ثقافة

كربلاء مدرسة الشجاعة والإقدام

عند موقف القاسم بن الحسن(عليهما السلام) تتوقف اليوم قافلة العاشقين لتنهل من فيضه، وتنصر في معانيه بدموع الأسى على مصابه العظيم. غلام لم يبلغ الحلم يهيجه المشهد الأليم، يستثير فيه عزته وغيرته الإيمانية، وشهامته، ونجدته، وشجاعته، يرى أصحاب إمامه وعمه(عليه السلام) وقد صُرّعوا، يشاهد غربة سيده، وقلة ناصره؛ فيأتي لعمه الحسين(عليه السلام)، يستأذنه – وبرجاء حار – بالخروج للقتال بين يديه!

لما نظر إليه الحسين (عليه السّلام) اعتنقه وبكى، ثمّ أذن له، فبرز كأنّ وجهه شقّة قمر، وبيده السّيف وعليه قميص وإزار وفي رجلَيه نعلان، فمشى يضرب بسيفه فانقطع شسع نعله اليسرى – وأنف ابن النّبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يحتفي في الميدان – فوقف يشدّ شسع نعله، وهو لا يزن الحرب إلاّ بمثله غير مكترث بالجمع ولا مبال بالألوف“. مقتل الحسين، العلامة المقرم، ص264-265.

حين خرج أخذ – كما ينقل أرباب المقاتل – يرتجز ويقول:

إن تنـكروني فأنا نجل الحسن ** سبـط النبي المصطفى المؤتمن

هذا حـسين كالأسير المرتهن بين أناس لاسقوا صوب المزن

ثم قاتل قتال الأبطال حتى استشهد(عليه السلام).

 

القاسم والشجاعة العلوية:

التقدم في مثل هذه السن لا تخفى دلالته، والوقوف لشد شسع النعل في قلب المعركة يعكس عزة نفس، وعدم مبالاة بالعدو، وشجاعة هاشمية نادرة!

أما الرجز في هذه المواقف فهو علامة شاخصة على قوة القلب والشجاعة؛ فالقلب الخائر لا يحسن صاحبه الكلام فضلاً عن أن يرتجز هكذا عند ملاقاة الموت في قلب المعركة!

 

كيف نربي الأبناء على الشجاعة:

تمثل الشجاعة ركيزة من ركائز الشخصية السويّة، وسمة أساس من سمات الشخصية الإسلامية. فعن الإمام علي(عليه السلام): “السخاء والشجاعة غرائز شريفة، يضعها الله (سبحانه) فيمن أحبه وامتحنه”. وعنه(عليه السلام): “الشجاعة عز ظاهر. الجبن ذل ظاهر“.

والشجاعة هي ملكة في القلب تؤدي لاتخاذ الموقف المطلوب – فعلاً أو تركاً – دون تردد وخوف. وهي أساس للكثير من الخيرات، ومولدة للكثير من الكمالات. أما عوامل الشجاعة التي ينبغي على المربين الالتفات إليها من أجل تنشئة جيل شجاع، فهي كثيرة يجملها الحديث بما يلي:

1- الوراثة:

والوراثة ذات تأثير كبير على تحديد سمات الإنسان، سواء منها البدنية أم الأخلاقية؛ ولذلك وجدنا أن الإسلام يشدد على أهمية هذه المسألة، ودورها في حياة الإنسان، فقد ورد عنهم(عليهم السلام): “تخيروا لنطفكم فإن العِرْق دسّاس” أو “فإن الخال أحد الضجيعين” في إشارة إلى دور الوراثة في بناء شخصية الإنسان.

وقد روى أن أمير المؤمنين عليا(عليه السلام) قال لأخيه عقيل – وكان نسابة عالما بأنساب العرب وأخبارهم – : انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاما فارساً. فقال له: تزوج أم البنين الكلابية فإنه ليس في العرب أشجع من آبائها“. عمدة الطالب، ابن عنبة، ص 357.

فالوراثة – كما هو واضح – لها دور محوري، ولذلك على المربين أن يلتفتوا إليها ويهتموا بها جداً.

 

2- غرس وتنمية الروح الإيمانية والمبدئية:

حين يتربى الإنسان على التوحيد، وتعظيم الله(تعالى) تذوي المخلوقات في نفسه، ولا يكون لها من شأن إلا بما يريده الله(تعالى)، وما ورد عن مولانا علي(عليه السلام) في خطبة المتقين: “عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم“. يشير إلى هذه الحقيقة بوضوح.

يقول الشيخ محمد تقي فلسفي: “إن من ينشأ على الإيمان والاستقامة، ويستند في جميع أموره إلى القدرة الإلهية اللامتناهية لا يخاف أبداً ولا يجبن في موقف مهما كان حرجاً. لقد شهدت أيام خلافة الإمام (عليه السلام) في الكوفة موجة من الإضطربات والفتن، وفي بعض الأحيان كان يصمم الحزب المجرم المتمثل في (الخوارج) في وضع خطة لاغتيال الإمام، ومع ذلك فقد كان يخرج في أواخر الليل إلى نقطة هادئة من المدينة ويناجي ربه. وكان يخرج (قنبر) الخادم الوفي وراءه حاملاً سيفه مختفياً عن أنظار الإمام. وفي إحدى الليالي نظر علي (عليه السلام) إلى خلفه فرأى قنبر.

فقال له: يا قنبر ما لكَ؟

قال: جئت لأمشي خلفك، فإن الناس كما تراهم يا أمير المؤمنين فخفت عليك.

فقال له الإمام: إن أهل الأرض لا يستطيعون بي شيئاً إلا بإذن الله عز وجل، فارجع. فرجع”. الطفل بين الوراثة والتربية، الشيخ فلسفي: 2/151-152.

ولذلك وجدنا – كما تقدم في حلقة سابقة – أن الإمام علي(عليه السلام) قد غرس هذا المعنى التوحيدي في نفس أبي الفضل العباس(عليه السلام) فجاء بطلاً شجاعاً. فقد ورد أن العباس قد “دعاه أبوه (عليه السلام) في عهد الصبا فأجلسه في حجره وقال له:

“قل واحد، فقال واحد، فقال له قل اثنين، فامتنع وقال: إني أستحي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحداً”. العباس، السيد المقرم، ص168.

فالقلب الذي يرى قدرة الله(تعالى) لا يرى قدرة غيره إلا مستمدة من قدرته، والنفس التي ترى عظمة الله(تعالى) ووحدانيته في كل صفاته، لا ترى المخلوقات إلا ظلالاً لا حول لها ولا قوة إلا من حول الله وقوته، ولذلك يطمئن القلب وينعقد على خشية الله(تعالى) وحده؛ فهو المدبر للوجود كله.

أما إذا أهمل هذا الجانب، وغذيت في الطفل قدرة البشر – كالأب أو الأم والمربين بشكل عام – من خلال احتقار الطفل، وسحق شخصيته، وإرعابه، والقسوة في عقابه؛ فإن ذلك سيؤدي إلى قتل روح الجرأة والشجاعة عنده، وعندنا لا يصح للأب أن يطالب ابنه بأن يكون شجاعاً بعد هدر كرامته، وغرس الرعب في نفسه من قوة البشر.

ولذلك جاءت التوصيات – كما عن النبي(صلى الله عليه وآله) بأن “أكرموا أولادكم” والإكرام يعني احترام شخصيته، وعدم هدر كرامته بهذه الصورة أو تلك؛ لينشأ سوياً ذا شخصية قوية شجاعة.

ومن روائع ما روي في هذا المجال هو قضية مولانا الإمام محمد الجواد (عليه السلام) حيث “اتفق أنه كان مع الصبيان في أزقة بغداد، إذ مرّ المأمون ففر الغلمان، ووقف محمد التقي، وسنه تسع سنين.

فقال له: يا غلام، ما منعك من الانصراف؟

فقال له مسرعا: لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك، وليس لي جرم فأخشاك، وظني [ وفي رواية: والظن ] بك حسن أنك لا تضر من لا ذنب له. فأعجبه كلامه وحسن صورته، فقال له: ما اسمك واسم أبيك؟ فقال: محمد بن علي الرضا”. ينابيع المودة لذوي القربى، القندوزي: 3/124.

وهكذا إذا تمت تربية الإنسان على المثل والقيم الرفيعة من خلال التلقين والتمرين أثمر ذلك الشجاعة في نفس الإنسان.

 

3- التزام العمل الصالح واستحضار اليوم الآخر:

الملكات الحسنة إنما هي ثمار تنميها أو تتلفها أعمال الإنسان، والعلاقة بين العمل والملكات متبادلة. ومن هنا فالشجاعة جزء من مجموعة سمات يتأثر بعضها ببعض، والعقيدة والأخلاق تتأثر بالعمل والعكس صحيح كذلك. ومن هنا نقرأ قوله(تعالى): {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنْ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} البقرة/95-96. فالخشية من الموت ترجع إلى سوء العمل، وعدم التزود لتلك الدار، ومن ساء عمله خشي أن يقدم على الله(تعالى) بسبب ما اجترح.

وهذا – بدوره – سيؤدي إلى الجبن والتراجع وعدم الإقدام في المورد الذي يتطلب فيه الإسلام ذلك، وعبيد الله الجعفي مثال واضح جداً على هذه الحقيقة، فقد “أرسل إليه الحسين (عليه السلام) فقال:”أيها الرجل، إنك مذنب خاطئ وإن الله (عز وجل) آخذك بما أنت صانع إن لم تتب إلى الله (تبارك وتعالى) في ساعتك هذه، فتنصرني ويكون جدي شفيعك بين يدي الله (تبارك وتعالى).

فقال: يا بن رسول الله، والله لو نصرتك لكنت أول مقتول بين يديك، ولكن هذا فرسي خذه إليك، فوالله ما ركبته قط وأنا أروم شيئا إلا بلغته، ولا أرادني أحد إلا نجوت عليه، فدونك فخذه. فأعرض عنه الحسين (عليه السلام) بوجهه، ثم قال: “لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك، وما كنت متخذ المضلين عضداً، ولكن فر، فلا لنا ولا علينا، فإنه من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا، كبه الله على وجهه في نار جهنم“. الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 219.

فقد حجزته ذنوبه عن نصرة الحسين (عليه السلام)، وخشي أن يكون أول مقتول بين يديه!

 

4- القدوة الحسنة:

تميل النفس الإنسانية بفطرتها إلى الشخصيات الشجاعة، وإلى ممارسة دور البطولة والشجاعة بنفسها، وكلما حققت إنجازاً في هذا الطريق أضاف ذلك إليها رصيداً وقوة دفع أكبر. ومن هنا فينبغي ربط الأبناء بالقدوات الحسنة في هذا المجال.

ومن أكثر القدوات تأثيراً على الأبناء هم آباؤهم؛ فممارسات الآباء اليومية تصوغ شخصية الأبناء حتى من دون أن يتحدثوا. حين يرون الأب يتميز بالشجاعة والإقدام سيكتسبون ذلك منه، أما حين يرونه جباناً لا يشارك في أي أمر يتطلب شجاعة وإقداماً فإن ذلك سيؤثر عليهم بمقدار مخالطتهم له، وهكذا في سائر الملكات الأخرى، فإن للوالدين فيها تأثير عظيم على الأبناء، ومن هنا فمسؤوليتة الوالدين عظيمة جداً.

إن الأطفال لينشدون إلى بعض أفلام الرسوم المتحركة، أو القصص التي تتحدث عن الشجاعة، والبطولة وهذا يسهل عملية ربطهم بالقدوات الإسلامية الأصيلة كالأنبياء وأهل البيت(عليهم السلام)، ومن اقتفى أثرهم، مما يصقل شخصتهم، ويغرس فيها هذه السمة.

وطبيعة الطفل أن ينجذب إلى بطولة الطفل مثله أكثر من غيره، وهكذا في الشباب، وكم حوت كربلاء من بطولات عظيمة سطرها الشباب، ومَن لم يبلغوا الحلم كالشهيد القاسم بن الحسن وعلي الأكبر، وأبي الفضل العباس(عليهم السلام) وغيرهم من أبطال حفروا أسماءهم في جبين الخلود.

 

5- التربية العملية:

وذلك بأن تنمى في الطفل روح الاستقلال والاعتماد على النفس، يقول الشيخ الفلسفي: “إن التربية العائلية الصحيحة هي التي تستطيع أن تربي الطفل على الاستقلال والاعتماد على النفس، وتقوده نحو التكامل المادي والمعنوي. إن الأطفال الذين نشأوا طفيليين على أثر الأسلوب الفاسد للتربية المتخذ بحقهم ، والذين لا يشعرون بالاستقلال الاعتماد على النفس، يرزحون تحت كابوس الحقارة والذلة مدى العمر… إنهم لا يطمئنون إلى أنفسهم ، ولذلك فهم ينتظرون العون والمساعدة من هذا وذاك دائماً، وهذا يكشف لنا عن إصابتهم بعقدة الحقارة وتجرعهم نتائجها الوخيمة”. الطفل بين الوراثة والتربية، الشيخ فلسفي: 2/224.

ولذلك وجدنا الحث على تعليم الأولاد بعض الأمور التي تنمي فيهم هذه روح الشجاعة والاعتماد على النفس، وتقوي أبدانهم بما يجعلهم يثقون في قدراتهم أكثر، فعن النبي(صلى الله عليه وآله): “علموا أولادكم السباحة والرماية“. الكافي، الشيخ الكليني: 6/ 47.

وكذلك وجدنا أن المعصوم(عليه السلام) يشرك أبناءه في الحروب، ويعلمهم فنونها، كما في تربية مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام) لأبنائه، الحسن والحسين، ومحمد بن الحنفية، والعباس(عليهم السلام) ومن ذلك الكلمة المشهورة التي قالها لولده محمد بن الحنفية(رض) بيوم الجمل حين أعطاه الراية، والتي جمع له فيها الخطوط العريضة من التعليمات الحربية حيث قال: ” تَزُولُ الْجِبَالُ وَلَا تَزُلْ عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَغُضَّ بَصَرَكَ وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ“. نهج البلاغة.

إن التربية العملية هي من أفضل الوسائل وأنجعها لزرع روح الشجاعة في الأبناء، ومن هنا فعلينا أن نعود أبنائنا على الحضور في المسيرات، والإعتصامات، وفعاليات الثورة المتنوعة من أجل تعويدهم على مواجهة مختلف الظروف والحالات بأنفسهم، وشحذ عزائمهم، فمن لم يسمع في حياته صوت “قنبلة صوتية” عن قرب، ربما يفقد وعيه من الخوف لو واجه ظروف مواجهة صعبة. فينبغي مشاركة الشعب والثوار في صناعة حاضرهم ومستقبلهم.

لقد أرتنا ثورة الحسين (عليه السلام) نماذج شامخة في الفداء والبطولة والفداء، نماذج صنعت لنا الشهيد الحبيب علي بدّاح (رض)، الذي رُضّض جسده الطاهر، وهُشّمت عظامه بسيارات الوحوش عديمي الرحمة، والذي كان يتقدم رفاقه الأحرار – كما أظهر التصوير – في سبيل الدفاع عن دينه وكرامة شعبه ضد أولئك المرتزقة الأوباش!

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين (عليه السلام).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى