اتباع الهوى وطول الأمل
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمَّ صلِّ على محمَّد وآل محمَّد.
تتميّز كلماتُ أهل البيت^ بأنّها تمسك الأمور من جذورها لتعالج المشاكل الأساسية عند المؤمن، وتتميَّز أيضاً في عصمتها وعدم الحاجة فيها إلى التجربة، فإنَّ التجربة -بالإضافة إلى احتياجها إلى الوقت الطويل قد يفوّت العلاج عن كثير من الناس- لا يُقطع بصدق نتائجها وما يتوصَّل إليه، خصوصاً في مثل مقامنا؛ حيث الحديث عن النفس والأمور الروحية والأخلاقية المؤثِّرة على مصير الإنسان في الحياة.
وفيما نحن بصدد الحديث عنه وردت روايات عن أكثر من معصوم تصبّ في نفس المضمون، منها ما عن أمير المؤمنين حيث يقول: >أيّها الناس إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل؛ فأمّا اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأمَّا طول الأمل فينسي الآخرة[1].
والكلام بشكل مجمع حول هذين المرضين يتمُّ من خلال عدَّة مطالب:
المطلب الأول: خطورة هذين المرضين
إنَّ التعبير في هذا الحديث الشريف بقوله: >أخوف ما أخاف عليكم، من الممكن أن يكون معناه أحد أمرين، أو كلاهما معاً:
الأوَّل: أنّ سبب التخويف الشديد من هذين المرضين، هو خطرهما الكبير، وكونهما منشأً لبقية الأمراض الأخرى، وحينئذٍ يكونان الأساس للأمراض الروحية التي تهدم الفرد والمجتمع، ويكون من الصعب حينئذٍ إصلاح المجتمع من بقية الأمراض ما دام هذان المرضان موجودين.
الثاني: أنَّ السبب هو كونهما من أكثر الأمراض الروحية وقوعاً وتحققاً عند الناس، فلا يخلو منهما أحدٌ من الناس إلا من رحم ربك.
والسبب الأول مراد قطعاً؛ إذ لا يكفي في خطورة مرضٍ ما مجرَّد كونه كثير الوقوع، بل لا بدَّ من أن يكون في نفسه خطيراً، نعم من المحتمل جداً أنّ السبب هو كلا الأمرين، فإنّه قد يكون مرض ما خطيراً جداً ولكنَّه نادر الوقوع من الناس، فلا يلزم التخوّف منه أكثر من الأمراض الأخرى الخطيرة.
وعلى كلّ حال، فإنَّ الحديث يدلُّ على خطورة هذين المرضين، وأنّه لا بدَّ من الالتفات إليهما، والحذر منهما، ومحاولة علاجهما. وسيأتي في المطلب الرابع بعض الأمراض التي عبّرت فيها بعضُ الأحاديث بأنّها من >أخوف ما أخاف عليكم.
المطلب الثاني: اتباع الهوى وآثاره
المرض الأول: هو اتباع الهوى، يقول المازندراني في شرحه: “الهوى هو ميل النفس الأمارة بالسوء إلى مقتضى طباعها من اللذات الدنيوية على أنواعها حتى تخرج من الحدود الشرعية وتدخل في مراتع القوة السبعية والبهيمية”[2].
واتباع الهوى من المحرّمات، يقول الشيخ زين الدين& في كلمة التقوى: “يحرمُ على الإنسان أنْ يتبع هوى نفسه ورغباتها، إذا كان هواها ورغباتها مخالفة لما يريد الله”[3].
بل يعتبر القرآن الكريم أنَّ اتباع الهوى هو شرك، حيث يقول تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}[4].
مخاطر وآثار اتباع الهوى:
هذا التحذير الشديد والمكرَّر في الآيات والروايات من اتباع الهوى إنّما هو للآثار الوخيمة التي تترتّب عليه في الفرد وفي المجتمع، وهناك أمورٌ تعتبر آثاراً لذلك أهمّها الصدّ عن الحق كما في الحديث المتقدّم، وهناك أمور تعتبر أسباباً لاتباع الهوى، ولن نفصِّل هنا بين الأسباب والآثار، بل نذكرهما معاً في الأمور التالية:
الأمر الأول: الصدُّ عن الحق
وهو من أخطر الآثار لاتباع الهوى وقد يكون الأساس لبقية الآثار ولهذا ذكره الأمير في الحديث المتقدِّم: >فأمّا اتباع الهوى فيصدّ عن الحق؛ وذلك أنَّ مُتّبع الهوى عندما يواجهه الحق يكون في حالة صراع إمَّا أن يقبل بالحق والذي يكون لازمه ترك ما تهواه النفس وتتعلّق به وتنجذب إليه، وإمَّا أن يرجّح كفَّة الهوى لشدّة العلاقة بينه وبين الهوى، وهذا لازمه ردّ الحق، بل قد يصل إلى مرحلة محاربته، وهذا يرجع إلى شدّة تعلّقه بالهوى واتباعه له، ولذلك أصبح جهاد النفس هو الجهاد الأكبر.
نضرب مثالاً لذلك: عندما يكون هواي في تملّك المال، وتكون النفس مرتبطة ارتباطاً شديداً بذلك، فإنِّه ينتج عن ذلك أنْ امتنع عن دفع الحقوق الشرعية، بل سأقف ضدَّ من يرشد الناس لبيان وجوب هذه الحقوق الشرعية، وربما أفتري على الله لإثبات خلاف ذلك.
مثال آخر: المرأة المحبَّة للتبرُّج وكشف مفاتنها للرجال، لن تمتنع فقط عن لبس الحجاب، بل ربما تقف في وجه الحكم الشرعي بوجوب الحجاب، وربما تستميت في الدفاع عن جواز التبرُّج؛ فتفتري على الله تعالى، قال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[5].
الأمر الثاني: الشرك بالله
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}[6].
ولا نقصد بالشرك هنا الشرك المصطلح، بل ما يعمُّ مثل الرياء الذي اعتبر أنّه الشرك الأصغر، فهو الشرك العملي (الرياء)، وإلا فلا أحد منّا ينجو من اتباع الهوى ولو في بعض الأشياء، يقول الشيخ الطوسي: “وإنّما سمي الهوى إلها من حيث إنَّ العاصي يتبع هواه ويرتكب ما يدعوه إليه، ولم يُرد أنَّه يعبد هواه أو يعتقد أنّه يحق له العبادة؛ لأنَّ ذلك لا يعتقده أحد”[7].
وهناك علاقة وثيقة بين هذا الأثر وهو عبادة النفس والرياء وبين الجهل، فالعاقل لا يمكن أنْ يعبد هواه، بل العقل يدعوه إلى عبادة الله تعالى وحده وإن كانت تلك العبادة ستحرمه مما يهواه؛ وذلك لأنَّ هذا الحرمان محدود بالدنيا القصيرة الفانية، وصبره على عبادة الله تعالى سيكون مقابلها الجنّة التي عرضها كعرض السماوات والأرض، فأيّ عاقل يقدّم الفاني على الدائم، والضيّق على الواسع!!؟
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[8].
يقول الشيخ الطوسي+ حول هذا المقطع: “ثمَّ قال لنبيه: يا محمد! {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}؛ لأنَّه ينقاد له ويتبعه في جميع ما يدعوه إليه. وقيل: المعني من جعل إلهه ما يهوى، وذلك نهاية الجهل، لأنَّ ما يدعو إليه الهوى باطل، والإله حقٌّ يعظم بما لا شيء أعظم منه، فليس يجوز أن يكون الإله ما يدعو إليه الهوى، وإنّما الإله ما يدعوا إلى عبادته العقل”[9].
وقال الشيخ الطبرسي+ في المجمع: “ثم عجب سبحانه نبيه| من نهاية جهلهم، فقال: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} أي: من جعل إلهه ما يهواه، وهو غاية الجهل. وكان الرجل من المشركين يعبد الحجر والصنم، فإذا رأى أحسن منه، رمى به وأخذ يعبد الآخر”[10].
ولصاحب الميزان كلام في هذه الآية ربما يعتبر دمجاً بين ما تقدَّم من الأثر الأول وهو الصدّ عن الحق وبين كونه شركاً بالله، فيقول+: “وهؤلاء (مُتّبعي الهوى) يسلِّمون أنَّ لهم إلهاً مطاعاً وقد أصابوا في ذلك، لكنَّهم يرون أنَّ هذا المُطاع هو الهوى فيتّخذونه مطاعاً، بدلاً من أنْ يتخذوا الحقَّ مطاعاً، فقد وضعوا الهوى موضع الحق”[11]، وهذا يعني أنّ عبادة الهوى الذي هو شرك ينتج عنه الصدُّ عن الحق والابتعاد عنه، فيكون وصف الشرك لمتّبع الهوى من باب أنَّ حقيقة اتّباع الهوى هو كونه شركاً ورياء، وأمَّا الصدّ عن الحق فهو نتيجة هذا الشرك واتباع الهوى، وهو الذي ذكره أمير المؤمنين كما تقدَّم.
الأمر الثالث: طغيان النفس
قال الخليل: “كلُّ شيء يجاوز القدر فقد طغى، مثل ما طغى الماء على قوم نوح، وكما طغت الصيحةُ على ثمود”[12]، وقال الراغبُ عن الطغيان أنَّه: “تجاوز الحدّ في العصيان”[13]، فطغيان النفس حينئذٍ هو تجاوزها الحدَّ الذي رسمه الله تعالى لها.
ويمكن استفادةُ هذا الأثر من المقابلة بين طغيان النفس وبين اتّباع الهوى في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[14]؛ فإنَّ الآية المباركة تذكر فردين، الثاني منهما هو الذي ينهى نفسَه عن الهوى، فيكون مقابلُه من لا ينهى النفس عن هواها بل يتبع الهوى، وعبَّرت عنه الآيةُ بأنَّه طاغٍ[15]، ومن الممكن هنا أن يكون الطغيانُ هو السبب في اتباع الهوى واختيار الدنيا كما يظهر من صاحب الميزان[16]، ومن الممكن أنْ يكون اتباع الهوى وعدم نهي النفس عن هذا الاتباع هو السبب في نشوءِ حالية الطغيان، والتي قلنا بأنَّه هو تجاوز الحدِّ في المعصية.
الأمر الرابع: وقوع الفتن
وهذا ما يشير إليه الأمير كما ورد عن سليم بن قيس الهلالي أنّه قال: “خطب أمير المؤمنين فحمد الله وأثنى عليه ثمّ صلّى على النبي|، ثمّ قال: >ألا إنَّ أخوف ما أخاف عليكم خِلّتان: اتباع الهوى وطول الأمل، أمَّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق، وأمَّا طول الأمل فينسي الآخرة، ألا إنَّ الدنيا قد ترحّلت مدبرة، وإنَّ الآخرة قد ترحّلت مقبلة، ولكل واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإنَّ اليوم عمل ولا حساب، وإنَّ غدا حساب ولا عمل، وإنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله يتولى فيها رجال رجالاً”[17]، فاتباع الهوى والابتداع في الدين، يعني الخروج عن النظام الذي شرَّعه اللهُ تعالى للنَّاس لتستقيمَ أمورُهم، ولازم هذا التعدّي والخروج عن النّظام الإلهي هو وقوع النّاس في الفتن[18]، كما نراه جلياً حينما استولى الشيطان على نفوسٍ سلبت الخلافة عن أهلها اتباعاً للهوى وحباً للدنيا، وابتدعت بدعاً في الدين، فعمَّت الفتنُ في العالم الإسلامي وليومنا هذا، وسنعيد ذكر هذه الخطبة كاملة نهاية المقال لما فيها من ذكر للآثار الخطيرة المترتبة على اتباع الهوى.
الأمر الخامس: عدم قبول العمل
وهو أثر من آثار اتباع الهوى، فعن الإمام الكاظم، أنّه قال لهشام بن الحكم: >يا هشام! قليل العمل من العاقل مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود”[19].
وقد جعل مخالفة الهوى شرطاً لدخول الجنّة كما يفهم مما روي عن أبي عبد الله، قال: >قال رسول الله|: من سلم من أمتي من أربع خصال فله الجنة: من الدخول في الدنيا، واتباع الهوى، وشهوة البطن، وشهوة الفرج”[20].
وعن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين يحدّث عن النبي| أنّه قال في كلام له: >العلماء رجلان: رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج وعالم تارك لعلمه فهذا هالك، وإنَّ أهل النار ليتأذّون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبداً إلى الله فاستجاب له وقبِل منه فأطاع الله فأدخله الله الجنة وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، أما اتباع الهوى فيصدّ عن الحق وطول الأمل ينسي الآخرة[21].
إضافة إلى أنَّ متّبع الهوى لا يحصل على مبتغاه حتى في الدنيا، فإنَّ الله تعالى لا يهنِّيه في دنياه، بل ينكِّد عليه عيشته، فعن أبي جعفر قال: >قال رسول الله|: يقول الله: وعزتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يُؤْثر عبد هواه على هواي إلا شتّت عليه أمره، ولبَّستُ عليه دنياه، وشغلت قلبه بها، ولم أؤته منها إلا ما قدّرت له، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائكتي، وكفَّلت السماوات والأرضين رزقه، وكنت له من وراء تجارة كلّ تاجر، وأتته الدنيا وهي راغمة[22].
محاربة النفس جهاد:
حينما يقف المرءُ على هذه الآثار والعواقب لاتباع الهوى فإنَّ عقله لا بدَّ أن يدعوَه لشنِّ حرب شعواء تجاه الهوى؛ لينجو من هذه العواقب الوخيمة والمؤلمة.
والحرب يعني الجهاد، والجهاد يحتاج للعدّة والتأهّب والصبر، ونصوص المعصومين^ تدعو إلى ذلك بشدَّة، فعن الصادق أنّه كان يقول: >لا تدع النفس وهواها فإنَّ هواها [في] رداها، وترك النفس وما تهوى أذاها، وكفُّ النفس عمَّا تهوى دواها[23]، وعن أحدهم: >جاهد هواك كما تجاهد عدوك[24].
ثم إنَّ مخالفة الهوى ليس بالأمر الهيّن، بل يحتاج إلى جهاد أكثر من الجهاد في ساحة الحرب، ولذلك يطلب زين العابدين ذلك من الله تعالى فيقول في الصحيفة السجادية: >وطهّرنا من اتباع الهوى ومخالطة السفهاء، وعصيان العلماء والرغبة عن القراء، ومجالسة الدناة[25].
وعن الإمام الصادق: >احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد ألسنتهم[26]، وقد جُعلت الشجاعة الحقيقية والعجز الحقيقي يدور مدار متابعة الهوى ومخالفته: فعن الصادق، قال: >قال أمير المؤمنين: أشجع النّاس من غلب هواه. قال زيد بن صوحان لأمير المؤمنين: أيّ سلطان أغلب وأقوى؟ قال: >الهوى”[27].
وعن أبي ذر قال: قال رسول الله|: >الكيِّس (من الناس) من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبّع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني[28].
فاتباع الهوى وعدم القدرة على محاربة مشتهيات النفس يدلّ على العجز والضعف عند الإنسان، فكم من شجاع في سوح الجهاد يسقط ضعيفاً أمام شهوة عابرة، ولذة فانية.
وعن سيد المرسلين|: >والثلاث المهلكات: شحٌّ مطاع، وهوى متبع، وإعجابُ المرء بنفسه”[29].
المطلب الثالث: طول الأمل وآثاره
وهو من الصفات المهلكة للفرد وللمجتمع، ومنشأ هذا المرض الخطير لا يختلف عن السابق، يقول في جامع السعادات: “منشأ طول الأمل الجهل، وحبُّ الدنيا”[30].
وطول الأمل يعني أنْ يعطي الإنسان لنفسه أملاً ببقائه في هذه الحياة الفانية، فيحسب نفسه خالداً فيها، ويكون عمله وفقاً لهذا الاعتقاد بالبقاء، مع إرادته ورغبته وتعلّق قلبه بمشتهيات الدنيا من مال وجاه وولد وما شاكل ذلك[31].
والأثر المهلك لهذا المرض الخطير هو نسيان الآخرة، ومن نسيان الآخرة تتفرَّع الآثارُ الأخرى، فينسى الله تعالى، ويتعلَّق قلبُه بالدنيا، ويترك الواجب، ويتساهل في الحرام، إلى غير ذلك من الآثار.
يقول المولى المازندراني في شرحه لقول الأمير المتقدم >وطول الأمل ينسي الآخرة: “لأنَّ طولَ توقِّعِ الأمور الدنيوية يوجبُ نسيان النفس وغفلتها عن الأحوال الأخروية، وهو مستعقب لانمحاء ما تصور في الذهن منها، وذلك معنى النسيان، وبذلك يكون الهلاك الأبدي والشقاء الأخروي”[32].
ولا شكَّ في أنَّ من ينسى الآخرة فسوف يكون عملُه كعمل غير المؤمن، فلا يردعه شيء، يقول علي: >ما أطال عبدٌ الأملَ إلا أساءَ العمل[33].
ولذلك فإنَّ الروايات الشريفة تحذّر من ذلك أشدَّ التحذير، فقد روي أنَّ أسامة بن زيد اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر، فسمع رسول الله| فقال: >ألا تعجبون من أسامة المشتري إلى شهر؟ إنَّ أسامة لطويل الأمل، والذي نفسي بيده ما طرفت عيناي إلا ظننت أنَّ شفرتي[34] لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي، ولا رفعت طرفي وظننت أنّي خافضُه حتى أُقبض، ولا تلقَّمْتُ لقمة إلا ظننت أنّي لا أسيغها انحصر بها من الموت ثمّ قال|: >يا بني آدم إنْ كنتم تعقلون فعدُّوا أنفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده إنّما توعدون وما أنتم بمعجزين”[35].
فترة الشباب هي المحور:
قد يتصوَّر البعضُ أنَّ الإنسان إذا كبر واقترب من الموت سوف يقصرُ أملُه، ولكن الروايات تؤكِّد خلاف ذلك، كما ورد في الحديث: >يشيبُ ابنُ آدم ويشبُّ فيه خصلتان؛ الحرص، وطول الأمل[36]، فالمدار في القضاء على هذا المرض هو فترة الشباب، أمّا إذا تغلغل هذا المرض في النفس فترة الشباب ولم يحارب فإنَّ هذه النفسية التي يعيشها من الاعتقاد بالبقاء تبقى شابة طرية، ويزداد اعتقاده أكثر في المزيد من البقاء، وهذا ما نراه من بعض الظلمة والفسقة -الذين يترقّب الجميعُ موتَهم لما يحملونه من أمراض وضعف في البدن- ولكنّهم يعملون أعمال من يرجو أنْ يبقى مائة عام أخرى، قال تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}[37].
ويقول رسول الله|: >من كان يأمل أنْ يعيش غداً، فإنّه يأمل أن يعيش أبداً[38]، فيجب محاربة طول الأمل وعلاجه مبكراً.
علاج طول الأمل:
العلاج هو التفكُّر والتمعُّن في أحوال الدنيا وتقلّباتها، ورؤية الراحلين منها من الصغار والكبار والمرضى والأصحّاء، يقول علي: >لو رأى العبدُ أجلَه وسرعتَه إليه لأبغض الأملَ وطلب الدنيا[39].
وعنه أيضاً روحي فداه: >ولو أنَّ أحداً يجدُ إلى البقاء سلّما، أو إلى دفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داود الذي سخَّر له ملكُ الجنِّ والإنس مع النبوة وعظيم الزلفة، فلمَّا استوفى طعمته، واستكمل مدته، رمتُه قسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية، والمساكن معطلة، وورثها قوم آخرون، وإنَّ لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة وأبناء العمالقة. أين الفراعنة وأبنـاء الفراعنة. أين أصـحاب مدائـن الـرس الذين قتـلوا النبيين وأطفأوا سنن المرسلين، وأحيـوا سـنن الجبـارين، وأين الذين سـاروا بالجيوش وهزموا الألـوف، وعسـكروا العسـاكر ومدنوا المدائن[40].
وعن أبي عبد الله قال: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: >ما أنزل الموتَ حقَّ منزلته من عدَّ غداً من أجله”[41].
والفرق الشاسع بين طويل الأمل وبين غيره أنَّ طويل الأمل لا يتذكِّر الآخرة، بينما من يضع الموت والآخرة نصب عينيه، فإنِّه يعد نفسه في الأموات كما في الحديث.
والفرق الآخر أنَّ طويل الأمل لشدة تعلّقه بالدنيا يشمئزُّ من ذكر الموت وما بعد الموت، بينما المؤمن الحقيقي ينتظر ذلك اليوم؛ لأنَّ قلبه ليس فيه إلا حبّ الله تعالى، والدنيا في نظره شيء ممقوت يريد التخلّص منه، فنرى مثلا أمير المؤمنين لما ابتلي بأهل الدنيا كان يقول -وهو يخطب على منبر الكوفة وقد فأخذ بلحيته- >متى ينبعث أشقاها حتى يخضب هذه من هذه[42].
المطلب الرابع: موارد ذكر فيها لفظ >أخوف ما أخاف
قلنا في المطلب الأول أنَّ تخوف الأمير من مرضي اتباع الهوى وطول الأمل إمّا بسبب كونهما من أخطر الأمراض، أو بسبب كونهما من أكثر الأمراض وقوعا، ويحتمل الأمران معاً، ولكن قد وردت عدّةُ نصوص ذكر فيها لفظ >أخوف ما أخاف من أمراض أخرى، وكثير من هذه النصوص لم ترد في مصادرنا، وبعض هذه الأمراض يمكن إرجاعها إلى اتباع الهوى طول الأمل.
وهذه الأمراض كالتالي: المكاسب المحرَّمة، والشهوة، والربا، والرياء، والمنافق عليم اللسان، والأئمة المضلون، وتأخير الصلاة عن وقتها، وتعجيلها عن وقتها، والكتاب واللبن.
فعن الشهوة والربا: جاء في الكافي عن أبي عبد الله قال: قال رسول الله|: >إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي هذه المكاسب الحرام والشهوة الخفية والربا[43].
وورد حول الرياء: في مسند ابن حنبل قال رسول الله|: >إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر؟ قال رسول الله|: >هو الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء، ورواه الشهيد الثاني في منية المريد[44].
وعن شداد بن أوس أنَّه بكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: شيء سمعته من رسول الله| فأبكاني سمعت رسول الله|، يقول: >أخوف ما أخاف على أمتي الشرك والشهوة الخفية، قلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: >نعم، أمَا إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه[45].
وفي المنافق: روى ابن حنبل عن عمر عن النبي|: >إنَّ أخوف ما أخاف عليكم بعدي كلّ منافق عليم اللسان، ونقله الشهيد في منية المريد[46].
وورد شبيه له في كتبنا فقد روى الصدوق في الخصال عن أمير المؤمنين أنَّه قال: >قطع ظهري رجلان من الدنيا: رجل عليم اللسان فاسق، ورجل جاهل القلب ناسك، هذا يصد بلسانه عن فسقه، وهذا بنسكه عن جهله، فاتقوا الفاسق من العلماء والجاهل من المتعبدين، أولئك فتنة كل مفتون، فإني سمعت رسول الله| يقول: يا علي هلاك أمتي على يدي [كل] منافق عليم اللسان[47].
وعن الأئمة المضلين: روى أحمد في مسنده عن أبي الدرداء قال: “عهد إلينا رسول الله|: >إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الأئمة المضلون”[48].
وروى البيهقي أنّ النبي| قال: >إنَّ الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وأعطاني الكنزين الأحمر والأبيض، فإنَّ ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وإني سألت ربي أنْ لا يهلكهم بسنَّة عامَّة، وأنْ لا يسلّط عليهم عدواً من غيرهم فيهلكهم، وأنْ لا يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد، إني إذا أعطيت عطاء فلا مردّ له، إنّي أعطيتك لأمتك أن لا يهلكوا بسنة عامة، وأن لا أسلّط عليهم عدوا من غيرهم فيستبيحهم ولو اجتمع عليهم من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وبعضهم يسبي بعضاً وبعضهم يفتن بعضاً، وإنّه سيرجع قبائل من أمتي إلى الشرك وعبادة الأوثان، وإنَّ من أخوف ما أخاف الأئمة المضلين، وأنّه إذا وضع السيف فيهم لم يرفع إلى يوم القيامة، وإنّه سيخرج في أمتي كذابون دجالون قريباً من ثلاثين، وإني خاتم الأنبياء لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله رواه مسلم في الصحيح”[49].
وعن أبي الأعور السلمي قال سمعت رسول الله| يقول: >إنَّ أخوف ما أخاف على أمتي شحّ مطاع، وهوى متبع، وإمام ضال. رواه الطبراني والبزار وفيه من لم أعرفه”[50].
وفي تأخير الصلاة عن وقتها وتعجليها: عن أنس بن مالك عن النبي|: >إنَّ أخوف ما أخاف على أمتي تأخيرهم الصلاة عن وقتها، وتعجيلهم الصلاة عن وقتها”[51].
وعن الكتاب واللبن: وعن عقبة بن عامر عن النبي| قال: >إنَّ أخوف ما أخاف على أمتي الكتاب واللبن فأما اللبن فينتجع أقوام لحبه فيتركون الجمعة والجماعات، وأما الكتاب فيفتح لأقوام منه فيجادلون به الذين آمنوا. رواه الطبراني وأحمد بغير لفظه وفيه ابن لهيعة وفيه كلام”[52].
وكما نرى فإنَّ أكثر هذه الأمور ترجع إلى اتباع الهوى وطول الأمل، فمثلا الأئمة المضلون إنما كانوا مضلين ومانعين الناس عن الحق بسبب اتباعهم أهواءهم وتعلّقهم بالدنيا والسلطة، وكذلك الشهوة والمكاسب المحرمة.
المطلب الخامس: آثار اتباع الهوى وطول الأمل في كلام الأمير
أذكر هذه الخطبة المهمَّة لأمير المؤمنين -رغم طولها، وقد تقدم صدرها- وهو يتحدّث فيها عن مصاديق كثيرة للفتنة، وموارد لما أُدخل في الدين ابتداعاً، وكلّ ذلك سببه اتباع الهوى وطول الأمل، وفي الحقيقة إنّ كلامه يعتبر منذراً لنا أيضاً لمعرفة خطورة هذين المرضين الهدامين للفرد وللمجتمع، بل للدين وللشريعة.
روى الكليني في الكافي علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن إبراهيم بن عثمان، عن سليم بن قيس الهلالي قال: خطب أمير المؤمنين فحمد الله وأثنى عليه ثمّ صلَّى على النبي|، ثمَّ قال: >ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوى وطول الأمل، أمَّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق، وأمَّا طول الأمل فينسي الآخرة، ألا إنَّ الدنيا قد ترحلت مدبرة، وإنَّ الآخرة قد ترحلَّت مقبلة، ولكلِّ واحدة بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليوم عمل ولا حساب، وإنَّ غدا حساب ولا عمل، وإنّما بدء وقوع الفتن من أهواء تتبع وأحكام تبتدع، يخالف فيها حكم الله يتولى فيها رجال رجالا، ألا إنَّ الحقَّ لو خلص لم يكن اختلاف، ولو أنَّ الباطل خلص لم يخف على ذي حجى؛ لكنَّه يؤخذ من هذا ضغث، ومن هذا ضغث، فيمزجان، فيجللان معا، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، ونجا الذين سبقت لهم من الله الحسنى، إني سمعت رسول الله| يقول: كيف أنتم إذا لبستم فتنة يربو فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، يجري النّاس عليها ويتخذونها سنة، فإذا غيّر منها شيء قيل: قد غيّرت السنة، وقد أتى الناس منكراً، ثمَّ تشتدُّ البلية، وتسبى الذرية، وتدقهم الفتنة كما تدقّ النار الحطب، وكما تدقّ الرحا بثفالها، ويتفقهون لغير الله، ويتعلَّمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بأعمال الآخرة، ثمَّ أقبل بوجهه وحوله ناس من أهل بيته وخاصته وشيعته فقال: >قد عملت الولاة قبلي أعمالاً خالفوا فيها رسول الله| متعمدِّين لخلافه، ناقضين لعهده مغيّرين لسنته، ولو حملت النَّاس على تركها، وحولتها إلى مواضعها، وإلى ما كانت في عهد رسول الله| لتفرَّق عني جندي، حتى أبقى وحدي، أو قليل من شيعتي الذين عرفوا فضلي وفرض إمامتي من كتاب الله وسنة رسول الله|، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم فرددته إلى الموضع الذي وضعه فيه رسول الله|.
ورددت فدك إلى ورثة فاطمة.
ورددت صاع رسول| كما كان.
وأمضيت قطائع أقطعها رسول الله| لأقوام لم تمض لهم ولم تنفذ.
ورددت دار جعفر إلى ورثته وهدمتها من المسجد.
ورددت قضايا من الجور قضي بها.
ونزعتُ نساءً تحت رجال بغير حق فرددتهن إلى أزواجهن، واستقبلت بهنَّ الحكم في الفروج والأرحام. وسبيت ذراري بني تغلب.
ورددت ما قسم من أرض خيبر.
ومحوت دواوين العطايا، وأعطيتُ كما كان رسول الله| يعطي بالسوية، ولم أجعلها دُولةً بين الأغنياء.
وألقيت المساحة.
وسويت بين المناكح.
وأنفذت خمس الرسول كما أنزل الله وفرضه.
ورددت مسجد رسول الله| إلى ما كان عليه، وسددت ما فتح فيه من الأبواب، وفتحت ما سدّ منه.
وحرمت المسح على الخفين.
وحددت على النبيذ.
وأمرت بإحلال المتعتين.
وأمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات.
وألزمت الناس الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وأخرجت من أدخل مع رسول الله| في مسجده ممن كان رسول الله| أخرجه، وأدخلت من أخرج بعد رسول الله| ممن كان رسول الله| أدخله.
وحملت الناس على حكم القرآن.
وعلى الطلاق على السنة.
وأخذت الصدقات على أصنافها وحدودها.
ورددت الوضوء والغسل والصلاة إلى مواقيتها وشرائعها ومواضعها.
ورددت أهل نجران إلى مواضعهم.
ورددت سبايا فارس وسائر الأمم إلى كتاب الله وسنة نبيه|.
إذاً لتفرقوا عني.
والله لقد أمرتُ الناس أنْ لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، وأعلمتهم أنَّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهلُ عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غُيّرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعاً، ولقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري.
ما لقيت من هذه الأمة من الفرقة وطاعة أئمة الضلالة والدعاة إلى النار؟!
وأعطيتُ من ذلك سهم ذي القربى الذي قال الله: {إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}[53]، فنحن والله عنى بذي القربى الذي قرننا الله بنفسه وبرسوله| فقال تعالى: {فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ >فينا خاصة كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ >في ظلم آل محمد إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}[54]، لِمَن ظَلَمهم رحمةً منه لنا، وغنى أغنانا الله به، ووصّى به نبيه| ولم يجعل لنا في سهم الصدقة نصيباً، أكرم اللهُ رسولَه| وأكرمنا أهلَ البيت أن يطعمنا من أوساخ الناس، فكذّبوا الله، وكذّبوا رسوله، وجحدوا كتاب الله الناطق بحقنا، ومنعونا فرضاً فرضه الله لنا، ما لقي أهل بيت نبي من أمته ما لقينا بعد نبينا|، والله المستعان على من ظلمنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم[55].
وكل مورد من هذه الموارد التي عدّدها الأمير تحتاج إلى بحث وشرح، وليس البحث حول ذلك، فليطلب من محله.
نسأل الله تعالى أنْ يرزقنا الصدق في القول والعلم، وأنْ يبصِّرنا عيوبنا، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً، إنِّه جواد كريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
المصادر والهوامش
- [1] نهج البلاغة، ج1، ص92.
- [2] شرح الكافي، المولى المازندراني، ج2، ص141.
- [3] كلمة التقوى، الشيخ زين الدين، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مسألة 65.
- [4] الجاثية: 23.
- [5] القصص: 50.
- [6] الجاثية: 23.
- [7] التبيان، الشيخ الطوسي، ج9 ص259.
- [8] سورة الفرقان: 41- 44.
- [9] التبيان، الشيخ الطوسي، ج7، ص493.
- [10] تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج7، ص299.
- [11] تفسير الميزان، العلامة الطباطبائي، ج15، ص223.
- [12] كتاب العين، الفراهيدي، ج4، مادة طغو-طغي، ص435.
- [13] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الأصفهاني، ص520.
- [14] سورة النازعات: 73- 41.
- [15] راجع في تفسير الآية: تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي، ج20 ص192.
- [16] راجع المصدر السابق.
- [17] الكافي، ج8، ص58.
- [18] يقول المولى المازندراني في شرحه لهذا الحديث: “وذلك لأنَّ المقصود من بعثة الرسل ووضع الشرايع إنما هو نظام الخلق، فكان كلُّ هوى متبع وحكم مبتدع خارج عن حكم الله وحكم الله وحكم رسوله سبباً لوقوع الفتنة، وتبدد نظام الوجود في هذا العالم، وذلك كأهواء المخالفين والبغاة والخوارج والغلاة وغيرهم”، شرح أصول الكافي، ج11، ص396.
- [19] المستدرك، ج12، ص112.
- [20] نفس المصدر، ص111.
- [21] الكافي، ج1، ص44.
- [22] الكافي، ج2، ص335.
- [23] نفس المصدر، ص336.
- [24] من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج4 ص410.
- [25] الصحيفة السجادية (أبطحي)، من مناجات باسم (الانجيلية الوسطى) ص470.
- [26] يقول المازندراني.: “>فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم؛ لأن ضرر العدو على فرض تحققه راجع إلى الدنيا الفانية، وضرر الهوى مع تيقنه راجع إلى الآخرة الباقية، والفرق بينهما كالفرق بين الدنيا والآخرة، وقد رغب اللهù في ترك الهوى، ورتب عليه دخول الجنة فقال: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، وحثَّ أمير المؤمنين بقوله: >الهوى شريك العمى؛ يريد أنَّ الهوى مثل عمى القلب يلقى صاحبه في جبّ الغوى؛ فهو شريك له في الإهلاك، وفي تركه مراتب كثيرة لا يقدر عليه إلا العالم الماهر العارف بمكائد النفس، أو التابع له، إذ النفس مكارة قد تلبس الباطل بلباس الحق فيظن الجاهل أنه حق”. شرح الكافي، ج9، ص388.
- [27] المستدرك، ج12، ص111.
- [28] نفس المصدر، ص112.
- [29] الخصال، الشيخ الصدوق، ص84.
- [30] جامع السعادات، المحقق النراقي، ج3، ص27.
- [31] يقول الشيخ النراقي في تعريف طول الأمل: “وهو أن يقدر ويعتقد بقاءه إلى مدة متمادية، مع رغبته في جميع توابع البقاء: من المال والأهل والدار وغير ذلك، وهو من رذائل قوتي العاقلة والشهوة إذ الاعتقاد المذكور راجع إلى الجهل المتعلق بالعاقلة، وحبه لجميع توابع البقاء وميله إليه من شعب حب الدنيا، وجهله راجع إلى تعويله: إمَّا على شبابه، فيستبعد قرب الموت مع الشباب” جامع السعادات، ج3 ص25.
- [32] شرح الكافي، المازندراني، ج2، ص141.
- [33] البحار، المجلسي، ج70، ص166.
- [34] الشُفر بالضم شفر: العين، وهو ما نبت عليه الشعر، وأصل نبت الشعر في الجفن، وليس من الشعر في شيء، وهو مذكر، لسان العرب، مادة: شفر، ج4، ص418.
- [35] روضة الواعظين، النيسابوري، ص437.
- [36] البحار، ج70، ص22.
- [37] سورة البقرة: 96.
- [38] البحار، ج70، ص167.
- [39] البحار، ج70، ص166.
- [40] نهج البلاغة، ج2، ص107.
- [41] الكافي، ج3، ص259.
- [42] نهج السعادة، ج2، ص694.
- [43] الكافي، ج5 ص124.
- [44] منية المريد، الشهيد الثاني، ص317، وعنه في مستدرك الوسائل، المحدث النوري، ج1، ص107، ومثله في عدة الداعي، ابن فهد الحلي، ص214.
- [45] مجمع الزوائد، الهيثمي، ج3 ص201.
- [46] مسند أحمد، ج1 ص22، منية المريد، ص137.
- [47] الخصال، ص69.
- [48] مسند أحمد، ج6، ص441.
- [49] السنن الكبرى، البيهقي، ج9، ص181.
- [50] مجمع الزوائد، الهيثمي، ج5، ص239.
- [51] السنن الكبرى، ج2، ص215.
- [52] مجمع الزوائد، ج2، ص44.
- [53] سورة الأنفال: 41.
- [54] سورة الحشر: 7.
- [55] الكافي، ج8، ص58-63.