اكتشاف الطبيعة والإذعان للخالق
ما هو أثر اكتشاف السنن والعوامل الطبيعية للحوادث والأشياء على الإذعان بالصانع القدير؟ لقد استطاع الإنسان لاسيما في العصر الحديث من اكتشاف العوامل في كثير من الحوادث والأشياء مما كان يجهل سببها من قبل، وربما كان ينسبها إلى فعل الخالق. ولكن بان الآن أن أسبابها طبيعية، وقد استطاع الإنسان من إنجاز خطوات صناعية كبيرة في استثمار تلك السنن والعوامل على ما نشهده في الثورة الصناعية والزراعية الكبرى، فهل في ذلك ما يضعف الإيمان بالخالق؟
الجواب عن هذا السؤال: إنه لا شك على العموم في أن الكون مبني على نظام الأسباب والمسببات، فهناك سنن كونية فاعلية تؤدي إلى نتائج مناسبة لها في جميع مجالات الكون والحياة، وتلك حقيقة مشهودة للإنسان بشكل عام.
وقد نبه الدين على كثير من تلك السنن وأناط حصول النتائج المتوقعة بالأسباب المناسبة، نظير القاعدة الاجتماعية الواردة في بعض الآيات الشريفة التي تتناول ذلك، والتي يحسن استذكارها في الظروف الحالية التي نعيشها من جهة المشاكل التي نكابدها، وهي: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)[1]، ومضمون القاعدة أن الحدث الاجتماعي لن يحدث إلا بسبب اجتماعي وليس بسبب فردي، ومن ثم فإن وجود فرد صالح وحكيم ومخلص أياً كان لن يؤدي إلى تغيير اجتماعي للحياة إلى مناحي الصلاح والحكمة إلا بمقدار ما يستطيع هذا الفرد أن يؤدي إلى تغيير المجمع، وقد جاء في كلام للإمام علي (عليه السلام) أن الناس إذا اتجهوا بعمومهم في الشدائد إلى الله سبحانه فإنه سبحانه يحل لهم تلك الشدة، وقد جاء في التاريخ أن المسلمين في حالات من القحط والجفاف توجهوا إلى الصحراء وأتوا بصلاة الاستسقاء فنزل عليهم المطر بشكل غير متوقع وقد وقع ذلك في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام علي (عليه السلام) والإمام الرضا (عليه السلام) وفي العصور الأخيرة في حوادث مشهورة، يقول الإمام علي (عليه السلام) في كلامه: (ولو أن الناس حين تنزل بهم النقم، وتزول عنهم النعم، فزعوا إلى ربهم بصدق من نياتهم، ووله من قلوبهم، لرد عليهم كل شارد، وأصلح لهم كل فاسد)[2].
إذن لا شك في حقيقة ابتناء الكون على نظام الأسباب والمسببات، وهي بديهة من بديهيات حياة الإنسان إلا في موارد خاصة يتوقع الإنسان فيها تدخل عنصر غيبي.
لكن ذلك لا ينفي دلالة الأشياء على وجود الله سبحانه وتجسيدها لقدرته وإبداعه، لأن هذه السنن والنظم كلها أمور مجعولة أودعت في الأشياء وجبلت عليها، ولم تكن لتحدث لولا سن الأشياء على وفقها، وترتيب كياناتها على أساسها.
بل في هذه السنن المنظمة والمعقدة بنفسها دلالة مؤكدة على قدرة الخالق وإبداعه أكثر مما لو أنه سبحانه كان يباشر فعل كل شيء دون توسيط العوامل والأسباب، كما يجد ذلك العلماء الذين يكتشفون القوانين الفيزيائية العميقة التي بني الكون عليها كما أسلفنا من قبل.
وقد عبر العالم الأمريكي (فرانسيس كولنز) المشرف على مشروع الجينوم البشري عن هذا الجينوم بأنه (كتيّب الإله)، وهو فعلاً كذلك.
فأياً كانت السنن المفضية إلى تكون هذا الخلق البديع، فإن هذا الخلق صفحات ساطعة ومضيئة وباهرة من المقدرة الإلهية.
وبإمكان الإنسان أن يتأمل ذلك فيفترض طوراً أن شخصاً ما قادر على حمل ثقل ويفترض طوراً أخر أن ذاك الشخص صنع آلة قادرة على حمل هذا الثقل، فالأول يدل على قدرة جسدية ولكن الثاني يدل على قدرة فكرية كبيرة جداً.
وعلى الإجمال.. فليس في وجود سنن تجري عليها الأشياء ما ينفي استنادها إلى الخالق، على أنه مهيمن عليها وموجه لها إلى وجهتها وقادر على توجيه دفتها إلى حيث يشاء.
السيد محمد باقر السيستاني – بتصرّف يسير
المصادر و المراجع
[1] الرعد: 11.[2] نهج البلاغة، ج 2، ص 98 – 99.