نظرية الانفجار الأعظم وفرضية الزمن الوهمي
حظيت نظرية الانفجار العظيم، أو البيغ بانغ، بنجاح هائل في الأوساط العلميّة، فيما رفضها فلاسفة الماديّة دونما سبب مقنع، سوى أنّها تعادي أفكارهم الفلسفيّة.
وفي منتصف القرن العشرين، كانت الأفكار التي تقدّم بها الفلكي فريد هويل، والقائمة على أنّ الكون مستقرّ، لا محدود في الزمان والمكان، ويولّد المادة الكافية لاستقراره، سرعان ما تراجعت وهوت بفعل التأكيدات العلميّة المتوالية على نظرية الانفجار العظيم.
وكان الانتصار المبرم لنظرية الانفجار العظيم في العام 1948، عندما تقدّم العالم الفيزيائي جورج غاموف بمعادلات لوميتر، وتوصّل منها إلى فكرة أنّه لو كان العالم قد تولّد فجأة، فهذا يعني أنّ كمية من الإشعاع قد بانت أثناء الانفجار. هذه الكمية علينا إثباتها، وهي متناسقة وموجودة ذاتها في كلّ زوايا الكون الفسيح، وبقي العلم حتى العام 1965 حيث أثبت وجود هذه الإشعاعات عبر العالمين بنزياس وويلسون في كلّ نواحي الكون، وتمكّنا من قياس تردداتها، وتبين لهما أنّها ذاتها المتوقّعة في الحسابات الرياضيّة النظريّة للظاهرة.
ولاحقًا، تمّ إثبات وجود هذه الإشعاعات في وكالة الفضاء الأميركيّة النازا عبر إطلاق أقمار اصطناعيّة متخصصة سرعان ما ضبطتها، واعتبرت البيئة العلميّة كلّها في العالم أنّ هذه الإشعاعات من بقايا الانفجار العظيم، وهي النظريّة الوحيدة فعليًّا، والقادرة على تفسير توسع الكون وسائر الظواهر المتعلّقة به.
أما في توسيع إضافي، فإنّ الحسابات التي تحدّد كميات الهيدروجين والهليوم في الكون قد تأكّدت عمليًّا وبالتجربة؛ بحيث وطبقًا للنظريات المادية المعارضة للانفجار العظيم، فإنّ كميات الهيدروجين وجب أن تكون قد اختفت وتحوّلت إلى هليوم: لكنّ الوقائع لم تؤكّد هذه المقولة!!.
ثمّ تعاظمت مصداقيّة النظرية، بعد الإجماع العلمي المعاصر، وبقي المعارضون يطرحون الأسئلة: ماذا كان قبل البيغ بانغ؟ وما هي القوّة التي أولدت الانفجار العظيم، وأدت إلى نشوء كون لم يكن موجودًا من قبل؟
ولكن في المقابل، كان هناك من قَبِل بالنظرية ودافع عن وجود خالق للكون استنادًا لها، ولا سيّما الفيزيائي الفلكي هاغ روس الذي قال في جملة مشهورة: «إنّ الزمان هو البعد الذي بموجبه ثنائية السبب – الفعل حدثت، بحيث إنّه لو لم يكن الزمان موجودًا فليس هناك سبب أو فعل. وإذا كان الزمان قد بدأ مع خلق الكون وفق نظرية الزمان – المكان، فإنّ سبب نشوء الكون هو مرتبط بالبعد الزماني والكون نشأ بعده. وعليه، فإنّ خالق الكون هو متعالٍ ويدير الكون وفق القوانين التي يتحمّلها الكون، وعليه أيضًا فإنّ الخالق ليس هو الكون نفسه وليس موجودًا في داخل الكون».
وقد قدّم الملحدون والفلاسفة الماديّون آراءً كثيرة ضدّ البيغ بانغ، لكنّ معظمهم عاد وقبل بها، إلّا أنّ تفسيراتهم للمسألة تراوحت بين الإقرار بوجود خالق وبعدمه، لكن جهد معظمهم للدفاع عن ماديّتهم لأسباب خرج عن نطاق العلم والمعارف الفيزيائيّة الحديثة.
وقد ظهرت نظريّات أخرى على هامش نظريّة البيغ بانع كان منها نظرية «الاهتزاز أو النوسان الكوني»، ونظرية «النموذج الكمّي للكون». وبنقاش سريع لها بين النظريتين، نلاحظ أنّ الأولى تقول إنّ الكون يتمدّد حقيقة، ولكنّه سيعود يومًا إلى التقلص، مترافقًا مع انهيار وعدميّة لكل شيء في الكون نحو النقطة الأولى التي بدأ فيها الانفجار العظيم. ثمّ هكذا، يعود الكون بعدها إلى الانفجار العظيم فالتوسّع، وتبقى هذه الاهتزازات دون توقف وإلى الأزل. فالكون الذي نعيشه ليس إلّا مرحلة من مراحل هذه الحركة الاهتزازيّة الدائمة للكون.
إنّ هذه النظرية هي محاولة غير متكاملة للربط بين الانفجار العظيم مع أزليّة الكون، وهذا السيناريو ليس مثبتًا بالمعادلات النظريّة أو المشاهدات العينيّة. وقد أكدت الفيزياء الفلكيّة استحالة التقلّص لسبب أنّ مادة الكون المتوفرة غير كافية للإمساك بالكون والعودة إلى الوراء بفعل قوى الجاذبيّة.
كان بعض العلماء مثل إسحاق عظيموف وكارل ساغان يقولون إنّ الكون هو في حالة اهتزاز دائم: انفلاش بعد البيغ بانغ، ثمّ تقلص وانسحاق هائل نحو الصفر، وذلك بهدف تلافي مسألة أنّ للكون بداية، ممّا يقود إلى وجود خالق حتمي سبَّب البداية، لكنّ مبادئ الدنياميكا الحراريّة نسفت هذه المقولة، حيث لا يقدّر الكون المهتزّ انفلاشًا وتقلّصًا أن يتجاوز المشكلة القائمة من خلال مبدأي الديناميكا الحرارية الأول والثاني.
فكل دورة افتراضية للكون تستهلك منه طاقة مستخدمة هائلة، ما يعني أنّ الدورة التي تليها ستكون أطول بالزمن وأكبر في استهلاك الطاقة. وبالعودة بالزمن إلى الوراء، فإنّ الدورات السابقة كانت أسرع وأسرع في الزمن، وبالنتيجة فإنّ نموذج الاهتزاز الكوني يدلّ على مستقبل لا نهائي للكون، ولكن يدلّ أيضًا على ماضٍ محدود له بداية!!
وبالإضافة، فإنّ الأبحاث الحديثة تؤكّد أنّ كتلة الكون غير كافية لكي توقف قوى الجاذبية توسّع الكون، ولكي توقف دورة الانكماش والتضخيم. وتقول هذه الأبحاث إنّ الكون بهذا العنوان مفتوح، فالكتلة اللازمة لوقف توسع الكون لا يتوفر منها إلا ربعها تقريبًا، ونعني بالكتلة: الكتلة المرئيّة والكتلة غير المرئية.
كما أنّ القول بنظرية الاهتزاز الكوني، يعني أنّ كلّ كون متولد يعطي كمية من الأنتروبيا (درجة قياس الفوضى) إلى الذي يليه، وهذا ما يقلّص كمية الطاقة الحاضرة للاستمرار بدورة الكون الأزليّة، ممّا يؤكّد مسألة تناقص الطاقة المسؤولة عن الاستمرار؛ بحيث سينتهي الكون يومًا إلى الزوال. وهذه النتيجة الحاسمة فيزيائيًا تنطلق على كلّ من الكون المفتوح أو الكون المغلق (حراريًّا)، وسنفصّل هذه النقطة في البحث لاحقًا.
وبالختام، يمكن القول إنّ نظرية الاهتزاز ليست إلّا خيالًا علميًّا جميلًا، لكن تعوزها المصداقيّة العلميّة أمام حقائق الفيزياء الحديثة والمطردة مع الزمن.
أمّا النظريّة الثانية «النموذج الكمي للكون»، فيصفها الفيزيائيّون بأنّها محاولة لسحب نظرية الانفجار العظيم من التزاماتها تجاه مسألة خلق الكون؛ بحيث إنّ الذرّات تولد من بين مستويات طاقة كمومية مختلفة. وبالتناظر، فإنّ مادة الكون هي كذلك: تولد من فروقات مستويات الطاقة الكمومية، ولكن على مستوى أكبر بكثير من عالم الذرّات الصغيرة. يعلّق علماء فيزياء الكم والكونيات أنّ النظرية غاية في الضعف، ولا ترقى لتكون بمستوى المصداقيّة العلمية المطلوبة، ذلك أنّ الفراغ الكمومي الذي يحيط بجزئيّات المادة لا يشبه أبدًا الفراغ العادي، والذي يعني «اللاشيء». فالفراغ الكمومي ما هو إلّا بحرًا من الجزيئات التي تتشكل وتنفصل دونما انقطاع، والتي تستدين الطاقة منه للبقاء على قيد الحياة. ولا يمكن ربطه بالفراغ الذي يعني اللاشيء، وهو بالتالي مسألة فيزيائيّة كمومية أخرى، تقول معها الفيزياء الكمومية أنّ المادة لم تكن موجودة قبل تحوّلها من طاقة إلى مادّة، وقد تخلّى العديد من الفيزيائيّين عن النظرية بعدما دعموها بعناد منذ بدايتها، نذكر منهم بروت وسباندل.
نموذج آخر للكون الكمومي هو ما قدّمه العالم ستيفن هوكينغ، والذي دعم نظرية البيغ بانغ في كتابه «تاريخ موجز للزمن»، لكنّه استدرك أنّها لا تعني أنّ الكون وجد من عدم. وبدل «غياب» الزمن قبل البيغ بانغ، اقترح فرضيّة الزمن الوهمي، حيث قال إنّ هناك فترة جزء ثانية من الزمن الوهمي؛ حيث خلالها لم يكن هناك مادة، وبعد هذا الجزء ظهر الزمان والمكان، وتحت ظلّ هذا الفراغ الذي لم تعرف الفيزياء أي معلومة قبله، يستدلّ هوكينغ على وجود الزمن الوهمي!! والذي يؤكّد العلماء أنّ مفهومه يعادل الصفر أو اللاوجود، لكنّه يقول إنّ المعادلات صحيحة عندما تستند إلى زمن وهمي، إلّا أنّ ثمّة فرقًا كبيرًا بين الوهم والحقيقة، كأن نقول إن في الشارع عددًا وهميًّا من الأشخاص أو عددًا وهميًّا من السيارات!! ويكمل علماء الرياضيات، ومنهم السير هيربرت دانغل، أنّه وفي المنطق الرياضي يمكن أن نكذب مثلما نقول الحقيقة، ولا يمكننا أن نميّز بين الأشياء، التمييز بينها إنّما يكون بمصداقيّتها الفيزيائيّة أو بأي شيء آخر نميّز الرياضيات.
كما أنّ حلول المعادلات الرياضيّة، لا سيّما الوهميّة، لا تستوجب مطلقًا تطبيقًا واقعيًّا أو تبعات واقعيّة، واعتماد هوكينغ على حلول المعادلات الرياضيّة قائمة على الوهم أوصله إلى نتائج لا صلة لها بالوقائع. وقال بنهاية المطاف إنّه «يفضل» النماذج المتعدّدة: الأكوان المتعدّدة، نظام الكون الكمومي على نظرية الانفجار العظيم؛ لأنها وبكل بساطة تغني عن فكرة الخلق الإلهي للكون.
الدكتور عبد الله زيعور