ثقافة

أنصارُ الحقّ والبَاطِلِ .. فِي مَدرَسَةِ عَاشُورَاءِ

أنصارُ الحقّ والبَاطِلِ ..

في مَدرَسَةِ عَاشُورَاءِ

الإمام الحسين : «أمّا بَعدُ: فَإنِّى لا أعلَمُ أصحابًا أوفَى ولا خَيرًا مِن أصحابِى ولا أهلَ بَيتٍ أبَرَّ ولا أوصَلَ مِن أهلِ بَيتِى فَجَزاكُمُ الل‍ه عَنِّى خَيرًا».([1])

كان الأصحاب .. يشتاقون إلى الموت والشهادة ويتساقطون صرعى واحداً تلو الاخر، حباً لله تعالى ونصرةً لابن بنت رسول الله ..

  • تمهيد …

هناك شخصياتٌ ناصرتَ الحقّ ووقفت مَعهُ، وهَذهِ الشخصياتُ خلَّدها القرآنُ والتاريخُ، حيثُ وقَفُوا وثَبَتُوا مِن أجلِ المبادئِ والقيمِ السماويّةِ الربانيّةِ، وقدَّمُوا كلَّ ما يملكونَ وأعزَّ ما عِندَهُم …… قدَّمُوا وبذلُوا الأموالَ والأولادَ والأعراضَ والأنفسَ والأرواحَ ….. وبدمائِهم القَانيّةِ سطّرُوا الملاحِمَ والمَواقِفَ الإِيمانية ….. هؤلاءُ هُم أنصارُ الحق!

وفي قبالِ هؤلاءِ كانت هناكَ فئةٌ أُخرى وقَفَت فِي وجهِ الحقِّ وأهَلِهِ ولطّخت التاريخَ بظلماتِ أفعالِهم وسيّءِ أعمالِهم، وكانَ الهَوى منهجُ حياتِهم والدُنيا غايتُهم، والرذيلةُ خِصلَتَهُم…… إنّهُم أنصارُ البَاطِل!!

نقاءُ الذّاتِ ونقاءُ المَوقِفِ

 إنَّ «نقاءَ الذاتِ» يعني: طهارةُ الرّوحِ والنّفسِ، وسُمّو الهدفِ، وصفاءُ الفِكرِ، وهُو أن يعيشّ الإنسانُ مع الله تعالى في كلّ شئٍ وفي كلّ وقتٍ … وهذا هو قمّة «النقاء» بأن يعيشَ الإنسانُ مُوحِّداً فِي فكرهِ وهدَفِه وأساليبِ عمَلِه، والغايات التي يَصبُوا إِليها، فلا يُوجد في خُلدِه أيُّ شئٍ دنُيوي شخصي وذاتي، بل كلُّ همِّهِ وكلُّ فكرِهِ وشُغلَهُ الشاغِلَ هُو أداءُ ما يُريدُهُ اللهُ مِنه! فلا رغبةَ عِندَهُ في دُنيا صغيرةٍ أو كبيرةٍ، ولا يَطلِبٌ مَكسَباً عاجلاً زائلاً، فلا يَرى مِن نَفسِهِ إِلا أنّه عَبدٌ قِنٌّ لله تعالى، ولا وظيفةَ لهُ إِلا أداءُ العبوديّةِ، يقول الإمام علي : «طُوبى لِمَن أَخلَصَ لِلّهِ عَمَلَهُ وَعِلمَهُ وَحُبَّهُ وَبُغضَهُ وَأَخذَهُ وَتَركَهُ وَكَلامَهُ وَصَمتَهُ وَفِعلَهُ وَقَولَهُ». ([1])

وهذا «النّقاءُ الذّاتِي» يعتبرُ حجَرَ الأساسِ والقاعِدَةِ الهامّةِ فِي العَمَلِ؛ فإنَّ نقاءَ الذّاتِ سينعكَسُ ويَتَجَلّى فِي «العملِ والمَوقِفِ»، وبمقدارِ «نقاءِ الذّاتِ» يكونُ نقاءُ الموقفِ والعَمَلِ، سواءً فِي الموقِفِ السياسِي أو الإجتماعِي أو الفَردِي، وكَمَا يقولُ أميرُ المؤمنين : «سِيَاسَةُ الدِّينِ‏ بِحُسْنِ‏ الْوَرَعِ وَالْيَقِين». ([2])

أنصار الحق، يعيشون الحب والوله لله تعالى، فهو المحبوب الأول، وهو منبع حب كل حبيب ومعشوق، ومحبته قد استقرت في القلوب والأرواح ولهجت بها الألسن.

  • مواصفاتُ أنصارِ الحقّ وأنصارِ الباطلِ

كونُ الإِنسانِ ناصراً للحقّ أو نَاصِراً للباطِل يتوقفُ عَلى اتصافِ الإنسانِ بأحدِ الأوصافِ، صفاتُ «أهلِ الحقّ» أو صفاتُ «أهلِ الباطل».

وليست المسألةُ مقتصرةٌ على الإدّعاءِ الفارغِ ومخادَعَةِ النّفسِ والنّاسِ! وهَذِه «الصّفات» بعضُها راجعٌ إِلى صفاتٍ داخليّةٍ «تُكوِّنُ هويّةَ كُلِّ فريقٍ» وبَعضُها راجعٌ إِلى مواقفَ خَارجِيّة «ظاهرية» نذكرُ بعضها:

حبُّ اللهِ وحبُّ الدّنيا: إنَّ «أنصارَ الحقِّ» يعيشونُ الحبَّ والولَهَ للهِ تَعالى، فَهُو المحبوبُ الأوّل، وهو منبعُ حبِّ كلِّ حبيبٍ ومعشوقٍ، ومحبّتُهُ قَد استقرّت فِي القلوبِ والأرواحِ ولهجت بِها الألسُنُ، فهُم يعيشونَ مع الله فكراً وصفةً وسلوكاً ومنهجَ حياةٍ، وقد رَسَمُوا كلَّ سلوكياتِهم بريشةِ «الحبّ الإلهي»!

وأمّا «أنصارُ الباطِل» فلهم محبوبٌ آخر ومعشوقُ ثانٍ وهي الدنيا! فكلُّ فكرهِم وهدفهم وسلوكِهم هو الحصولُ على الدّنيا والانغماسُ فِي لذائذها!!

 الدّنيا والآخرة: فـ «أنصارُ الحقّ» يُقدّمُون الآخرةَ على الدنيا؛ عندما لا يُمكن اجتماعُهما ولا بُدّ مِن اختيارِ أحدِهِما.

أمّا «أنصارُ الباطلِ» فهُم يقدّمُون الدّنيا عَلى»الآخرةِ» عِندَ التزاحُمِ بينهما. يقول الإمام الحسين في مسيرِهِ إِلى كربلاء: «إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ».([1])!

العقلُ والهَوى.. فـ «أنصارُ الحقّ» لايتّبعون إلاّ العقلَ والبرهانَ والدليلَ، وكمَا يصفُهُم أميرُ المؤمنين : «وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاء»([2]). فهُم أهلُ العِلمِ والفِكرِ، أتباعُ العَقلِ النّظري العَمَلِي.

وأمّا «أنصارُ الباطِلِ» فهُم أتباعُ الهَوى أينَمَا مالَ مَالُوا، وأينَمَا حطَّ حطُّوا ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواه﴾([3])؟! فـ «الهوى» معبودُهُم وسيّدُهُم!!

القياداتُ الصالِحَةُ والفاسِدَةُ: فـ «أنصارُ الحقِّ» لا يتّبعونَ إلا القيادات المُؤمنَةِ المُتقيةِ الصالحةِ، من نبيٍّ او إمامٍ أو وصيٍّ.

وأمّا «أنصارُ الباطلِ» فَهُم أتباعُ القياداتِ الفاسدةِ الفاسِقَةِ الضالّةِ المُضلّةِ: ﴿وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُون‏﴾. ([4])

قد كان بإمكان الحُرِّ أن يكون مُحايداً على أقل تقدير، ولكن الثورة العظيمة التي حصلت في داخله «ثورة الذات» لم تسمح له بأن يكون محايداً.

  • كربلاءُ مصارعُ العشّاقِ:

إنّ الإِمامَ الحُسيَن  وأنصارَه يعيشونُ الارتباطَ الوثيقَ بالله تعالى، وكانُوا دائِمِي الذّكرِ له والهيام بذكرِهِ، وتَجَلّى ذلك في عدّةِ مواقفَ، نذكرُ بعضَها:

يوم التاسعِ من المُحرّمِ: وعندما همّ الأعداءُ بالهجوم على معسكرِ الإمام ، طُلِبَ مِن الإمام  تأجيلَ حَسمِ الأمرِ إلى الغَدّ، وقَد ذُكِرَ علّةَ ذلك: أنّنا نريدُ فِي هذه الليلهِ أن نُصلّيِ ونقرأَ القرآنَ وندعُو ونستغفِر؛ فغداً الموتُ، وأمنيتنا أَن نجلسَ هذه الليلة ونختلِي بربنا ونتزوّد منه؛ فهو قُرّةُ العَينِ، ومُسكّنَ الفُؤادِ …. وهَكذا كانت خِيامُهُم تلك الليلةِ فيها دويٌّ كدويّ النحلِ، بين راكعٍ وساجدٍ وقارئٍ للقرآنِ، فَهُم رهبانُ الليلِ وهُم فرسانُ النّهار! ([1])

 عندما بقي الإمام الحسين  فريداً وحيداً بعد ذهاب الأنصار والأهل، وبعد انقطاع كل الأسباب المادية والطبيعية، تراه يتبتل ويُتمتم ويذهب بكلّه لله تعالى، يستمدّ من تلك القوة التي لا تُقهر، وذلك الأمل الذي لا يأس معه، مع الله الحبيب، ومع ذلك الدعاء العظيم: «اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ، وَأَنْتَ رَجَائِي فِي كُلِّ شِدَّةٍ، وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، كَمْ مِنْ كَرْبٍ – يَضْعُفُ عَنْهُ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ عَنْه‏ الْقَرِيبُ، وَيَشْمَتُ بِهِ الْعَدُوُّ، وَتَعْنِينِي فِيهِ الْأُمُورُ- أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إِلَيْكَ، رَاغِباً فِيهِ عَمَّنْ سِوَاكَ، فَفَرَّجْتَهُ وَكَشَفْتَهُ وَكَفَيْتَنِيهِ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَاجَةٍ، وَمُنْتَهى‏ كُلِّ رَغْبَةٍ، فَلَكَ الْحَمْدُ كَثِيراً، وَلَكَ الْـمَنُّ فَاضِلًا».([2])

وهكذا كان الأصحاب يشتاقون إلى الموت والشهادة ويتساقطون صرعى واحداً تلو الاخر، حباً لله تعالى ونصرةً لابن بنت رسول الله … ومثل هذه الاستماتة لا يفهم ولايدرك معناها إلا بإن حب الله، قد استقر في قلوبهم وخرج حب الدنيا منها!

 

  • الحر الرياحي والخلود الابدي «ثورة الذات»

 قد كان بإمكان الحُرِّ أن يكون مُحايداً على أقل تقدير، ولكن الثورة العظيمة التي حصلت في داخله «ثورة الذات» لم تسمح له بأن يكون محايداً، فضلاً أن يبقى في جبهة وصفّ «أنصار الباطل»!

فهذه الثورة الداخلية جعلته يُقدم على «الموت البدني» لأجل «الخلود الروحي الأبدي»، فقد هَرِب من الذّلة والهوان والهوى ودخل في حياة الكرامة والعزّة والخُلود.

ومن أكبر دُروس عاشوراء وعطاءات هذه المدرسة: أنّها تصنع مثل «الحر»: إن خُيّرَ بين «الدُنيا» و«الآخرة» وبين «النّار» أو «الجنّة» وبين «الباطل» و«الحق»، فإنّة لا يَختارُ إلا الآخرة والجنّة والحق، فهذه هي الحرية الحقيقية التي تصنعها المدرسة الحسينية.

وهناك عينات أُخرى تقف في المقابل، مثل عُمر بن سعد، هذا الذي دخل في نفس الإمتحان الذي دخله الحر، ولكن الفارق بينهما: أنّ «عمر بن سعد» اختار النّار على الجنّة، واختار مُلك الريّ الذي كان ثمنُه قتل الحسين بن علي ! والحرّ اطاع الإمام الحسين  القائد الصالح المؤمن، وعمر بن سعد اطاع يزيد وابن زيادة الفسقة الطغاة…!!

 

  • قيس بن مُسهّر الصيداوي «أمين الإمامه والثورة»

 قيس بن مسهّر الصيداوي، كان رسولاً من الإمام الحسين  إلى أهل الكوفة، وقد كان يحمل أمانةً كبيرةً لابد من إيصالها بلغ ما بلغ!! ولكنّ الأقدار شاءت أن يُقبضَ عليه في القادسية، فشاءت العناية الربانية أن تُبرزَ الخصال العظيمة لهذا الرجل العظيم!

 فإنّه قد مزَّقَ الكتاب الذي عنده، حتى لا يطلّع عليه أحدٌ من رجال ابن زياد، لما في ذلك من الضرر على الثورة، فكان منه هذا الموقف البطولي.

لم يُخبر عن محتوى الكتاب، ولا إلى من أُرسِل إليهم، مع شدّة ما لاقاه من تعذيبٍ في ذلك!

وبعد اليأس من ايصال الكتاب إلى أهله، وأحس بالموت، فإنّه صنع له خياراً آخر يُؤّدي به الغرض المنشود، وإن كان ضريبة ذلك الشهادة، فما كان منه إلا أن أوصل فحوى الرسالة إلى أهل الكوفة عامة بأن إمامهم في منطقة الحاجز وهو قادم لكم فاستعدوا لنصرتة.

وهو على شرفة الموت، وقبل لحظات من موته: يلعن ابن زياد وآل أميّة، ويثبت الولاء للإمام الحسين !.

هكذا كان قيس رسول الإمام  ورسول الشهادة، حيث جاد بنفسه وروحه من أجل نصرةِ الإمام  والإسلام والثورة!

وفي القبال هناك أهل الكوفة ووجهائهم وعامة النّاس، الذين خذلوا الحقّ ولم ينصروه رغبةً في الدنيا وطلباً للعافية وخوفاً من بطش ابن زياد، فلم يقدروا على كثرتهم أن يسجلّوا الموقف المشرق ويقفوا «انصاراً للحق»!

 

  • حبيب بن مظاهر .. «المجاهد الثابت المنتظر».

إنّ حبيب بن مظاهر من أصحاب أمير المؤمنين  ومن خواصّه في الحرب والسلّم وقد وعده أمير المؤمنين  بالشهادة ولكنّه لم يُوفق لها مع أمير المؤمنين وعندما راجعه قال له: إنّك ستوفّق للشهادة بين يدي الحسين  وهي افضل من هذه الشهادة!

وقد صبر تلك المدة المديدة وثبت على الحق وكان منتظراً حقيقياً ومُعدّاً نفسه لهذا اليوم «يوم عاشوراء»، فعندما جاء هذا اليوم كان من الأنصار «أنصار الحق» بل شيخ الأنصار!!

___________

المصادر:

  • [1].  بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج‏44، ص: 392.
  • [2].   تحق العقول ص 100، بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج‏74، ص: 289.
  • [3].  تصنيف غرر الحكم و درر الكلم ؛ ص271.
  • [4].  تحف العقول، النص، ص: 245.
  • [5].  نهج البلاغة (للصبحي صالح)، ص: 304.
  • [6].  الفرقان : 43.
  • [7].  القصص : 41.
  • [8].  ورد عن أمير المؤمنين  في صفات المؤمنين: «رُهْبَانُ اللَّيْلِ وَ أُسُودُ النَّهَارِ». بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج‏15، ص: 213  أعلام الدين في صفات المؤمنين، ص: 117.
  • [9]. كافي (ط – دار الحديث)، ج‏4، ص: 546.

سلسلة محاضرات "التغيير في سبيل الله"

محاضرة القاها سماحة الشيخ زهير عاشور في سجن جو المركزي (6 محرم 1436 هـ)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى