) وبين أبيها (صلّى الله عليه وآله):
ميَّز اللهُ الزهراء (عليها السلام) بشبه النّبي (صلّى الله عليه وآله) في الخَلق والخُلق، فهي تشبهه في الحديث والكلام روى أبو داوود في سننه: عن عائشة أنّها قالت: «ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً وهدياً ودلاً، وقال الحسن: حديثاً وكلاماً، ولم يذكر الحسن السمت والهدى والدل، برسول الله -صلّى الله عليه وسلم- من فاطمة كرم الله وجهها: كانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبّلته وأجلسته في مجلسها»(36).
وفي المستدرك عن عائشة: “ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها، وقام إليها، فأخذ بيدها، فقبّلها، وأجلسها في مجلسه”. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه”(37).
وهي (عليها السلام) تشبه أباها (صلّى الله عليه وآله) في المِشيّة، روى البخاري ومسلم واللفظ للأول عن عائشة: “أقبلت فاطمة تمشى كأنّ مِشيتها مشي النبي -صلّى الله عليه وسلم-“(38).
وعن عائشة: “ما رأيت أحداً قط أصدق من فاطمة”(39). وفي المستدرك عن عائشة أيضا: “ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها”، هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه”.
ولهذه الصفات وغيرها مما حازت عليها الزهراء البتول (عليها السلام) كان النّبي (صلّى الله عليه وآله) يجلّها ويعظّمها كما في الروايات المتقدّمة، وكان يكثر من تقبيلها حتى أمام زوجاته، وكان إذا خرج من المدينة كان آخر من يودّعه فاطمة (عليها السلام)، وإذا رجع كان أوّل من يستقبله فاطمة (عليها السلام)، لا لكونها ابنته، ولكن ليبين للنّاس عظمتها عند الله تعالى.
زواج الزهراء (عليها السلام):
تتميّز الزهراء (عليها السلام) على نساء العالمين في زواجها؛ حيث إنّ زواجها كان بيد الله تعالى، وهو سبحانه الذي زوّجها من السماء، وهذا في رواياتنا أمر واضح، فلننظر إلى روايات العامة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله [لعلي]: «إن الله زوّجك فاطمة وجعل صداقها الأرض، فمن مشى عليها مبغضاً لك، مشى حراماً»(40).
وفي رواية أخرى أنه (صلّى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): «إن الله (عزّ وجلّ) أمرني أن أزوّجك فاطمة على أربعمائة مثقال فضة”(41).
وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أيضاً: “«يا علي: إنّ الله أمرني أن أزوّجك فاطمة، وإنّي قد زوجتكها على أربعمائة مثقال فضة فقال: قد رضيت يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ثم إنّ علياً خرَّ لله ساجداً شاكراً، فلما رفع رأسه قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): بارك الله لكما، وبارك فيكما، وأسعد جدكما، وأخرج منكما الكثير الطيّب»، قال أنس (رضي الله عنه): والله لقد أخرج الكثير الطيب”(42).
وغيرها من الروايات التي تدلُّ على أنّ الله هو الذي اختار علياً لفاطمة (عليهما السلام)، وإن كانت بعض هذه الروايات ضعيفة سنداً عند العامة، ولكن تنوعها يوجب الاطمئنان بصدورها، ومن المعلوم لكل مسلم أنّ الله تعالى لا يحابي ولا يجامل أحداً.
ومما لفت نظري عند البحث وجود رواية عنه (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال لعثمان: إنّ الله أمرني أن أزوجك ابنتي أم كلثوم!!!
فاطمة (عليها السلام) يوم المحشر:
ما تقدّم يدلّ على مكانة الزهراء (عليها السلام) عند الله وعند رسوله (صلّى الله عليه وآله)، وهذه المكانة تتجلى يوم القيامة، والروايات في ذلك كثيرة:
عن الشعبي عن أبي جحيفة عن علي (عليه السلام) قال: «قال النبي (صلّى الله عليه وآله): إذا كان يوم القيامة، قيل: يا أهل الجمع غضّوا أبصاركم لتمر فاطمة بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فتمر وعليها ريطتان خضراوان»، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”(43).
وفي حديث آخر عن علي (عليه السلام) قال: «سمعت النّبي (صلّى الله عليه وآله) يقول: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب يا أهل الجمع غضّوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمّد (صلّى الله عليه وآله) حتى تمر»، هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه”(44). وهذا يدل على أنها فعلاً سيدة نساء العالمين كما تقدم.
الزهراء (عليها السلام) أوّل من يدخل الجنة:
ومما يدل على مكانتها (عليها السلام) بحيث تقدّم على غيرها، حتى على الأنبياء (عليهم السلام)، أنّها من أوائل من يدخل الجنة، روى الحاكم في المستدرك عن عاصم بن ضمرة عن علي (عليه السلام) قال: «أخبرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله): أنَّ أوّل من يدخل الجنة أنا وفاطمة والحسن والحسين، قلت: يا رسول الله فمحبّونا؟ قال: من ورائكم» صحيح الإسناد ولم يخرجاه”(45).
وعن أبي هريرة عنه (صلّى الله عليه وآله): «أوّل من تدخل الجنة فاطمة بنت محمّد، مثلها في هذه الأمّة مثل مريم بنت عمران في بني إسرائيل»(46).
ومما يدل على كون هذه المكانة مكانة إلهية، لا علاقة لها بمسألة النّسب وكون الزهراء (عليها السلام) ابنة لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ما ورد عنه (صلّى الله عليه وآله) أنه قال: «إنما سمّيت ابنتي فاطمة؛ لأنّ الله تعالى فطمها وفطم محبّيها من النار»(47).
ففاطمة (عليها السلام) فرع من فروع النّبوة والرسالة، وقد روى صاحب المستدرك رواية مهمّة، وإن قال عن مضمونها أنّه (متن شاذّ)، ولكن لمن يعرف عظمة الزهراء (عليها السلام) لا يستكثر ذلك، والرواية هي عن ميناء بن أبي ميناء مولى عبد الرحمن بن عوف قال: “خذوا عني قبل أن تشاب الأحاديث بالأباطيل، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول: «أنا الشجرة، وفاطمة فرعها، وعليّ لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا ورقها، وأصل الشجرة في جنّة عدن، وسائر ذلك في سائر الجنّة»، هذا متن شاذ، وإن كان كذلك فإنّ إسحاق الدبري صدوق وعبد الرزاق وأبوه وجده ثقات وميناء مولى عبد الرحمن بن عوف قد أدرك النّبي (صلّى الله عليه وآله) وسلّم، وسمع منه، والله أعلم”(48).
هذا مقدار يسير مما ورد في فضائلها (عليها السلام) من طرق العامة، نسأل الله أن يرزقنا في الدنيا زيارتها، وفي الآخرة شفاعتها. والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على خير خلقه محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
المصادر والهوامش
- (1) البخاري، ج4، ص209.
- (2) المستدرك، ج3، ص156.
- (3) مسند أحمد، ج6، ص282، وقريب منه في البخاري، ج4، ص183. ومسلم، ج7، ص142-143.
- (4) مسند أحمد، ج5، ص391، وفضائل الصحابة للنّسائي، ص58، و76. وذكر المقطع الأخير ابن أبي شيبة في المصنف، ج7، ص512، والهيثمي في موارد الظمآن، ج7، ص172.
- (5) سنن التّرمذي، ج5، ص326.
- (6) المستدرك، ج4، ص44.
- (7) فاطمة والمفضلات من النساء، عبد اللطيف البغدادي، ص124.
- (8) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي، ج2، ص68.
- (9) سبل الهدى والرشاد للشّامي، ج10، ص327.
- (10) سبل الهدى والرّشاد للصالحي الشّامي، ج11، ص162-163.
- (11) التّفسيرالمحيص لابن حيان، ج2، ص476-477.
- (12) القصص: 11.
- (13) المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ج1، ص434.
- (14) تفسير الرازي، ج8، ص45.
- (15) آل عمران: 42.
- (16) أمالي الصدوق، ص575.
- (17) جامع البيان للطبري، ج3، ص357-359.
- (18) تفسير ابن أبي حاتم، ج2، ص647.
- (19) تفسير الواحدي، ج1، ص210.
- (20) معاني القرآن للنحاس، ج3، ص398.
- (21) أحكام القرآن للجّصّاص، ج2، ص16.
- (22) تفسير البغوي، ج1، ص300.
- (23) زاد المسير، لابن الجوزي، ج1، ص329.
- (24) قتح القدير للشوكاني، ج1، ص338.
- (25) تفسير الآلوسي، ج3، ص156.
- (26) البخاري، ج4، ص210.
- (27) المستدرك، ج3، ص54.
- (28) المستدرك، ج3، ص54.
- (29) ينابيع المودة، ج2، ص57.
- (30) فضائل سيدة النّساء، لعمر بن شاهين، ص32-36.
- (31) البخاري، ج4، ص212.
- (32) مسلم، ج7، ص141.
- (33) فضائل سيّدة النساء، لعمر بن شاهين، ص32-36.
- (34) البخاري، ج5، ص83.
- (35) إرواء الغليل، للألباني، ج5، ص77.
- (36) سنن أبي داوود، ج2، ص522.
- (37) المستدرك، ج3، ص154.
- (38) البخاري، ج9، ص203، مسلم، ج7، ص143.
- (39) مجمع الزوائد للهيثمي، ج9، ص201.
- (40) المناقب للموفق الخوارزمي، ص328.
- (41) تحفة الأحوذي، المباركفوري، ج4، ص216.
- (42) نظم در السمطين، ص178.
- (43) المستدرك، ج3، ص161.
- (44) المستدرك، ج3، ص153.
- (45) المستدرك، ج3، ص151.
- (46) ينابيع المودة، ج2، ص322.
- (47) ينابيع المودة، ج2، ص320.
- (48) المستدرك، ج3، ص160.