الإلحاد والدوافع النفسية
يبدو من خلال التتبّع “لحالة الإلحاد” أن الكلام عن الإلحاد ليس بحثاً في منظمات فكرية ذات طروحات وجوديّة، إنه متابعة ل “حالات رفضية”، وغاية ما في الحالات الرفضيّة أنها تريد القول “لا” للمنظومات الدينيّة المقابلة لها و”لا” للميتافيزيقا و”لا” للمعطى العقليّ.
هي ظاهرة تريد الرفض وتجعل من رفضها قضيّةً كبرى، وكبرها لا من جهة ذاتها، بل من جهة قوة ما ترفضه، أي إن رفضها ملحوظ بلحاظ ما ترفضه، لا بلحاظ نفسها.
لذا كان الإلحاد هو الحالة النافرة عن الميل الفطري في الإنسانية عموماً، بل في النوع الإنسانيّ بما يشمل الإنسان الماضي والإنسان الآتي، غاية ما عندها القول أنها “لا تعلم بوجود الله” لا “أنها تعلم بعدم الوجود”. وشتان بين عدم العلم والعلم بالعدم، فعدم العلم هو جهل تمّ التصريح عنه بصيغة الإلحاد. والعلم بالعدم هو علم، ولا يبنى علم على جهل.
ويزيد الأمر جلاءً أن مجموعة من تجلببوا بلبوس الإلحاد كان مردّ إلحادهم إلى عقدة نفسية مع بعض رجال الدين، أو معضلة قصرت أفهامهم عن حلّها في فهم الدين، أو بعض التشريعات.
ولم تكن مشكلة الملحد دائماً هي إشكالية إنكارٍ لله تعالى، ويبدو الأمر أكثر وضوحاً عند النظر في التعليلات المتنوعة التي يذكرها الملحدون حيث تدلّ على أنهم يتحركون كرد فعل رافض لوضعيّة معينة لحدث ما في حياته ومن باب ضيق الأفق، وذلك مثلاً كمن رأى رجل دين يقود سيارةً جديدةً فيحوّل القضيّة إلى قضية دينية، ثم يصبح الأمر قضية إنكار لله تعالى.
وقد يواجه بعض الأسئلة فيعسر فهمها لدية كمن يرى كثرة الحروب وسفك الدماء فيسأل عن العدل الإلهيّ، فيشك أو ينكر، فيسري شكه بالله تعالى وهكذا شكّ يجرّ شكّاً، كمن يطلب النور بالظلمة فيبقى في الظلمات، فيصبح الإنكار أو الشك حالةً نفسيّةً مرضيّةً وليس وضعيّةً ثقافيّةً معرفيّةً.
كل هذه النماذج وأمثلتها تدلّ على أن بعض حالات الإلحاد هي نفسية “انفعالية”، تتحرك كردّة فعل وتسجيل موقف. واللافت في هذه “الحالات” أن أصحابها يعلو ضجيجهم إيحاءً بأن الضجة هي جزء من “عملية فكرية” لكي يصدقهم العقلاء من الناس، غير أن شبهاتهم لا تنطلي على غير السذّج، وهذا يأخذنا من جديد إلى جحا، “فقد ذاع في يوم من الأيام أنه سيطير يوم الجمعة من فوق المئذنة، فاجتمع الناس من كل مكان في الموعد، فلمّا ضاق الميدان بجموعهم أطلّ جحا من أعلى المئذنة ونظر إليهم ساخراً من بلاهتهم، وجعل يمدّ ذراعيه ملوّحاً بها في الهواء، ويحرك يديه مرةً بعد أخرى كأنّما يتهيأ للطيران بالفعل، وطال انتظار الناس ولم يطر، فصاحوا به لينجز ما وعد، فنظر إليهم ساخراً ثمّ قال: كنت أحسبني منفرداً بالغفلة والغباء، والآن أيقنت أني وإياكم في الحماقة سواء، بل رأيت فيكم من يفوقني في هذا الباب، رأيتكم تصدقون ما لا يصدّقه جحا، وتنخدعون بما لا ينخدع به، تتخيّلون ما لا يمكن أن يكون أنه يكون، خبّروني أيها العقلاء كيف صدّقتم إنساناً مثلي ومثلكم يستطيع أن يطير بغير جناحين؟!”([1]). إن جحا لم يكن مقتنعاً بما دعا إليه لكنه اكتشف كم من الحمقى يسير وراء الإدّعاء غير الواقعي حتى ولو كان مستحيلاً ذاتاً. وقد قيل: “حدّث العاقل بما لايليق فإن لاق له فلا عقل له”.
ومن جهة أخرى فإن الإنفعالية تتّخذ عند الملحدين صوراً تتلبّس أحياناً بثوب الفلسفة، وأحياناً أخرى بثوب العلم. وهذا كثيراً ما يحصل فيحاول الملحد أن يحلّ مشكلته أو عقدته النفسية بتكبيرها وإضفاء لون من المنطقية أو العلمية أو الفلسفية عليها، وهذا يكشف أن الإلحاد ليس العِدل للدين الإلهي، فالدين والحكمة الإلهية يطرحان طرحاً وجودياً، وهذا يؤكّد القول بأن الإلحاد “حالة تمردية” تشبه “المراهقة الكبيرة”.
- مجلة المحجة، العدد 32 – بتصرّف يسير