بعض ملامح التوحيد في الثورة الحسينية
الملخص
((تعرّض الكاتب في مقالته -في سبع نقاط وخاتمة- إلى علائم التّوحيد في النّهضة الحسينيّة، استلهاماً من كلمات وأفعال السّبط الشّهيد(ع)، فأشار إلى بعض أنواع التّوحيد، كالتّوحيد في الحاكميّة والتّوحيد في الخشية، وإلى المنطلق التوحيدي في الثورة الحسينية، وإلى علاقة التوحيد برضا أهل البيت(ع)، ولفت إلى أنَّ ما أصاب الأمّة من خللٍ كان السَّبب الأساس فيه هو عدم التّوحيد الحقيقيّ)).
المقدمة
إنَّ ثورة الإمام الحسين(ع) هي امتداد لرسالة جدِّه المصطفى(ص) بلا شكٍّ ولا ريب، وحيث إنّه ما بُعثَ النَّبيّ(ص) إلّا لانتشال النَّاس من براثن الجهل والشِّرك، وهكذا كلُّ الأنبياء السّابقين(ع)، فلا شكَّ حينئذ أن يكون الهدف الأساس للثَّورة الحسينيّة المقدَّسة هو الحفاظُ على التَّوحيد الخالص، الّذي لا يشوبُه أيُّ شائبة.
وهذا هو معنى قولِه(ع) في وصيتِه لأخيه محمَّد بن الحنفية: >إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي(ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي علي بن أبي طالب(ع)، فمن قبلني بقبول الحقِّ فاللهُ أولَى بالحقِّ، ومن ردَّ عليَّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقِّ وهو خير الحاكمين<([1]).
فالإصلاح الحسينيّ لم يكن لترميم ما هو موجود؛ إذ لم يترك بنو أميَّة من الإسلام غيرَ الاسم، وكان هدفُهم محوَ الإسلام محواً تامّاً وكاملاً، وهذا ما بيّنَه الإمام(ع) لمروان بن الحكم، حيث قال مروان اللعين للإمام الحسين(ع): يا أبا عبد الله، إنِّي لك ناصحٌ، فأطعني ترشد، فقال الحسين(ع): >وما ذاك؟ قل حتّى أسمع<، فقال مروان: إنّي آمرك ببيعة يزيد أمير المؤمنين؛ فإنَّه خيرٌ لك في دينِك ودنياك، فقال الحسين(ع): >إنَّا للهِ وإنِّا إليه راجعون، وعلى الإسلام السَّلام إذ قد بُليَت الأمَّة براعٍ مثلِ يزيد، ولقد سمعتُ جدِّي رسول الله(ص) يقول: الخلافة محرَّمةٌ على آل أبي سفيان<، وطالَ الحديثُ بينَه وبين مروان حتّى انصرف مروان، وهو غضبان<([2]).
إذن.. الصِّراع الّذي كان بين يزيد وبين السِّبط الشَّهيد(ع)، لم يكن صراعاً سياسيّاً بحتاً، بل كان صراعاً بين جبهة تمثِّلُ الحقَّ والتَّوحيد، وبين جبهة تمثِّلُ البَاطل والشِّرك. ويزيد كان يحمل ثاراتٍ من بدر وحنين، يجعله يحمل همَّ القضاء على الإسلام. نعم، من منطلقات يزيد –وأمثاله من اليزيديّين- هو الحصول على السُّلطة بأيِّ وجه كان، فإذا اقتضت مصلحة الكرسيّ أن يتظاهر بالدِّين فسوف يتظاهر، وإن اقتضت الحربُ على الدَّين صريحاً فلن يتردَّد في ذلك.
ولهذا لا يصحُّ التَّعاطي مع ثورة سيِّد الشُّهداء(ع) من منطلق السِّياسة الضِّيّقة المحصورة بجانب السُّلطة والحكم، بل يجبُ التَّعاملُ معها كما نتعاملُ مع نبوّة النَّبيّ(ص) ومشروعه الإلهيّ تماماً، وفي كلِّ زواياه وتفاصيله، والّذي كان أساسه رفع راية التّوحيد الخالص والكامل..
ومن هنا، نريد أن نتعرَّض لبعضِ ملامح التَّوحيد في الثَّورة الحسينيّة، والمقتنصة من أقوال إمامنا أبي عبد الله الحسين(ع) وأفعاله قبل الثَّورة وأثناءها، ونضعها ضمن نقاط:
النّقطة الأولى: من أنواع التّوحيد (التّوحيد في الحاكمية)
من أهمِّ أنواع التَّوحيد الّذي كانت في خطرٍ في زمنِ يزيد -بل قبلَه- هو التّوحيدُ في الحاكميّة، بمعنى أنَّ منصب الحكم هل هو حقٌ خالص لله يؤتيه من يشاء ويصرفه عمَّن يشاء و{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}(الأنعام:124)، أو أنّه شرعة لكلِّ وارد؟
العقيدة التّوحيديّة الخالصة والحقَّة تقول: بأنَّ الله تعالى هو الخالق، والعالم، والحكيم، وهو الهادي للخلق فهو أعلم بالطّريق الّذي يهدي النَّاس إلى الحقِّ، ويعرف من هو الّذي يستطيع أن يقوم بمهمّة الهداية، الّتي إحدى وسائلها المهمَّة الحكم والسّلطة، ولا سلطة لأحدٍ من النَّاس على الخلق، بل لا سلطة للإنسان على نفسِه، >ألستُ أولَى بالمؤمنين على أنفسهم<([3])، وإعطاء الحقِّ في الحكم والسُّلطة لأحدٍ من البشر -دون اختيار الله سبحانه ورضاه- هو شركٌ بالله سبحانه، ومحاربةٌ له في دينه.
والخلل الذي كان موجوداً بدرجة كبيرة عند النَّاس أيامَ يزيد هو في هذا الجانب، فإنَّهم ما كانوا ينكرون وجودَ الله تعالى، ولا يدَّعون أنَّ معَ الله إلهاً آخر، ولا يعبدونَ غيره ظاهراً، ولكنَّ النَّاس يتَّبعونَ الحاكم في كلِّ شيء، وقد وصلَ الحالُ بالنَّاس أن يقبلوا بمن هو متجاهرٌ بمخالفة الدِّين، وربّما ينكر حقّانيّة الدِّين جهاراً إذا استتبَّ له الأمر-وهو ما حصل عند يزيد لولا الثّورة والحسينيّة ومن ثمَّ بعض ردَّات الفعل وخوفه من الفتنة-، فالمشكلة الأساسيّة هي مسألة التَّوحيد في الحاكميّة، والّتي لا زالت آثارُها المدمِّرة موجودةً ونراها في كلِّ مكان. من الواضح أنّ الخلل في التَّوحيد في الحاكميّة له أسباب، لسنا في وارد الحديث عنها هنا.
النّقطة الثّانية: منطلق التّوحيد الحسيني النُّطق باسم الله تعالى
لا يمكن تحقيقُ التَّوحيد بشكلِه الخالص إلّا إذا كان اللهُ تعالَى هو محورُ حركةِ الإنسان المؤمن في كلِّ شيء، فلا يقدِّم شيئاً ولا يؤخّر شيئاً إلّا بعد النَّظر لحكم الله تعالى، وهذا يشمل الأمور الصّغيرة، فكيف إذا تصوَّرنا حركةً عظيمة تشمل مصالح العالم الإسلاميّ أجمع؟! وهي ثورةٌ سوفَ تترتَّب عليها آثارٌ عظيمة جدّاً ومستقبليّة طويلة! فإذا لم يكن المنطلق هو الله سبحانه فإنَّ هذه الآثار ستكون كارثيّة لجميع الأمَّة، والعكس بالعكس.
ولهذا، جاء في أمالي الشّيخ الصّدوق عن إمامنا الصّادق(ع) -يبيِّن فيه منطلق جدِّه الإمام الحسين(ع) في ثورته المباركة- أنَّه قال: >فلمَّا هلكَ معاوية، وتولَّى الأمر بعدَه يزيد(لعنه الله)، بعثَ عاملَه على مدينة رسول الله(ص)، وهو عمُّه عتبة بن أبي سفيان، فقدِمَ المدينة.. وبعث عتبة إلى الحسين بن علي(ع)، فقال: إنَّ أميرَ المؤمنين أمرَك أن تبايع له، فقال الحسين(ع): يا عتبة، قد علمتَ أنَّا أهلُ بيتِ الكرامة، ومعدنُ الرِّسالة، وأعلامُ الحقِّ الّذي أودعه الله(عز وجل) قلوبنا، وأنطق به ألسنتنا، فنطقت بإذن الله(عز وجل)<([4]). فحجّة الإمام الحسين(ع) في عدم مبايعة يزيد، هو أنَّه(ع) النَّاطق باسم الله تعالى، وهو يعني أنَّ حركته معصومة لا تخطأ؛ لأنَّها تنطلق من منطلق ما يريدُه الله تعالى فقط، لا ما تريدُه الأهواء والنُّفوس المريضة، فهو كجدِّه(ص) {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}([5]).
وهذا أحد وجوه التّوحيد المغفول عنه عند شريحة كبيرة من النّاس، فأنا قد أقبل الحكم الشّرعيّ بشكل مجمل باعتباره حكم الله تعالى، ولكن قد أجعل لنفسي الحقَّ في تشريع بعض الأحكام، في السّياسة، وفي الاقتصاد، وفي الأمور الاجتماعيّة والفكريّة، تارة بحجّة حرّيّة الرّأي، وتارة بحجّة عدم الاقتناع وما شاكل من المبرّرات.
ومن الملاحظ هنا، أنَّ المنطق الحسينيّ الإلهيّ هو الّذي كان يحكم حركة الإمام أمير المؤمنين(ع) وحركة الإمام الحسن(ع)، فعدم القيام لدى الأمير(ع) زمان الخلفاء الثَّلاثة، وحربه مع القاسطين والمارقين والنّاكثين، وحرب الحسن(ع) بداية إمامته ثمَّ صلحه مع معاوية، وكذلك عدم قيام الحسين(ع) أيام معاوية كان يحكمُه نفس المنطق، وينطلق من نفس هذا المنطلق الإلهيّ.
وحينئذ فأيُّ حركةٍ لا تنطلقُ من هذا المنطلق(الإلهيّ المعصوم)، ستقعُ حتماً في شباكِ الشِّرك، علمتْ ذلك أم لم تعلم، بل وستنجرُّ إلى محاربة الدِّين والإسلام وبعناوين مختلفة، وهو ما نراه في كثير من الحركات والثّورات الّتي قامت باسم الإسلام والتّديُّن.
النّقطة الثّالثة: من وجوه التّوحيد التّسليم لله تعالى
الرّوايات الشِّريفة الكثيرة تدلُّ على أنَّ استشهاد الإمام الحسين(ع) أمرٌ حتميٌّ لا مفرَّ منه، وقد أخبر به النَّبيّ(ص) المسلمين، ولذلك كان كثيرٌ من الصَّحابة كابن عباس وابن عمر ينصحون الإمام(ع) بعدم الذّهاب إلى الكوفة، وقد بكت أمُّ سلمة لمَّا علمت أنَّ الإمام الحسين(ع) سيخرج من المدينة، وروت له حديث النَّبيّ(ص) عن كربلاء، مع أنَّه(ع) كان قاصداً مكة، إلّا أنَّها عرفت -من طريقة الإمام(ع) في الخروج ومع العائلة وفي تلك الظّروف- أنَّ حديثَ النَّبيّ(ص) جاءَ أو أنّه بشكلٍ قطعيّ.
مع كثيرٍ من الرُّؤى الّتي رآها الإمام الحسين(ع) لرسول الله(ص) يخبره فيها بمقتله، ولهذا، لا حاجة للحديث حول أنَّ الإمام الحسين(ع) هل كان يعلم بمقتله أو لا؟ وإذا كان يعلم ألا يعدُّ ذلك إلقاءً للنَّفس في التّهلكة؛ لأنَّ هذا التّساؤل يدلُّ على الجهل أو التّجاهل، وعدم معرفة الحكمة من الثَّورة وضرورة الاستشهاد، وأنَّه أمرٌ واختيارٌ إلهيّ، وليس مجرَّد رغبة شخصيّة للإمام(ع).
والنَّقطة الجديرة بالحديث والّتي لها ارتباط ببحثنا، هي علاقة التَّوحيد في التَّعامل مع أمر من هذا القبيل، بمعنى أنَّ الإمام(ع) حينما كان يعلم علماً يقينيّاً بتفاصيل ما سيجري عليه وعلى أهل بيته وأصحابه، وأنَّه أمرٌ إلهيٌّ، وأنَّ فيه رضا الله ومصلحة الدِّين والإسلام، كيف تعاملَ مع ذلك من منطلق التّوحيد؟
لعلَّ كثيراً منَّا يعتبر ذلك أمراً عاديّاً وطبيعيّاً وسهلاً، ولا يوجدُ ما يوجب التّوقُّف والتَّأمّل فيه؛ فإمامٌ معصوم أُمِرَ بأمرٍ ونفَّذه امتثالاً لأمر الله تعالى، كبقيّة الأنبياء والأوصياء(ع).
وهذا الكلام فيه جانب من الصِّحة، من ناحية أنَّنا لا نستكثر على الإمام الحسين(ع) أن يمتثلَ هذا الأمر الإلهيّ الصَّعب، بل هو عنده(ع) سهل في جنب الله تعالى، > هَوّن عليَّ ما نزل بي أنَّه بعين الله<([6])، ولكنَّ الكلام في التَّكليف في حدِّ ذاتِه، هل هو سهلٌ يسيرٌ؟ ألا يحتاجُ إلى عقيدةٍ توحيديّةٍ راسخة للاقتناع والتَّسليم بهذا الأمر؟ ألا يوجب هذا الأمر اختلاق الذّرائع المتعدِّدة للهروب منه؟!
الجواب: لا شكَّ في أنَّ ذلك كان أمراً عظيماً لا يقوم به غير المعصوم(ع)، ودليل ذلك نفس الاختيار الإلهيّ لسيِّد شباب أهل الجنَّة لهذه المهمَّة.. وهناك من الشّجعان والأبطال وربّما لديهم تديّن ولو ظاهريّ، لم يمتثلوا لدعوة الإمام(ع)، بل قدّموا اقتراحات لصرف الإمام عن هذه المهمّة.
وعامّة النَّاس مع معرفتهم بالإمام الحسين(ع)، لم يرحلوا معه من أرض مكة حينما دعاهم إلى النُّصرة، بينما وجدنا كثيراً من هؤلاء قاتلوا مع ابن الزبير –بعد ذلك- وربما قُتلوا، ولكنّهم رفضوا دعوة الإمام المعصوم(ع)، فأين الخلل؟ ربّما يكون بعضُ أوجه الخلل في عقيدة التّسليم المطلق لله تعالى فيما يصنع، وفيما يأمر، وأنَّه سبحانه حكيم عليم لا يصدر منه إلّا الحقُّ.
هذا التَّسليم المطلق لمثل هذه المهمَّة، تحتاج إلى الاعتقاد الرَّاسخ بأنَّ اللهَ سبحانَه هو مالك الأمر كلِّه، وهو المؤثِّر والمقدِّر، والحافظ والنَّاصر، وهو الحكيم فيما اختار من تكليف، فلا أحد مؤثّر غيره، ولا حكيم سواه إلّا من أخذ بحكمته.
ولا يمكنُ لأحدٍ أن يسلِّم ويستسلم لله تعالى بشكلٍ مطلق،ٍ ما دامَ في نفسِه شيء ممَّا يصدرُ من الله تعالى، انظروا وتمعَّنوا في قوله سبحانَه: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء:65)، فقد نفي هنا الإيمان مع عدم التَّسليم المطلق.
والإمام الحسين(ع) كما أبرز وأظهر هذه الصِّفة(التّسليم) في موارد متعدّدة وفي أحلك الظُّروف قساوةً، فقد علَّم ذلك لأصحابه، بل وكانوا يمتلكون هذه الصِّفة من قبل، وهي الّتي أهّلتهم للمشاركة في هذا المشروع الإلهيّ الكبير، فلم نسمع أنّهم كانوا يناقشون الإمام فيما يتّخذه من مواقف، وقد وُصِفَ أبو الفضل العباس(ع) بأنَّه: >نافذ البصيرة صلب الإيمان<([7])، وكأنّما هذه الصّفة كانت شرطاً أساسيّاً لمن يلتحق بهذه المشروع، ويكون جزءا منه، {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ}([8]).
وتبرز هذه الصِّفة(التّسليم) في المؤمن في الموارد الّتي يختفي فيها وجهُ الحِكمة من التَّكليف، ويكونُ التَّكليفُ شديداً ومكلفاً، للنَّفس وللمال وللأهل، وحينما يفقد الإنسان هذه الصِّفة أو تكون ضعيفة عنده، تبرز المبرِّرات والأعذار، ويقع في الشِّرك الخفيّ دون أن يعلم.
النّقطة الرّابعة: التّوحيد في الخشية
العمل الإلهيّ والدَّعوة إلى اللهِ تعالى وإلى دينِه يلزمُ منه المواجهة، فلا يوجدُ نبيٌّ ولا وصيٌّ استقبله قومُه بالورود والتّرحيب، بل واجهوهم بكلِّ الأساليب الممكنة، والسَّبب أنَّ الدّعوة إلى التّوحيد تعني ترك كلِّ شيءٍ ليس لله فيه نصيب، وتعني رفض الحكم الظّالم، وهذا يعني المواجهة، وتقتضي رفض الفساد وهذا يعني المواجهة، وتقتضي محاربة الانحراف الأخلاقيّ في المجتمع وهذا يقتضي المواجهة.
وخصوصاً حين الكلام التّوحيد في الحاكميّة، وحينئذٍ لا بدَّ من توفُّر قسم آخر من التّوحيد، وهو ما أسميه “التّوحيد في الخشية”.
أساس الابتعاد عن فريضة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من قبل كثير من المؤمنين المتديِّنين هو الخوف والخشية من العواقب، فبعد وضوح التَّكليف وتشخيصه نجدُ أنفسَنا نبتعد، وربمَّا نختلق الأعذار، ولكنَّ السَّبب الكامن هو الخشية، الخشية من ردِّة فعل المجتمع، والخشية من أفراد معيّنين من الأشرار، والخشية من حاكمٍ ظالمٍ غشومٍ.
وهذا نوع من الشِّرك الخفيّ يعطِّل العمل، ويخلق الإرباك في المجتمع، وربّما يولِّد شبهاتٍ ناتجة من محاولة تبرير ترك هذه الفريضة، فقد أبرِّر عملَ الظَّالم حتّى لا أُلزم بمواجهته، فأخلق في المجتمع الشّكَّ والرّيبة من جهاد المؤمنين الحقيقيّين.
ومن أمثلة الواقع في العالم الإسلاميّ ككلّ، تبرير التّطبيع مع العدوِّ الصّهيونيّ، بل ومحاربة من يقاوم هذا العدوّ.
وللإمام الحسين(ع) خطبة طويلة ينقلها ابن شعبة الحرّانيّ في تحف العقول تصبُّ في هذا المعنى بوضوح، يقول فيها(ع): >اعتبروا أيها النَّاس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ}، وقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ} إلى قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}، وإنّما عاب اللهُ ذلك عليهم؛ لأنَّهم كانوا يرون [من] الظّلمة الّذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة ممَّا يحذرون، والله يقول: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} إلى أنْ يقول(ع) واصفاً حال الجبارين: >يتقلبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار وجرأة على الجبَّار، في كلِّ بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والنَّاس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد وذي سطوة على الضّعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد، فيا عجباً ومالي [لا] أعجب والأرض من غاش غشوم، ومتصدّق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا، اللهمّ إنّك تعلم أنَّه لم يكن ما كان منَّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قويَ الظَّلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيِّكم، وحسبنا الله، وعليه توكلَّنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير<([9]).
فكون المؤمن يخشى الله سبحانه فهذا لا يكفي، بل لا بدَّ أن ينضمَّ إليه عدم الخشية من غيره، وهذا معنى “التّوحيد في الخشية”، فأنا لا أخاف إلّا الله سبحانه، فهو المالك القاهر القادر، وغيره مملوك ضعيف ذليل.
ولا نحتاج إلى مزيدِ عناء،ٍ لإثبات أنَّ الإمامَ الحسين(ع) كان هو المظهر الواضح للتّوحيد في الخشية، بصورتها الجليّة والواضحة، في زمنٍ وظرفٍ كان الخوفُ من يزيد وزبانيّته هو المسيطر على كلِّ أطراف الدَّولة الإسلاميّة.
وخوفُه -حينَ خروجه من المدينة ومن مكَّة حرمِ الله -إنّما كان على ضياع المشروع الإلهيّ الّذي كان يراد له الإجهاض، فاختار له المكان الّذي يكون أوقع في نفوس الأمَّة لإيقاظها من سباتها العميق وكما أمر الله). فهذا إذن، أحد ملامح التّوحيد في نهضة سيّد الشّهداء(ع).
النّقطة الخامسة: التّوحيد ورضا أهل البيت(ع)
من الوجوه الّتي قد تكون خفيّة على بعض، هو علاقة التّوحيد الخالص برضا أهل البيت(ع) واتّباعهم اتّباعاً مطلقاً، ولكن مع قليل من التَّأمّل سنجد أنَّ العلاقة واضحة وبيِّنة، ونوضِّح ذلك من خلال المقدِّمات التّالية:
* رضا الله سبحانه حتّى يكون متوافقاً مع التّوحيد الخالص، يجب ألَّا يكون معه سعيٌ لرضا غيره من المخلوقين.
* إذا قرن الله رضا أحدٍ من الخلق برضاه تعالى، فهذا يعني أنَّ السَّعي لرضى ذلك الإنسان مظهراً من مظاهر التّوحيد الخالص.
* ثبت بالأدلّة الكثيرة أنَّ الرِّضا الإلهيّ مقرونٌ دائماً برضا أهل البيت(ع).
والنّتيجة: أنَّ السّعي لرضا أهل البيت(ع) شرطٌ لتحقيق التَّوحيد الإلهيّ الخالص، وأنَّ السّعي لرضا غيرهم من المخلوقين يعتبر شركاً في الرِّضا والطَّاعة.
وهذه النّتيجة، حيث إنَّها من وظائف الأنبياء والأئمّة(ع) فهم لا يتعاملون معها معاملة شخصيّة، بل من تكاليفهم الشّرعيّة أن يدعوا النَّاس إلى طاعتهم والسَّعي لرضاهم، لإظهار هذا الوجه من التّوحيد، خصوصاً حينما يفرضُ واقعٌ آخر ويُصوَّرُ أنَّه هو الواقع الصّحيح الّذي تكون مخالفته معصية، فيفرض -كما هو حاصل في زماننا حيث طاعة الحاكم واجبة، وطاعة غيره المخالف للحاكم غير جائزة ولو كان عالِماً عادلاً متّقياً- أنَّ المؤمن لا يجوز له إغضاب الحاكم الفعليّ، وأنَّ تعريض نفسِه لغضبه هو إلقاء للنّفس في التّهلكة، بل ينبغي اتّباع رضاه، وإن غلَّفوا بعض هذه الدّعاوى بعبارات غير واقعيّة، كالقول بوجوب طاعة الحاكم فيما يرضي الله، والحال أنَّ الحكام أصل حكمهم لا يرضي الله، فضلاً عن سلوكهم وفسادهم.
وكان يراد من خلال تنصيب يزيد بن معاوية أن يفرضَ هذا الجو، فإذا نجح مع يزيد المتهتّك فمع غيره سيكون أنجح، وستكون ضربة قاصمة للإسلام، وكان من أحد وجوه أسباب النّهضة الحسينيّة المباركة منع حصول هذا الجو بالقدر الممكن، وقد نجح المشروع الحسينيّ مع مجموعة كبيرة من الأمَّة، وإن كانت آثار المشروع اليزيديّ سيطر بشكلٍ وآخرَ على عقلِ الأمَّة.
ولقد جاء في خطبة الإمام الحسين(ع) في مكّة مع جموع الحُجَّاج -وهو يخبر النَّاس عن الوظيفة الشّرعيّة، وأنَّ مصير التّخاذل ضياع الإسلام، وأنَّه لا بدَّ من الوقوف في وجهِ المشروع اليزيديّ ولو من خلال شهادة السِّبط المعصوم-: >رضا الله رضانا أهل البيت<([10]).
وتحقيق رضا أهل البيت(ع) -والّذي يضمن رضا الله والتَّوحيد الخالص- لا يكون بالشِّعارات، وإنِّما الطَّريق إلى ذلك واضح، وهو طريق الاتّباع والطّاعة والحبّ القلبيّ والعمليّ، فلا معنى لأن نحرص على رضا أهل البيت(ع) دون اتّباعهم وطاعتهم، فإنَّ رضاهم ليس أمراً نفسيّاً ودنيويّاً كما يراضي بعضنا بعضاً، بل هو رضا إلهيّ يستلزم طاعة الله تبارك وتعالى وطاعة أهل البيت(ع) والابتعاد عن أعدائهم.
جاء في الرّواية عن إمامنا الصّادق(ع) قال: >وفد إلى الحسين(ع) وفد فقالوا: يا ابن رسول الله، إنَّ أصحابنا وفدوا إلى معاوية، ووفدنا نحن إليك، فقال: إذن أجيزكم بأكثر ممَّا يجيزهم، فقالوا: جعلنا فداك، إنَّما جئنا مرتادين لديننا، قال: فطأطأ رأسه، ونكت في الأرض وأطرق طويلاً، ثمَّ رفعَ رأسَه فقال: قصيرة من طويلة، من أحبَّنا لم يحبّنا لقرابة بيننا وبينه، ولا لمعروف أسديناه إليه، إنّما أحبّنا لله ورسوله، فمن أحبّنا جاء معنا يوم القيامة كهاتين، وقرن بين سبابتيه<([11]).
النّقطة السّادسة: التّوحيد وغاية الإمام(ع) من الحكم
قلنا بأنَّ الحاكميّة لله تعالى وحده، وهو سبحانه الّذي ينصب هذا الحاكم ويختاره، لأنَّ الحاكم يجب أن يكون خليفة الله في الأرض، ولا بدَّ ألّا يرى لنفسه حقَّ الملك والحكم في شيء، إلّا ما يحكم به الله ويأمر به، وإلّا كان هذا الحاكم قد أعطى لنفسه ما هو حقٌّ خالص لله تعالى، فيقع في الشّرك صريحاً، حتّى لو حاول نفي ذلك.
وكان يزيد بن معاوية ليس فقط يرى لنفسه هذه الحاكميّة، بل كانت له طرق لاستعباد النّاس بمعنى الكلمة، وكان يتعامل بهذه الذّهنيّة مع المسلمين، فمن جانب يروى عن إمامنا الباقر(ع) أنّه قال: “قدم بنا على يزيد بن معاوية(لعنه الله) بعدما قتل الحسين(ع)، ونحن اثنا عشر غلاماً، ليس منَّا أحدٌ إلّا مجموعة يداه إلى عنقه وفينا علي بن الحسين، فقال لنا يزيد: صيَّرتم أنفسكم عبيداً لأهلِ العراق..”([12]).
ومن جانب آخر أوضح، فقد سيَّر يزيد بن معاوية “بالجيوش من أهل الشّام عليهم مسلم بن عقبة المرّيّ الّذي أخاف المدينة ونهبها، وقتل أهلها، وبايعه أهلها على أنَّهم عبيد ليزيد”([13]).
هنا، تبرز الفرعنة مع الاستعباد للنّاس، والنّتيجة الشّرك الصّريح، حتّى لو فسّر بأمر آخر، ونهضة الحسين(ع) كان إحدى أهدافها نفي هذه العبوديّة، وهي لا تتحقّق إلّا إذا استلم الحكم من يرى نفسه عبداً مملوكاً لله تعالى، ومأموراً من قبله بالحكم، وقد كان في كلمات أبي الأحرار(ع) ما يشير إلى هذا الأمر، فكان فيما كتبه(ع) لأهل الكوفة قبل قدومه عليهم: >بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين أمَّا بعد.. وقد فهمت كلّ الّذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلّكم أنّه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ والهدى.. فإنِّي أقدم إليكم وشيكاً إنشاء الله، فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدّائن بدين الحقِّ، الحابس نفسه على ذلك لله، والسّلام<([14]). فلم يعط الإمام(ع) لنفسه شيئاً إلّا بما هو من الله تعالى.
وأمَّا ما نراه من ظلم الحُكَّامِ وجورِهم وفسادِهم وانحرافاتِهم، فإنَّما هو نتاج ما يرون لأنفسهم من الحقِّ -دون الله تعالى- في السُّلطة والملك واستعباد النَّاس.
النّقطة السّابعة: بعض مظاهر التّوحيد في كربلاء:
كلُّ حركة للإمام(ع) كانت تشير إلى مبدأ التّوحيد، وهناك مظاهر كثيرة لذلك في كربلاء:
فمنها: كلُّ ما أعطينا فمن الله:
في ليلة عاشوراء حيث قرُب الموعد، كان الحسين(ع) يخاطب أصحابه –كما في الرّواية عن زين العابدين(ع)- فمّما قال وهو يحمد الله تعالى: >اللهم إنِّي أحمدك على أن أكرمتنا بالنّبوّة، وعلّمتنا القرآن، وفقّهتنا في الدّين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، فاجعلنا من الشَّاكرين..<([15]). وعادة الإنسان أنّه يغفل عن النّعم في مثل هذه المواطن، والإمام(ع) كأنّه يريد أن يذكّر أصحابه بهذه النّعم، وأنَّ كلّ شيء نملكه فإنّما هو من عند الله تعالى، سواء النّعم المادّيّة (السّمع والبصر)، أو المعنويّة (النّبوّة، وتعليم القرآن، والتّفقّه في الدّين).
ومنها: ذكر التّوحيد في الملمّات:
حينما قالت له أخته الحوارء زينب: >أفتغتصب نفسك اغتصابا؟! فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي.. فقام إليها الحسين(ع)، وقال لها: يا أختاه! اتّقي الله وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنَّ أهلَ الأرض يموتون، وأهل السّماء لا يبقون، وأنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلّا وجهَ الله الّذي خلَقَ الخلقَ بقدرته، ويبعث الخلقَ ويعودون، وهو فرد وحده”([16]).
فنرى ذكر التّوحيد عند هذه المصيبة العظيمة، الّتي لا تحتملها الجبال الرّواسي، وهذا يعني أنَّ ذكر معاني التّوحيد تهوّن على الإنسان مصائبه الكبرى.
ومنها: الدّعاء المشتمل على المطالب والتّوحيديّة:
عن علي بن الحسين زين العابدين(ع) أنَّه قال: >لما صبّحت الخيل الحسين رفع يديه وقال: اللهمَّ أنتَ ثقتي في كلِّ كرب، ورجائي في كلِّ شدَّة، وأنت لي في كلِّ أمرٍ نزلَ بي ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد، وتقلّ فيه الحيلة، ويخذل فيه الصّديق، ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك رغبة منّي إليك عمن سواك، ففرّجته وكشفته، وأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة<([17]).
كلّ فقرة من فقرات هذا الدّعاء الشّريف يبيّن جانباً مهمّاً من جوانب التّوحيد لمن تمعّن فيه جيّداً، فهو ليس مجرّد دعاء لقضاء حاجة وردّ كربة، بل ينطلق من منطلق الاعتقاد بأنَّ الله سبحانه هو كلِّ شيء في هذه الحياة. الإمام(ع) يؤكِّد فيه أنَّ اللجوء إلى الله تعالى وحده، وكان بإمكانه أن يطلب العطف منهم.
ومنها: المشاركة في قتل الحسين(ع) كشرك اليهود والنّصارى والمجوس
وهذا ما بيَّنه الإمام(ع) حين اشتدَّ العطش به وبأصحابه يوم عاشوراء، وأراد أن يذكرهم بالله وبمنزلته من رسول الله(ص)، وأن يتمَّ عليهم الحجّة الكاملة بأنَّ ما يصنعونه به(ع) يضاهي عمل اليهود والنّصارى والمجوس في شركهم بالله، ولعلَّ ذلك من ناحية أنَّهم يطيعون عدوَّ الله يزيد في قبال طاعة الله تعالى، ففي الرّواية أنَّه “وثب الحسين(ع) متوكّئاً على سيفه، فنادى بأعلى صوته، فقال: >أنشدكم الله، هل تعرفوني؟< قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله وسبطيه. قال: >أنشدكم الله، هل تعلمون أنّ جدّي رسول الله(ص)؟< قالوا: اللهمّ نعم. قال: >أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ أمّي فاطمة بنت محمّد(ص)؟< قالوا: اللهمّ نعم. قال: >أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ أبي عليّ بن أبي طالب(ع)؟< قالوا: اللهمّ نعم. قال: >أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ جدّتي خديجة بنت خويلد، أوَّل نساء هذه الأمِّة إسلاماً؟<، قالوا: اللهمّ نعم. قال: >أنشدكم الله، هل تعلمون أنَّ سيِّد الشّهداء حمزة عمُّ أبي؟< قالوا: اللهمّ نعم. قال: >فأنشدكم الله هل تعلمون أن جعفراً الطّيار في الجنّة عمّي؟< قالوا: اللهمّ نعم. قال: >فأنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذا سيف رسول الله(ص)، وأنا متقلّده؟< قالوا: اللهمّ نعم. قال: >فأنشدكم الله، هل تعلمون أنّ هذه عمامة رسول الله(ص) أنا لابسها؟< قالوا: اللهمّ نعم. قال: >فأنشدكم الله، هل تعلمون أنّ عليّاً كان أوّلهم إسلاماً، وأعلمهم علماً، وأعظمهم حلماً، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة؟< قالوا: اللهمّ نعم. قال: >فبم تستحلون دمي، وأبي الذّائد عن الحوض غداً، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصّادي عن الماء، ولواء الحمد في يدَي جدّي يوم القيامة؟< قالوا: قد علمنا ذلك كلّه، ونحن غير تاركيك حتّى تذوق الموت عطشاً. فأخذ الحسين(ع) بطرف لحيته، وهو يومئذ ابن سبع وخمسين سنة، ثمّ قال: >اشتدّ غضب الله على اليهود حين قالوا: عزير بن الله، واشتدَّ غضب الله على النّصارى حين قالوا: المسيح بن الله، واشتدَّ غضب الله على المجوس حين عبدوا النّار من دون الله، واشتدَّ غضب الله على قوم قتلوا نبيّهم، واشتدّ غضب الله على هذه العصابة الّذين يريدون قتل ابن نبيّهم<([18]).
فهذه التّفاصيل من مناشدته(ع) لإثبات أنّ الّذي يقاتلونه يمثِّل الدّين والنَّبيّ(ص)، وأنَّه لا حجّة لهم أصلاً في محاربته، وأنَّ قتاله هو بمنزلة الشّرك بالله تعالى، بل هو كذلك.
وقد أدرك هذا المعنى بعض المؤمنين، فقد روي أنَّ يزيد بن مسعود النّهشلي -من البصرة- حينما أتاه رسول الحسين(ع) يدعوه لنصرته جمع عشيرته وخطب فيهم وممّا قاله لهم: “وقد قام يزيد شارب الخمور ورأس الفجور، وأنا أقسم بالله قسماً مبروراً لجهاده على الدّين أفضل من جهاد المشركين”، ولمّا أراد الخروج سمع بقتل الإمام(ع)([19]).
الخاتمة
إنًّ الثّورة الحسينيّة المقدَّسة والّتي قام بها سيَّد الشّهداء(ع) قد ذكرها الأنبياء(ع) قبل وقوعها، وذكرها رسول الله(ص) مراراً وتكراراً، وجعلت هي القضيّة المحوريّة للدّين والإسلام، ولبقاء القيم والمبادئ، وهي الحافظ من المفاسد والانحرافات، وهي الطّريق لمحاربة الظّلم والجور، وحينئذ ينبغي التّعامل معها على أنّها خلاصة جهد الأنبياء والأوصياء، وأنَّ الأساس فيها والمبدأ والمنطلق الّذي لا يجوز إغفاله هو التّوحيد الخالص بجميع جوانبه ونواحيه.
وأنَّ من يقتصر في التَّعامل مع هذه الثَّورة والنَّهضة المباركة من بعض الجوانب فقط، فهو يظلم هذه الثّورة، ويهضمها حقّـها، وهو غير واعٍ لحقيقتها وغاياتها الكبرى، وذلك يؤدّي إلى الوقوع في الاشتباهات والانحرافات، والسّلوكيّات الخاطئة.
فعلينا أن نتمعَّن أكثر في كلِّ كلمةٍ وفعلٍ قد صدر من الإمام الحسين(ع)، ونضعها ضمن خطِّ التّوحيد؛ لكي نستطيع تحقيق أهداف هذه الثّورة، ونكون شركاء في بعض الأجر، الّذي أعطي لهذا الإمام العظيم، ولأصحابه الشّهداء عليهم جيمعاً صلوات المصلّين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على خير خلقه محمدٍ وأهل بيته الطّيّبين الطّاهرين.
المصادر والهوامش
- ([1]) مناقب آل أبي طالب، ج3، ص241، ابن شهر آشوب، والبحار، المجلسي، ج44، ص329.
- ([2]) البحار، ج44، ص326.
- ([3]) جزء من كلام النَّبيّ(ص) في يوم الغدير والّذي كان يمهّد فيه لتنصيب عليّ(ع) للخلافة، انظر: معاني الأخبار، الصّدوق، ص 67.
- ([4]) أمالي الشّيخ الصّدوق، ص216.
- ([5]) النّجم: 3ـ4.
- ([6]) اللهوف في قتلى الطّفوف، السّيّد ابن طاووس، ص69.
- ([7]) كما في الحديث عن إمامنا الصّادق(ع)، عمدة الطّالب في أنساب أبي طالب، ابن عنبة، ص356.
- ([8]) البقرة: 285.
- ([9]) تحف العقول، ص237-239.
- ([10]) البحار، ج44، ص367.
- ([11]) أعلام الدّين في صفات المؤمنين، الدّيلميّ، ص460، وعنه في البحار، المجلسيّ، ج27، ص127128.
- ([12]) شرح الأخبار في فضائل الأئمّة الأخيار، القاضي النّعمان المغربيّ، ج3، ص368.
- ([13]) مروج الذّهب ومعادن الجوهر، المسعوديّ، ج3، ص69.
- ([14]) البحار، ج44، ص334-335.
- ([15]) الإرشاد للمفيد، ج2، ص216.
- ([16]) الإرشاد، ج2، ص94.
- ([17]) الإرشاد، ج2، ص96.
- ([18]) أمالي الصّدوق، ص222-223.
- ([19]) مثير الأحزان، ابن نما الحلّي، ص17، وعنه في البحار، ج44، ص338.