ثقافة

الثورةُ.. في مدرسةِ عاشوراء

الثورةُ.. في
مدرسةِ عاشوراء

الإمام الحسين : «إِنَّـــهُ قَدْ نَزَلَ مِنَ الْأَمْرِ مَا قَدْ تَرَوْنَ وَإِنَّ الدُّنْيَا تَـغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ وَخَسِيسُ عَيْشٍ كَالْـمَرْعَى الْوَبِيلِ.

أَلَا تَـــــــرَوْنَ إِلَى الْحَقِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ وَإِلَى الْبَاطِلِ لَا يُتَنَاهَى عَنْهُ لِيَرْغَبِ الْـمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ رَبِّهِ حَقّاً حَقّاً فَإِنِّي لَا أَرَى الْـمَوْتَ إِلَّا سَعَادَةً وَالْحَيَاةَ مَعَ الظَّالـِمِـينَ إِلَّا بَرَماً».([1])

 

الـثّـائِـرُ والثّوار .. هُم صَفوَةُ أهلِ الأرضِ وأَصحابِ الشّرفِ والسّيادَةِ والفَضيلةِ.

  • تمهيد …

الثورةُ.. هل تعني تغيير الأوضاع القائمة فحسب؟! وهل الثائر والثّوارُ: من يقومون بتغيير الأمور والمعادلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها فقط؟ وهل أنّ التغيير – بأي نحوٍ كان، وممن كان- له قُدسيةٌ مُطلقةٌ عند الإسلام؟!

 

  • تمايز الإسلام عن سائر المدارس الإلحادية في الرُؤى والأفكار.

إنّ لـ «الإسلام» رؤيةٌ كونيةٌ وفكريةٌ تختلف عن غيره من «المدارس الإلحادية»، وهذه الرؤيةُ تفيء بظلالها على كلّ مرافق الحياة: من المنطلقات والأفكار والمبادئ، والأخلاق والملكات، والسلوك والحراك العملي!

وعلى كل الأصعدة: السياسية والاجتماعية والإقتصادية والأُسرية والفردية.

 

  • رؤية الإسلام للثورة

ولذا فـ «الإسلام» له رؤيةٌ خاصةٌ لـ «الثورة»، فهو لا يرى قُدسية لأي تغيير، بل القُدسيةُ للتغيير إلى مبادئ الإسلام وتعاليمه ونهجه… تقديس لما قدَّسه اللهُ تعالى، ولما يُريدُه الله تعالى، وما جعله الله لخلقه في أرضه.. يقول تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرين‏﴾.([2])

أمّا أن يكون الهدف من «الثّورة» هو إِسقاط «طاغوت» ثم الإتيان بـ «طاغوت آخر»، تحت مسمى «الديمقراطية» و«الدولة المدنية» وما شابه ذلك، الذي يكون التغيير فيها من «نظامٍ غيرِ إسلامي» إلى «نظام غير إسلامي آخر»!

أو أنْ يكون الهَدفٌ من «الثّورة» هو الرّغبةُ في الحُكمِ والسيطرة والرئاسة فقط.. بأيّ شكلٍ وبأيّ نحو كان!!

فإنَّ الإسلام لا يرى لمثل هذا التغيير ولمثل هذه «الثورة» أي قيمة وأي قدسية!! فمعايير السماء شيءٌ، ومعاييرُ أهلِ الأرض شيء آخر.

 

  • رؤية الإسلام للثوار.

ولـ «الإسلام» رؤية خاصة لـ «الثوّار» أيضاً، فلا يرى قيمة لكلِّ تضحيةٍ. . يقول تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذينَ لا يُريدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين‏ ﴾([3]) فالفوز والفلاح لـ «المتقي».

والمُتقي الثّائِر لا يكون:

طالِباً للعلو، طالباً للرئاسة، طالباً للزعامة والوجاهة…، فالدّنيا كُلُّها في نظر أولياءِ الله «لاشيء» .. فهي حُطامٌ زائلٌ، وعَيشٌ كَدِرٌ لا يَستَحقُّ، بل لا يليق بأولياءِ الله أن يُفكِّرُوا فيها، فَضلاً أن يسعوا لها.. فلأنهم «أولياء الله» فهم هكذا لا هكذا!!

وإذا جـــاءت لــهـم الدُّنـــيا صَاغِرةً ذليلةً، كما جاءت لأمـــير المؤمنين ، فهُم لا يرونها إلا سُلّماً ووسيلةً لتأدِية فرضِ ربِّهم: بأَداءِ الحقّ لأهلِهِ، ومَنعِ الظُلمِ والطُغيانِ، وإقامةِ حُكم الله ورَفعِ كلمتِه وجعلها العُليا..

فـ «أولياء الله» يرون الحياة الدنيا كُلّها مِحراباً لعبادتهم وصلاتِهم: يركعون في خدمة شعبهم، ويسجدون في رفع مُعاناةِ أُمّتهم، ويُبَتِّلُون برفع حاجات بني جلدتهم، قاضين لحاجاتهم المادية والمعنوية…

والمتّقي الثّائر لا يكون مُفسِداً في الأرض، لا مُفسداً على المستوى الفردي: فهو يعيش الاستقامة، ولا تجد منه عوجاً ولا أمتاً، سائراً على الجادّة فكراً وسلوكاً وعملاً، غير مُنحرف ولا ضّالٍّ، لا في الفكر العقائدي، ولا في السلوك الأخلاقي، ولا في الحراك العملي..

وهو ليس بمفسدٍ على المستوى الاجتماعي والسياسي: فلا يَحمل إلا «رؤية الإسلام» فكراً وعقيدةً وسلوكاً وخلقاً وعملاً.. وكل همّه هو إقامةُ «الحكم الإسلامي» والأخذ بأيدي الناس لإقامة «حكومة العدل الإلهي»، وذلك بالسير وباقتفاء منهج الإسلام الكامل الخالد…

 

فلابُدَّ من الثورةِ وعدم القَبولِ بهذا الواقع المرير والسعي لإرجاعِ الأمّة إلى الإسلام المحمدي الأصيل.

فهو ليس من أولئك الذين يُفَكِّرُون بـ «العلمانية الغربية»، ولا من الذين ييسعون لإقامة «أنظمة طاغوتية». لا تحكم باسم الله وشريعة الإسلام، ولا تعيش في ظلاله!

فهذا هو الفساد والبلاء العظيم الذي اِبتلى به المسلمون في هذا العصر: حيث انبهروا بـ «الطرح الغربي العلماني» وبـ «الدولة المدنية» ومع كونهم مؤدّين لفرائضِ ربِّهم الفردية – من صلاة وصيام – إلا أنّهم في مجال الحُكم والسياسةِ والقضايا الاجتماعية والسياسية العامة يرون فصل الدين عن السياسة عملاً، وإن لم يتجرأوا بالإفصاح عن ذلك قولاً!

حتى وصل ببعضهم الاعتقاد بأنّ الإسلام لا يصلح للحكم في بلدنا العزيز وغيره من البلدان الإسلامية، وإنّما الذي يصلح للحكم هو النّظام الديمقراطي العلماني وحكومة المؤسسات، ويُبرِّرُون ذلك بأن البلد فيه اتجاهات متعددة وأفكارٌ مختلفةٌ وأديانٌ وطوائفُ متنوعةٍ، فبلدنا له ظروفه الخاصة فلا يصح الَدعوةُ لإِقامةِ الحكومةِ الإسلاميةِ ونِظام العَدلِ الإلهي وتَحكيم رسالةِ السماء وخطِّ الأنبياء !!

 

لا بُدَّ أن يَكونَ الثّوارُ في زمانِنا رُهبَانُ الليلِ وأسدُ النّهارِ، فهم أبناءُ الحُروبِ والنِّزال والمُقَاوَمَةِ نَهاراً.

  • عاشوراء الصورة الكاملة للثورة والثوار بالرؤية الإسلامية

إنّ أكبرَ مِصداقٍ وأَجلى فردٍ تجلّت وظَهرت فيه المَعَاني الرَّاقِيةِ والكَامِلةِ وكانت تجربةً مقدسةً ربّانيةً وإلهية، بحيث خلّدَها التاريخُ على مرِّ العُصور هي ثورة الإمام الحسين .

 

  • الثّورَةُ في مدرسةِ عاشُوراء

فالثّورَةُ ما كانت تهدفُ لاستبدال الطاغوتِ بطاغوتٍ آخر، بل كانت الثّورة لأجل الرجوعِ إلى الإسلام في كلِّ تفاصِيله الفرديةِ والاجتمَاعيّة والسياسية:

فالحاكمُ: لا بد أن يكونَ متمتعاً بأعلى المواصفات والسجايا الكاملةِ الفاضلةِ من العلمِ والورعِ والتقوى، وإذا جَثى على صدر الأمّةِ طاغيةٌ مثلُ «يزيد المخازي» فلا بُدَّ من التغييرِ وعدمِ القبول بمثل هذا الواقع الباطل.

وقول الإمام الحسين : «وَمِثْلِي لَا يُبَايِعُ مِثْلَه‏»([4]) قضيةٌ عامّةٌ لا تختصُّ بزمان الإمام الحسين ، بل قولُه هذا منهجُ حياةٍ لكلِّ الأجيالِ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، وأنّه عِندما يَجثُو على صَدرِها طاغيةٌ مثلُ يزيدٍ فلا بُدَّ أن لا تَقبَل به الشُعوبُ وتُعلِنُها صرخةً مدوّيةً: مِثلُنا لا يُبايِعُ أمثالَه!!

– الأُمّةُ والحكومةُ: أخذت بالانحدارِ والإنحراف إلى إسلام جديدٍ وهو الإِسلامُ الأموي! فكان لابُدَّ من الوقوفِ أمام هذا الإنحراف بقوةٍ وإرجاع الأُمّةِ إلى الإسلام المحمدي.

– وهكذا نَجِدُ الأمّةَ اليوم قد انحرفت إلى إسلامٍ جديدٍ وهو الإسلام الأمريكي، فهذا الإسلام الأمريكي هو الذي يسودُ ويحكُمَ الأمّة الإسلامية! فلابُدَّ من الثورةِ وعدم القَبولِ بهذا الواقع المرير والسعي لإرجاعِ الأمّة إلى الإسلام المحمدي الأصيل ..

 

  • الثّائر في مدرسةِ عاشوراء

والثّائِرُ والثّوار هُم صَفوَةُ أهلِ الأرضِ وأَصحابِ الشّرفِ والسّيادَةِ والفَضيلةِ، هكذا كان القَائدُ وهكذا كانت الأنصَار، ولذلك كانت كربلاءُ مميزةً عن كلِّ الثوراتِ والثّوار وهي الخالِدةُ إلى اليوم المَوعُودِ، والمدرسة لكلّ الثوراتِ والثّوار:

فالقائد: إمامٌ معصومٌ وصاحبُ الفَضَائِل والمعالي ذو اللياقَةِ في كلّ الأمور.

و هكذا لابُدَّ أنْ نَكونَ في الثّورةِ سائِرين تحت لواءِ خليفةِ الإمامِ في عَصرِ الغيبةِ الكبرى وهو الوليُّ الفقيهُ الجامعُ للشرائطِ، الجامعُ للفضائلِ والخِصالِ القيادية والإِيمانية، كما وَردَ في التوقيع الشِّريفِ عن الإمامِ صاحِب العَصرِ والزّمان : «وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ الله‏».([5])

والأنصارُ: هُم مِثلُ الأكبرِ والقَاسِمِ وحبيبٍ وزهيرٍ، قارئي القُرآن والمُتهجّدِينَ بالأَسحَارِ وأصحابُ الفضائِل، العَاشقين للقاءِ اللهِ تعالى الذين أعدُّوا أَنفُسَهُم لهذا اليومِ المَوعُودِ، يوم نصرةِ الحقّ والوُقوفِ مَعهُ!

و هكذا لا بُدَّ أن يَكونَ الثّوارُ في زمانِنا رُهبَانُ الليلِ وأسدُ النّهارِ، فهم أبناءُ الحُروبِ والنِّزال والمُقَاوَمَةِ نَهاراً، «أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِم».([6])

وهُم في كلّ يومٍ ينتظِرُون لقاءَ الله تعالى، ولا يرون إلا الله في كلِّ آنٍ من آناءِ حَياتِهم، فهُم مع الله تعالى فكراً وخلقاً وسلوكاً ومنهجاً، وينتظِرُون يوم نصرةِ الحقِّ والوُقوفَ معه .

________________

المصادر:

  • [1].  بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج‏44، ص: 381.
  • [2].  آل عمران: 85.
  • [3].  القصص: 83.
  • [4].  بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج‏44، ص: 325.
  • [5].  بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج‏2، ص: 90.
  • [6].  نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 304- خطبة 193.

سلسلة محاضرات "التغيير في سبيل الله"

محاضرة القاها سماحة الشيخ زهير عاشور في سجن جو المركزي (1 محرم 1436 هـ)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى