ثقافة

شهادة مسلم بن عقيل وعبر للثائرين

التاريخ ومجرياته مائدةُ تجاربٍ وعِبَر مبسوطة للإنسانية وأجيالها المتعاقبة، وإنما يكمن الفوز في أن تتزوّد منها الأجيال ما ينفعها في آخرتها ودنياها، وأن لا تمرَّ عليها مرور الغافلين السادرين. ونظراً لأهمية هذا الرافد الثقافي والتربوي الهام جداً وجدنا أن الله (تعالى) يركّز ويؤكّد عليه في كتابه الكريم كثيراً، ويدعو الناس لأن يتأملوا في أحوال الأجيال السابقة وما جرى عليهم، وما احتوته حياتهم من تجارب وعبر، ومن ذلك قوله (تعالى): {..أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} يوسف/109. ومن ذلك قوله (تعالى): {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الصافات/137-138.

فالتاريخ وعِبَره رافد عظيم من روافد بناء الذات الإنسانية، وتنمية تجاربها، وتوسيع أفقها عبر الإطلاع على تجارب، وقصص الآخرين. ولذلك نجد – أيضاً – بأن الإمام الخميني (رحمه الله) يؤكّد على هذه الحقيقة، وأهمية هذا الرافد حيث يقول (رحمه الله): “إذا أراد شعب تحقيق كلمة، فعليه أن يستفيد من التأريخ، والتأريخ الإسلامي، ويتدبر فيما شهده، ففيه أسوة لنا“. صحيفة نور: 5/110.

وإن قضية الشهيد العظيم، مسلم بن عقيل (رض)، وما جرى عليه في الكوفة، لمن القضايا التي تزخر بالدروس، والعبر، التي يحتاج إليها الفرد والأمة في مسيرة هذه الحياة الطويلة، ودروبها الوعرة.

لقد بعثه الإمام (عليه السلام) إلى الكوفة بعد أن أتته كتبهم التي يبايعونه فيها، ويعلنون استعدادهم لنصرته، ويستعجلونه بالقدوم عليهم، وبين لهم عظيم مقامه ومنزلته حيث قال (عليه السلام): “بعثتُ إليكم بأخي وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل” وما أعظمها من شهادة، وثناء من المعصوم!

 

إنما يعرف الناس في وقت الشدائد:

في بداية الأمر التف الناسُ حول مسلم، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً، ولكنهم حين حانت ساعة الجد، وامتحانِ صدقِ الدعاوى تساقط الواحد منهم تلو الآخر سقوطاً ذريعاً شكّل وصمة عار لا زالت بشاعتها ماثلة حتى اليوم!

يصف لنا الإمام الخامنائي (دام ظله) تلك الحال بقوله: “حينما دخل مسلم بن عقيل إلى الكوفة, تراهم يقولون: لقد وفد ابن عم الإمام الحسين, لقد جاء مبعوث بني هاشم, وهو عازم على الثورة والنهوض, فيستثارون ويقفون حوله ويبايعونه, بايعه ثمانية عشر ألفاً, وبعد خمس أو ست ساعات دخل رؤساء القبائل إلى الكوفة وقالوا للناس: لماذا اتخذتم هذا الموقف؟ عمن تريدون الدفاع؟ وضد من؟ أنكم ستدفعون الثمن غالياً! انسحب أولاً زعماء القبائل كلٌ إلى داره, وبعدما حاصر جنود ابن زياد دار طوعة للقبض على مسلم, انبرى أولئك الناس أنفسهم لمحاربة مسلم!” الثورة الحسينية، خصائص ومرتكزات، السيد الخامنائي، ص33-34.

وهكذا هو حال الكثير من الناس، يعلو الصوت، وتكثر الدعاوى، ويرتفع الصراخ والشعارات، ويعظم العدد والازدحام عند الرخاء، وإذا كشّر الواقع عن أنيابه، واخشوشنت الظروف لم تجد غبار تلك الأفراد أو الحشود، وتبخّرت دعاواها معها!

يقول الإمام الخميني(قده) في وصف هذا الواقع: “القيم الإنسانية لا تعرف في الأوقات العادية كما لا تعرف قيمة الأشخاص والجماعات في أوقات الهدوء التي يعيشها الوطن والمواطنون. في مثل هذه الأوقات ربما يدعي جميع الأشخاص أنهم أصحاب قيم وأنهم ثوريون ولكن قيم الأشخاص والمجموعات لا يمكن أن تتحقق بعد الثورة وانتصارها لأن جميع المجموعات تأتي بعد الانتصار وجميعها تظهر المحبة والانتماء الثوري.

تأتي مجموعات من جميع الجهات من أجل الحصول على المنافع وقطف ثمار بستان حاضر الثورة وأحياناً، بل في كثير من الأوقات فان هذه المجموعات والأشخاص الذين جاؤوا لقطف الثمار لا يقبلون بأن يشاركهم في قطف الثمار صاحب البستان الأصلي! يريدون كل شيء لأنفسهم فقط. وقد شهدتم بعد الثورة كيف ظهرت مجموعات وأشخاص وجميعهم ظهروا بمظهر ثوري وأرادوا الاستفادة من هذه الثورة“. صحيفة نور:14/53.

فالعبرة الأولى هي أن لا يُحكم على الناس، ولا يُقيَّموا من خلال ظروف الأمن والرخاء فقط، وإنما لابد من امتحان الإنسان في مختلف الظروف حتى يعرف معدنه الحقيقي، وما تنطوي عليه نفسه، ومقدار كفاءته.

العبرة الثانية: الدور التخريبي العظيم للمخذّلين والمثبطين:

ينقل لنا التاريخ أنه “لما انتهى مسلم إلى باب القصر وقف بجيشه هناك، فأشرف أمراء القبائل الذين عند عبيد الله في القصر، فأشاروا إلى قومهم الذين مع مسلم بالانصراف، وتهددوهم وتوعدوهم، وأخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذّلون الناس عن مسلم بن عقيل، ففعلوا ذلك ، فجعلت المرأة تجئ إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت، الناس يكفونك ويقول الرجل لابنه وأخيه : كأنك غدا بجنود الشام قد أقبلت فماذا تصنع معهم؟

فتخاذل الناس وقصروا وتصرموا وانصرفوا عن مسلم بن عقيل حتى لم يبق إلا في خمسمائة نفس، ثم تقالوا حتى بقي في ثلاثمائة ثم تقالوا حتى بقي معه ثلاثون رجلا، فصلى بهم المغرب وقصد أبواب كندة فخرج منها في عشرة ، ثم انصرفوا عنه فبقي وحده ليس معه من يدله على الطريق، ولا من يؤانسه بنفسه، ولا من يأويه إلى منزله” البداية والنهاية، ابن كثير: 8/166.

لقد ضخّموا الأمور، وهوّلوا، وجعلوا الناس ينصرفون عن نصرة مسلم، مع أنه – وكما يقول الشهيد الصدر (ره)-: “لو أنّ عشرة فقط كانوا مستعديّن لأنّ يموتوا في سبيل الله لتغيّر وجه الكوفة يومئذٍ، لأنّ القصر ليست فيه شرطة، ولكنّ الشرطة كانت أوهام هذه الأُمّة الّتي فقدت شجاعتها وإرادتها وشخصيتها فخُيّل لها أنّ هذا القصر هو جبروت، وهو المعقل الّذي لا يمكن اجتيازه، بينما كان هذا القصر أجوفَ لم يكن فيه شرطة ولا جيش”. التخطيط الحسيني لتغيير أخلاقية الهزيمة ص:6.

المخذّلون هم آفة التغيير في كل زمان ومكان، وهم الداء الذي ينخر في جسد الأمة من داخلها غالباً. إنَّ القرار الصائب والموقف الرشيد هو الذي لا يتأثر بالتهويل والتضخيم، ولا يخلد إلى التساهل، والمخذّلون هم مَن يضخِّمون الأمور، ويهوِّلون بقوة الخصم، أو يقلِّلون من شأن المؤمنين وقوتهم، ينشرون سمومهم في الناس، حتى تهتز عزائمهم، ويشكّوا في إمكانية النصر، أو تحقيق النتائج المطلوبة.

وهؤلاء هم من عانى منهم الأنبياء والمصلحون على طول فترات التاريخ. قال الله (تعالى) في وصف هؤلاء المتخاذلين: { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} التوبة/46-47.

وإنما يستجيب لهؤلاء من ضعف يقينهم بحقانية قضيتهم، أو مدد ربهم. أما المؤمنون الواثقون بعدالة قضيتهم، ونصرة ربهم (تعالى) فهم مصداق لقوله (تعالى): {الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} آل عمران/173.

وهكذا في ثورتنا المباركة (14فبراير)، فلا ينبغي للمؤمنين أن يُصغوا لمثل هؤلاء، ممن يضخّم قوة النظام الفاجر، ومَن يدعمه، إلى الدرجة التي ترفعه في صف الآلهة التي لا يمكن أن تغلب، ولا تتأثر بفعاليات الثوار، وإنما عليهم أن يواصلوا مشوارهم، ويصنعوا نصرهم بتوكلهم على الله (تعالى)، وصناعة القوة المطلوبة، وتسديد الضربات الموجعة لهذا النظام المجرم، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.

العبرة الثالثة: مراعاة الجوانب الأمنية:

من أخطر ما تبتلى به الثورات، أو الحركات النهضوية، أو الأحزاب والجماعات هي الخروقات الأمنية لصالح العدو. وقد ابتُليت حركة مسلم بن عقيل (رض) بهذه السلبية القاتلة من خلال اختراق بعض أتباعه (الشهيد مسلم بن عوسجة) عبر الجاسوس الخبيث (معقل)، الذي ادعى أنه من بيئة موالية بالشام، وأنه ممن أنعم الله عليه بحب أهل البيت (عليهم السلام)، وأنه جاء ليبايع مسلم بن عقيل(رض)، وقد كان يحمل معه – كستار آخر – ثلاثة آلاف درهم ليعطيهم إياها.

استطاع هذا الجاسوس الخبيث أن يخترق حصن الثورة (بيت هاني)، ويكشف الكثير من أسرارها، مما سهّل على ابن زياد مهمة تفجير الثورة من داخلها، ثم قتل قائدها بتلك الصورة البشعة، بعد أن مارس الإغراء والتهديد لرؤساء القبائل، وشراء الذمم، وصرف الناس عن مسلم (رض).

إن هذه القضية لتعلم المؤمنين بأن لا يتساهلوا مطلقاً في هذا الجانب المفصلي، وأن يدققوا في اختيار الشخصيات التي تتبوأ المراكز المهمة، من أهل الإيمان والكتمان، والتحفّظ، والحكمة، وأن يغرسوا في نفوس نخبهم وجماهيرهم ثقافة أن المعلومة للضرورة العملية، لا للإطلاع والترف، وأن مراعاة الأمور الأمنية من الواجبات التي لا يصح التفريط فيها وتعريض الإسلام وأهله للخطر، وأن لا ينخدعوا في كل مرة بـ ” معقل” جديد.

لا تقضِ عمرك كله بالكتمان والثقل ثم تفرّط في هذه الفضيلة بعد طول عمر، وتقع ضحية لعميل خبيث، أو لحوح عابث ربما كان – هو الآخر – ذا غرض رخيص؛ لأنك ستضر نفسك وغيرك، وربما لن تعرف الناس – في هذه الدنيا – تفاصيل الخبث والغش الذي تمت ممارسته معك لاستلال المعلومات من عندك، وإنما سيعرفون فقط أنك تحدثت، فالحذر الحذر!

  • موقف طوعة، وإيواء الثوار:

بعد كل ذلك الجمع الكبير، ومبايعة الآلاف، أمسى مسلم بن عقيل (رض) يمشي في أزقة الكوفة وحيداً، ليس معه من يدلّه على الطريق، أو يؤويه! وصل إلى دار تلك المرأة المؤمنة “طوعة” فآوته – بعد تفاصيل معروفة – وأكرمته، وبالغت في الاهتمام به وبشأنه.

هذا موقف، ولولدها الخبيث موقف مختلف معاكس!

أي الموقفين ينبغي على شيعة الحسين (عليهما السلام) أن يمارسوه تجاه الثوار الذين قد يحتاجون لمأوى، أو حين يضطرون إلى اللجوء لأحد البيوت فراراً من مرتزقة النظام الفاجر؟

أيها الأحبة الثوار: يا شيعة أبي عبد الله الحسين (عليه السلام): إن مَن يحيي ذكرى عاشوراء إحياء صادقاً لن يتخلّف عن تجسيد الموقف الشريف للمؤمنة “طوعة” وتكراره تجاه المظلومين، الذين قد يحتاجون لدقائق استضافة، تقيهم القتل، أو الجرح، أو الأسر على أيدي عصابات النظام ومرتزقته.

إن هؤلاء الأحرار هم الذين يصنعون بصمودهم، وتضحيتهم، مستقبل البلد، حين يواجهون المطاط، والغازات الخانقة، ومسيلات الدموع، و”الشوزن”، والدهس بالسيارات، ويتحملون الأذى، وهؤلاء لابد أن يُنظر إليهم بكل فخر وإكبار واعتزاز، ويؤمَّن لهم ما يعينهم على مواصلة مشوار جهادهم، ومن أبسط تلك الأمور، أن تُقدّر تضحياتهم وعملهم، وأن يتم إيواء مَن يحتاج للفرار منهم من بطش المرتزقة.

عن الإمام الصادق (عليه السلام): “ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلا كان أفضل من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما من مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله في الدنيا والآخرة“.

  • تعرية ظهور الثوار:

وكم هو الفرق بين الموقف الشريف الذي يحمي ظهور الثوار، ويدافع عنهم، ويؤويهم، ويفتخر بهم، وبين تلك المواقف المتجرئة على الله(تعالى)، وعلى حرمة عباده المؤمنين حين تلاحق فعاليات الناس بالإشكالات، وتسلب عنها الشرعية، أو العقلانية، أو الحكمة، أو تهوِّل عليها بسبب بعض الأخطاء التي لا تخلو منها ثورة، بدل توجيهها بالطريقة السليمة الحكيمة التي تحفظ للثوار كرامتهم وجهادهم، ومنزلتهم، ولا تعرّي ظهورهم؛ فإن الكلمة الواحدة في هذا المجال عظيمة عند الله (تعالى) وقد تقود عذاب شديد؛ فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: “إن الرجل ليأتي يوم القيامة ومعه قدر محجمة من دم فيقول: والله ما قتلتُ ولا شركتُ في دم!

قال: بلى ذكرتَ عبدي فلاناً فترقى ذلك حتى قُتل فأصابك من دمه”.

  • التكافل الإجتماعي:

من الأمور التي ترتبط بالنقطة المتقدمة هي ضرورة ملاحظة العوائل التي تم قطع أرزاق عائلها، ولا يصح مطلقاً أن يعيش كلٌ منا لنفسه. إننا – أيها الحسينيون الأحرار – بحاجة لأن نتحسّس إخواننا في الله (تعالى)، خصوصاً أصحاب النفوس الكريمة الذين يترفعون عن السؤال، والذين هم مصداق لقوله (تعالى): {.. يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} البقرة/273. فعادة هؤلاء أكثر الناس عرضة لأن لا يلتفت إليهم لأن عزة أنفسهم تمنعهم من السؤال أو إظهار الحاجة، وإشعار الآخرين بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى