عتاد دراسة التاريخ
مقدمة:
إن حياة الأمم والمجتمعات عبارة عن سلسلة مترابطة، لا يمكن فصل أية حلقة من حلقاتها عما سواها، ولا يمكن دراسة أية ظاهرة من الظواهر، حضارية كانت، أم اجتماعية، أم سياسية أم غيرها، بمعزل عما يحيط بها من أحداث وتراكمات، وأفعال وانفعالات إذ ما من ظاهرة تطفو على سطح الزمن من خلال الطفرة.
وعلى هذا الأساس، فإن دراسة المجتمعات المعاصرة، بما فيها من تعقيدات ومشاكل، لا بد وأن ترتبط بما سبقها من أحداث على كافة المستويات، كما أن دراسة المجتمعات التي سبقت متوقفة على مدى معرفة المجتمعات والأحداث التي سبقها وأسست لها، وهكذا تتراكم هيكلية الدراسة وتزداد إيغالا في عمق الماضي حتى بداية التشكلات البشرية.
وهذا يعني أن دراسة التاريخ، ومحاولة استشرافه، تسلط الضوء ـ ولو نسبيا وبقدر الإمكان بحسب ما يتاح لدى الباحث من وثائق وقرائن ـ على الأحداث والتراكمات التي أسست وأسهمت في بناء المجتمع المعاصر، بحيث تسهم في إغناء المعرفة من جهة، وتشكل ركنا أساسيا في تصحيح المسارات، أو تصويب الظواهر، التي تحتاج إلى تصحيح أو تصويب، إذ كثيراً ما نجد من شخصياتنا سواء من الناحية العلمية أو الأدبية أو العاطفية، وحتى في العادات والتقاليد التي تجدها المجتمعات وكأنها جزء من كيانها وشخصيتها الفردية والاجتماعية، قد نتجت عن أصول ومبررات، قد تكون موغلة في تاريخ الأمم، مما قد لا يجد له سندا تاريخيا ظاهرا، فدراسة التاريخ إذن ضرورية في فهم حياتنا وثقافتنا الحاضرة، وفي محاولة إغناء هذه الحياة، والدفع بها قدما نحو التطور والرقي.
عتاد دارس التاريخ:
لا بد للباحث التاريخي من أن يتسلح بأنواع مختلفة، من المصادر والوثائق التي يستند إليها في بحثه وتقييمه، ويختلف نوع عتاد الباحث باختلاف الجهة التي يحاول دراستها والوصول إلى نتيجة فيها، ذلك أن غاية عالم الاجتماع مثلا تختلف عن غاية الفيلسوف، الذي تختلف بدورها غايته عن غاية السياسي، وهكذا في سائر المجالات الحضارية.
إلا أن التركيز على نوع أو أنواع، لكل فرع من فروع المعرفة، لا يعني إهمال الأنواع الأخرى، بل لا بد له من متابعة مختلف العناصر التي ترتبط بالحياة الإنسانية في الفترة التي يريد دراستها، لأن الحياة الإنسانية ـ وكما أسلفنا ـ وحدة مترابطة لا يمكن فصل جوانبها بعضها عن بعض، وإن كان تركيزه ينصب على جانب معين من جوانبها.
يضاف إلى ذلك: أن المؤرخين عادة ما يؤرخون للحكام والسياسات، وما يرتبط بهم، وبالتالي فهم على الأغلب، يتعرضون إلى وجهة نظر الحكام، ويهملون ما عداها من رؤى، على مختلف الصعد والمستويات، إما تزلفا لهم وسعيا إلى إرضائهم، وإما فرارا بأنفسهم من التهمة، والملاحقات السياسية والقانونية وغيرها، وهذا ما أدى في أكثر الأحيان إلى ضياع الوثائق التي تفيد الباحث في كتب المؤرخين، وهو ما يدفعه بالضرورة إلى النظر بكثير من الحذر والحيطة عند ملاحظة كتابات المؤرخين، وإن كانت متسالما عليها بينهم، بأن يحاول تمحيصها ونقدها، وتفنيد ما يمكن تفنيده منها، استنادا إلى ما يملكه من وسائل ووثائق، مدعمة بوعي تام وحس مرهف لديه، في ملاحقة الأحداث والربط بينها.
من هنا نجد أنه لا بد لدارس التاريخ أن يحيط، ما أمكنه ذلك، بمختلف الوثائق التي تصل إليه من مختلف المنتديات المعاصرة للفترة المدروسة، من أدبية، وشعرية، وفنية، وقضائية، وفقهية، وغير ذلك، وهو ما يجعل مهمة الباحث التاريخي شاقة للغاية، لأنه، بعمله هذا، يشكل الركيزة الأساسية لأي بحث في فروع المعرفة على اختلافها، فإن مدى دقة وسلامة النتائج التي يتوصل إليها عالم الاجتماع أو الفيلسوف أو السياسي أو الفقيه أو غيرهم، ترتبط ارتباطا مباشرا بمدى دقة وسلامة النتائج التي أثبتها الباحث التاريخي، بل تتوقف عليها.
وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى عنصر هام وخطير جدا في دراسة التاريخ، وهو علم الآثار، الذي نشأ واتسع إطاره في القرنين الأخيرين، فقد سلط الضوء على كثير من كنوز التاريخ التي ظلت مطوية في زوايا الإهمال والنسيان، بل التجاهل والإنكار المستمر على صفحات التاريخ، هذا العلم الذي استطاع تزييف الكثير من المسلمات، التي كان الناس يتعاملون معها على أنها حقائق لا يتطرق إليها الشك، فأثبت زيفها وبطلانها.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن القرآن الكريم قد تعرض للإشارة إلى هذا العلم في العديد من الآيات الشريفة، وحث الناس على البحث في أعماق التاريخ، من قبيل قوله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾([1]).
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾([2]).
وقوله تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ﴾([3]).
- محاضرات في تاريخ الإسلام – بتصرّف
المصادر والمراجع
([1]) سورة الأنعام، آية:11.
([2]) سورة الروم، آية: 9.
([3]) سورة غافر، آية: 21.