صاحب اللواء
كلمات الإشادة والثناء التي صدرت في حق أبي العباس(عليه السلام) تغني عن كلمات الآخرين؛ فما صدر عنهم(عليهم السلام) في شأنه، والإشادة به وبمقامه العظيم لم يصدر في حق أي شهيد آخر! ويكفينا من ذلك ما روي عن الإمام السجاد(عليه السلام) حيث قال: “رحم الله العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه حتى قطعت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وإن للعباس عند الله (تبارك وتعالى) منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة”. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 548.
فأن يغبطه جميع الشهداء يوم القيامة، فهذا يدل على مقام ودرجته عظيمة جداً!
صلابة إيمان شهيد العلقمي:
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: “كان عمنا العباس نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله (عليه السلام)، وأبلى بلاء حسنا، ومضى شهيدا”. وقد تحدثنا – في حلقة سابقة – عن معنى ودور نفاذ البصيرة بشكل عام، ونتحدث هنا عن”صلابة الإيمان“.
لو أردنا أن نعرف سر كل هذه العظمة لدى أبي الفضل العباس(عليه السلام) – ولدى العظماء الربانيون – فالجواب هو في “صلابة الإيمان”.
والإيمان – كما يقول الإمام الخميني(ره) – ليس هو العلم المجرد، وإنما هو علم راسخ ينعكس على كل جنبات الذات الإنسانية.
يقول الإمام الخميني(قده): “إعلم أن الإيمان غير العلم بالله ووحدانيته وسائر الصفات الكمالية الثبوتية والجلالية السلبية، والعلم بالملائكة والرسل والكتب ويوم القيامة. وما أكثر من يكون له هذا العلم ولكنه ليس بمؤمن. الشيطان عالم بجميع هذه المراتب بقدر علمنا وعلمكم، ولكنه كافر. بل إن الإيمان عمل قلبي، وما لم يكن ذلك فليس هناك إيمان. فعلى الشخص الذي علم بشيءٍ عن طريق الدليل العقلي أو ضروريات الأديان، أن يسلّم لذلك قلبه أيضاً، ولأن يؤدي العمل القلبي الذي هو نحو من التسليم والخضوع، ونوع من التقبل والاستسلام – عليه أن يؤدي ذلك – لكي يصبح مؤمناً.
وكمال الإيمان هو الاطمئنان. فإذا قوي نور الإيمان تبعه حصول الاطمئنان في القلب، وجميع هذه الأمور هي غير العلم. فمن الممكن أن يدرك العقل بالدليل شيئا لكن القلب لم يسلم بعد، فيكون العلم بلا فائدة. مثلاً أنتم أدركتم بعقولكم أن الميت لا يستطيع أن يضرّ أحداً، وأن جميع الأموات في العالم ليس لهم حس ولا حركة بقدر ذبابة، وأن جميع القوى الجسمانية والنفسانية قد فارقته ولكن حيث أن القلب لم يتقبل هذا الأمر ولم يسلم أمره للعقل، فإنكم لا تقدرون على مبيت ليلة مظلمة واحدة مع ميت!!
وأما إذا سلّم القلب أمره للعقل، وتقبل هذا الحكم منه، فلن يكون في هذا العمل – أي المبيت مع الميت – أي إِشكال بالنسبة إليكم، كما أنه وبعد عدة مرات من الإقدام، يصبح القلب مسلّماً، فلن يبقى عنده بعدها بأس أو خوف من الميت.
إذاً؛ أصبح معلوماً أن التسليم – وهو من حظ القلب – غير العلم الذي هو من حظ العقل.
ومن الممكن أن يبرهن إنسان بالدليل العقلي، على وجود الخالق تعالى والتوحيد والمعاد وباقي العقائد الحقة ولكن هذه العقائد لا تسمى إيمانا، ولا تجعل الإنسان مؤمنا، وإنما هو من جملة الكفار أو المنافقين أو المشركين. فاليوم العيون مغشّاة، والبصيرة الملكوتية غير موجودة، والعين الملكية لا تُدرك، ولكن عند كشف السرائر، وظهور السلطة الإلهية الحقة، وخراب الطبيعة وانجلاء الحقيقة، سيعرف ويلتفت بأن الكثيرين لم يكونوا مؤمنين بالله حقا، وأن حكم العقل لم يكن مرتبطا بالإيمان، فما لم تكتب عبارة “لا إله إلا الله” بقلم العقل على لوح القلب الصافي لن يكون الإنسان مؤمنا بوحدانية الله.
وعندما ترد هذه العبارة النورانية الإلهية على القلب، تصبح سلطة القلب لذات الحق تعالى، فلا يعرف الإنسان بعدها شخصا آخر مؤثرا في مملكة الحق، ولا يتوقع من شخص آخر جاها ولا جلالا، ولا يبحث عن المنزلة والشهرة عند الآخرين.
ولا يصبح القلب مرائيا ولا مخادعا حينئذ. وإذا رأيتم رياء في قلوبكم، فاعلموا أن قلوبكم لم تسلّم للعقل، وأن الإيمان لم يقذف نوره فيها، وأنكم تعدون شخصا آخر إلها ومؤثرا في هذا العال، لا الحق تعالى، وأنكم في زمرة المنافقين أو المشركين أو الكفار”. الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص47-48.
إذن، فالإيمان هو عمل قلبي وكلما كمل وترسّخ وصَلُب كلما انعكس ذلك على فكر ومشاعر وسلوك الإنسان، وقد يصل إلى درجة لا يريد الإنسان معها إلا ما يريده الله(تعالى)، ويكون مظهراً من مظاهر جمال وجلال الله(تعالى).
فالإيمان هو علة كل الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة إنما هي ثمرة الإيمان الصادق؛ فعن الإمام علي(عليه السلام): “بالإيمان يستدل على الصالحات وبالصالحات يستدل على الإيمان“.
الإيمان الصادق و”صلابة الإيمان” هي تلك العقيدة المشرقة التي غرسها أمير المؤمنين(عليه السلام) في نفس أبي الفضل العباس(عليه السلام) فكانت نفساً موحدة عظم الخالق في ذاتها، فصر كل ما دونه فيها، نفس ترفض أن تشرك بالله(تعالى) بأي لون من ألوان الشرك.
إن التاريخ ليحدثنا عن أبي الفضل أنه “دعاه أبوه (عليه السلام) في عهد الصبا فأجلسه في حجره وقال له: “قل واحد، فقال وحد، فقال له قل اثنين، فامتنع وقال: إني أستحي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحداً“. العباس، السيد المقرم، ص168.
هذه هي عقيدة العباس(عليه السلام) منذ صغره، والتي نمت وتكاملت معه كلما كبر واشتد عوده، وهذه هي “صلابة إيمانه”! هذه الصلابة الإيمانية هي التي جعلته (عليه السلام) يثبت كالجبال في يوم الطف، وهو الذي جعله، يرفض “الأمان” الذي عرضه الشمر بن ذي الجوشن(لعنه الله)، وهو الذي جعله يتلقى السيوف والرماح والنبال بكل رضا وسعادة وطمأنينة نفس، وعدم “صلابة الإيمان” والخلل في الإيمان هو الذي جعل الكثيرين يتساقطون عند الامتحان تجاه ثورة أبي عبد الله الحسين(عليه السلام). ومنهم عبيد الله بن الحر الجعفي الذي “أرسل إليه الحسين (عليه السلام) فقال:”أيها الرجل، إنك مذنب خاطئ وإن الله (عز وجل) آخذك بما أنت صانع إن لم تتب إلى الله (تبارك وتعالى) في ساعتك هذه، فتنصرني ويكون جدي شفيعك بين يدي الله (تبارك وتعالى).
فقال: يا بن رسول الله، والله لو نصرتك لكنت أول مقتول بين يديك، ولكن هذا فرسي خذه إليك، فوالله ما ركبته قط وأنا أروم شيئا إلا بلغته، ولا أرادني أحد إلا نجوت عليه، فدونك فخذه. فأعرض عنه الحسين (عليه السلام) بوجهه، ثم قال: “لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك، وما كنت متخذ المضلين عضداً، ولكن فر، فلا لنا ولا علينا، فإنه من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا، كبه الله على وجهه في نار جهنم“. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 219.
فالخشية من القتل بين يدي الحسين(عليه السلام) خلل إيماني قاتل أدى لذلك الموقف المتخاذل عن نصرة سيد شباب أهل الجنة(عليه السلام)!
إن صلابة الإيمان هي التي تثمر الصبر على الطاعة بكل أشكالها، والصبر عن المعصية بكافة ألونها، وهي التي تجعل الإنسان المؤمن يقدم بكل سخاء وجد؛ حتى لو لم يعلم بما يقدمه أحد. بل هي التي تجعله يقدم ويضحي ويتعب ويشقى حتى لو كفر الناس بما يقدّمه. هي التي تجعل الإنسان المؤمن يتحمل سهام الكلمات والمعاملة الظالمة من إخوانه ويسلّم أمره لمولاه(تعالى)؛ لأنه العالم بحاله، والخلل في الإيمان هو الذي يجعل الإنسان يثور لأدنى سبب، ويدخل في المهاترات الهابطة لحركة أو كلمة غير مقصودة من أخيه فضلاً عن أن تكون مقصودة؛ لأنه يغفل عن علم الله بنقاء ذاته، وطهارة ذيله، ولا يؤمن إيماناً حقيقياً بيوم ستظهر فيه شمس الحقائق، ويأخذ كل ذي حق حقه، وينصف المظلومون من ظالمهم.
وإنما تحصل تلك المنزلة الرفيعة بمداومة الطاعة، وترك المعصية، ومجالس أهل الخير، وترك صحبة الأشرار، وترك لقمة الحرام والشبهة، ودوام الذكر، والمحاسبة، والمراقبة، وطهارة القلب تجاه عباد الله، وصدق النية.
غيرة أبي الفضل وحميته:
“لما رجع العباس وإخوته إلى الحسين وأعلموه بما أراده الماجن منهم [أي الشمر حين عرض عليهم الأمان] قام زهير بن القين إلى العباس، حدثه بحديث قال فيه: إن أباك أمير المؤمنين عليه السلام طلب من أخيه عقيل – وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها – أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب، وذوو الشجاعة منهم ليتزوجها فتلد غلاماً فارساً شجاعاً ينصر الحسين بطف كربلاء وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك؛ فغضب العباس وقال: يا زهير تشجعني هذا اليوم؟! فوالله لأرينّك شيئاً ما رأيته“. العباس، السيد المقرم، ص194-195.
ما أعظمك يا بن علي بن أبي طالب! وما أعظم غيرتك على دينك، وعرضك، وقيمك!
هذه بعض سمات هذا الشهيد العظيم! لا يحتاج أبداً إلى أن يشجعه أحد على أمر مغروس في صميم ذاته، ويستثار من أجل قيمه ومبادئه! وهو الذي يشجّع الآخرين، ويحثهم على الخير!
إن هذا درس يلقيه علينا الموقف الشهم لأبي الفضل(عليه السلام) في الغيرة والشهامة والنخوة والدفاع عن العرض. إنه لمن العار أن يتم التعدّي على الدين والعرض ويتفرّج الإنسان على ذلك دون أن يحرّك ساكناً!
كيف يمكن أن يقبل أتباع هذا الشهيد العظيم(عليه السلام) أن تؤخذ المرأة العفيفة من بينهم – أو يسلّمها أهلها – طائعين لأشد الناس قذارة، وأكثرهم خسة ونذالة من مرتزقة هذا النظام الفاجر؟!
ماذا سيقول التاريخ وكيف ستنظر الأجيال القادمة لمثل هذا السكون تجاه هذه الجريمة البشعة، حين تؤخذ الفتاة، أو المرأة الشريفة من بين أهلها، وأهل مدينتها أو قريتها دون أن يخلّصها أهلها، وقومها من أيدي تلك الذئاب القذرة؟!
وماذا سيكتب التاريخ، وماذا ستقول الأجيال لو حدث العكس بأن هبَّ الناس وسقط الشهداء في سبيل العرض وتخليص الشرف من الدنس؟! لو أن قرية بأكملها قد استشهد رجالها وشبابها من أجل دفاعهم عن شرفهم، فماذا سيقول التاريخ والأجيال القادمة؟!
إن وقفة شريفة أبية كهذه سيخلدها التاريخ، وسيكتبها بحروف من نور واعتزاز وفخر، وسيكون ذلك الموقف مدرسة ملهمة لكل الأحرار في الدفاع عن العرض والشرف والدين، وسيحسب الطغاة – الذين يغريهم الصمت والسكون – لهذه الفئة التي لا ترضى على شرفها ألف حساب، وستفكر ألف مرة قبل أن تغامر بالتعدي على عرض وشرف أو دين هذه الفئة الأبية، فأي الموقفين سنختار؟
إعطاء الأمان وسياسة تفتيت جبهة الثوار:
“جاء شمر حتى وقف على أصحاب الحسين (عليه السلام) فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العباس، وجعفر، وعثمان بنو علي بن أبي طالب (عليه وعليهم السلام) فقالوا: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فقالت له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!
وفي رواية: فقال له العباس(عليه السلام): “تبت يداك ولعن ما جئتنا به من أمانك يا عدو الله أتأمرنا أن نترك أخانا وسيدنا الحسين بن فاطمة، وندخل في طاعة اللعناء، وأولاد اللعناء؟! فرجع الشمر إلى عسكره مغضبا“. لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين، ص 116.
من الأساليب التي يستخدمها العدو – والأنظمة الظالمة بشكل عام – هو العمل على اختراق جبهة الحق من الداخل وتفتيتها عبر استمالة الجهات الفاعلة فيها؛ من أجل تسهيل ضربها بشكل كامل.
فيقدم العدو المناصب والإغراءات، أو الأمان؛ فينهار العضو الفاعل في المؤسسة أو اللجنة المطلبية، أو المعارضة، أو الثورة ويبيع القضية من أجل ذاتياته، خوفاً من التهديد أو جرياً وراء المنصب و”الأمان”. بينما يريد لنا أبو الفضل العباس – بموقفه الرافض لأمان ابن سميّة(لعنه الله) – أن نثبت على الحق، ونضحّي من أجل القضية، ونصرّ على مواصلة المسيرة.
السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين عليه السلام.