دروس من تجربة الشهيد رضا الغسرة
قرأت رواية الشهيد رضا الغسرة (رحمه الله) يرويها “لزفرات” ولا زلت منذ زمن معجبا بهذا الشهيد وصفاته الإيمانية والنفسية العظيمة، وهو ما يزيدني اعتقادا بشبابنا وأن فيهم من الخصال ما تكشف عنها الأحداث والوقائع المريرة، لا ما تحكيه الشعارات والاستعراضات الفارغة، وهذا بزعمي أمر طبيعي في بيئة نهلت محبة النبي وأهل بيته (صلوات الله عليهم) منذ الأزل، ونبتت طينتهم من عذب التوحيد، وهذا بعض ما استوقفني في شخصيته، لا مدعيا أنه نبي مرسل، ولكنها تجربة وقدوة تستحق الاستفادة:
الصفات الإيمانية
على المستوى الأولي فإن القارئ لكلمات الشهيد تستوقفه مفردات متعددة، منها: الصلاة، الصوم، الاستشهاد، الله، الجنة، الشهادة لله، التوسل، الإمام الحسين، زيارة عاشوراء وغيرها، وهي كلمات مفتاحية تكشف لك عن نظام عمل هذه القلوب الطاهرة، طاهرة بمعنى: أنها استطاعت في ظل إغراءات الواقع أن تحافظ على انتمائها ولا تتنازل عنه، هذا أولا.
وثانيا: أن طريق الشهداء يميز بين الزيف والادعاء، وبين الواقع والحقيقة، وذلك لما تراه في أفعالهم وسلوكياتهم؛ من الترفع، والإغضاء، والمحبة، والتلهف على الآخرين، والدموع، والتضحية، والتي ختمها شهيدنا بعيدا عن الأضواء في عرض البحر. هذا ما يعني أنه قطع طريق المزايدة والمناكفة في الفراغ من خلال سلوك الارتباط بالله عملا، وبذلك قدم نفسه قربانا بين يدي خالقه، وهذه درجة من درجات الإيمان لا يعلمها إلا رب هذه القلوب المحيط بتصرفاتها.
“الشهادة” حديث مع النفس
واحدة من أروع المقاطع التي بثها من بين جوانح العزة تكشف لك عن واقعية هذا المقام: لن أسكت عن أي مجرم يقوم بالاعتداء علي، وأن أطلب الشهادة، وأرجو أن أصبر وأثبت في الدرب، كنت أطلب من الله تعالى أن يلهمني الصبر، وأن يهبني منزلة الشهداء.. ولكن إحساسا يخالطني في تلك اللحظة يشبه الحزن: ربما لم أكن مستحقا للشهادة لضعف اعتراني، أو تردد خالجني، وقدر الله وما شاء فعل.
التوسل بأهل البيت
ربما يكون الدعاء والتوسل في هذه الظروف شيئا طبيعيا، ولكن ليس من الطبيعي أن تتولد هذه العلاقة والارتباط من فراغ: لم نكن نملك إلا الدعاء والتضرع لله سبحانه وتعالى، توجهنا إلى الله بأن يربط على القلوب، ويهون المصاب، ويكشف الكرب والبلاء. كنت أدعو إلى جانب قراءة زيارة عاشوراء التي كنت مواظبا على قراءتها، وعيوني تنهمر بالدموع على حال الشباب. الحزن لبس كل كياني، وكلما مررت على كلمة “الظلم” في الدعاء، أو “الحسين” في الزيارة، وفقرة “الظالمين لكم ولأشياعكم” أنفجر بالبكاء، وأتجرع الألم متوسلا بأن يخلص الشباب من أيدي الوحوش التي تتشفى بتعذيبهم فقط لأن في قلوبهم حب أهل البيت عليهم السلام وبسبب انتمائهم لمذهب التشيع.
هذا الارتباط الثابت في قلب الشهيد كان يمثل اعتقادا راسخا، لأن الكثير ممن يتوسل سرعان ما ينسى هذا الارتباط الطارئ في فترة الحاجة، ولكن من يعيش حالة من الاستقرار في الاعتقاد ربما تراه يبرر كل شيء ويفسره وفقا لهذا الاعتقاد، وهكذا كان إيمان الشهيد رضا: لست أنسى أن هروبنا الأول من سجن جو نجح رغم التعقيدات الكثيرة. وكان سر نجاح عملية هروبنا هو توسلنا بأهل البيت عليهم السلام، كنا قد عملنا وخططنا واجتهدنا، ولكن التوفيق كان بالتوكل على الله سبحانه وتعالى، والتوسل بأهل البيت عليهم السلام الذين كان ظلهم معنا. وحين تم إلقاء القبض علينا بعدها، كنت أقول في نفسي: “لعل ذلك لخير لا نعلمه” وفعلا تبينت لي الحكمة بعد هروبنا الأخير في الأول من يناير 2017م.
التربة الحسينية
لدي علاقة خاصة مع التربة الحسينية. يمكن أن أقول إنها علاقة “حساسة”، حيث لا أحتمل حتى من الشباب أن يداس عليها بالخطأ. ينتابني شعور غاضب، وأفقد أعصابي حين يحصل ذلك، لشدة تعلقي بتربة الإمام الحسين عليه السلام.
الشهادة لله
لم تغب هذه الخصلة الإيمانية العظيمة وهي الصدق والأمانة عن كلمات الشهيد عندما جاء الضباط الإماراتيون لتعذيب الشهيد عباس السميع المتهم بقتل الشرطي الإماراتي طارق الشحي، الشهادة لم تكن لمكسب ولا منصب ولا حتى للتاريخ، وإنما لله: ابن عم الشحي، وأنا أقدم شهادتي لله، أتذكر شكله جيدا، وقد قال: “أنا لا أريد منهم شيئا” وأضاف: “خل القضاء يأخذ مجراه” كما طلب من الضباط عدم التعرض لهم. لكن ضابطا إماراتيا آخر قصير القامة، ويبدو عليه أنه من أصول يمنية، اعترض على كلام ابن عم الشحي، وقال: “لا أنا أراويهم هذلين”.
الصوم ومعرفة الصفات الحميدة
المواظبة على الصيام المستحب، وكذلك معرفة الصفات الحميدة، ولا أعني بذلك معرفتها كألفاظ فإن الكل يتلفظ بها، وإنما أعني المعرفة كشعور، يعني أن الشهيد رضا كان يتأمل ويستكشف ويقارن ما يجده في الشهيد علي السنكيس مثلا مع ما يعتقد به في قرارة نفسه من صفات حميدة وأخلاق وقيم، اقرأ معي هذا المقطع: الشهيد علي ورغم صغر سنه، دخل تجربة قاسية تفوق عمره، ولكنه أثبت أنه رجل وجدير بالنجاح. لمست فيه الذكاء. كان مثالا للصفات والخصال الحميدة. في شهر رجب كان يصوم معنا، رغم معاناته من نقص فيتامين (د)، لكنه كان يأبى إلا أن يشاركنا، رغم أنه كان يسقط مغميا عليه أكثر من مرة.
الاعتزاز بالهوية
في حديثه عن اقتحام المرتزقة واستيلائهم على المبنى في أحداث 10 مارس الدامية، يقول الشهيد رضا: استخدمت قوات المرتزقة حينها سلما طويلا لتجاوز السلك الواقع بين جدار المبنى في الساحة الخارجية، وهم مستمرون في سبنا وشتمنا والتهجم على عقائدنا، ونحن نرد عليهم: “نحن أبناء علي وشيعته” وكنا نردد “الهوسات” الحماسية والدينية التي تقوي عزيمتنا، وتبدي اعتزازنا بالدين وبالتشيع. أذكر من بين “الهوسات” التي كنت قد رددتها في تلك الأثناء، وبشكل جماعي: “نحن أنصار الزكية.. كيف لا نهوى المنية.
الإيثار
في حديثه عن التمييز ضد أهل البحرين الشيعة حتى في داخل السجون ذكر أن السجانين أنزلوا الشهيد سامي مشيمع من سريره ليحل محله النزيل الجديد من الجنسية البنغالية، فيقول في موضع آخر متحدثا عن دخول أحد المرتزقة عليهم: >كنت وقتها مستلقيا؛ نصف جسمي على الأرض والنصف الآخر على السرير، والسبب في ذلك أنهم بعد أن قالوا للشهيد سامي مشيمع أن يفرغ سريره العلوي للبنغالي (النزيل الجديد الذي جاؤوا به بصحبة الشهيد السنكيس) تنازلت عن سريري للشهيد سامي، إلا أن المكان ضيق، فاضطر لأكون بهذه الوضعية.
الحزم والسرعة في اتخاذ القرار
عندما بدأت أصوات الصراخ والتكسير تتعالى، تصور الشهيد أنها مشكلة عادية ولم يعرها ذلك الاهتمام وأراد أن ينام لكنه عرف بأحداث السجن من خلال الأخبار التي وصلته عبر الهاتف المهرب، تصاعدت الأحداث وسيطر السجناء على مبنى3، الشهيد يراقب من خلال بعض الثقوب: في فورة الأحداث سألني الشباب المتجمهر في الخارج عما إذا كنا نريد أن يفتح لنا باب العزل. لم أتردد في الإجابة، وقلت لهم على الفور: “نعم.. افتحوه!”… فتح باب العزل، وخرجت بسرعة لاستكشاف محيط السجن. كنت أرمق البصر في كل الاتجاهات. الخطة الآن هي التفكير في هروب جماعي، وبأكبر عدد ممكن. استعنت ببعض الشباب لمعرفة حجم الاستنفار الأمني.
سرعة رسم الخطط
الكلام لا زال حول التخطيط للهروب: لكي أكون على بينة أكثر من المشهد؛ صعدت إلى سطح المبنى، وتيقنت أن قوات المرتزقة ليست متأهبة للحدث. كان الإرباك يحاصرها من كل الزوايا… خاطبت الشباب وقلت لهم: الهدف يجب أن يكون نحو تكسير القيود، نحو التحرر والحرية، لا ينبغي أن نكتفي فقط بإظهار الاحتجاج في الواقع هذا الكلام من الشهيد حجة كبيرة على الأصوات التي تجعل كل الخيارات مستحيلة وضربا من الخيال، والتي لا ترحم في بعض الأحيان من يفكر في حقه في العيش الكريم والحرية والانعتاق من السجن، يقول بعد أن يذكر الاتفاق على الخطة الأولى: انتقلنا بهدوء ناحية “الكونتر” ولكنه كان مقفلا، وكانت المفاتيح بحوزة بعض السجناء. في هذه الأثناء حدث جدل بين الإخوة، فذهبت ريحنا، وصعبت علينا المهمة وفق الخطة المرسومة. ناقشنا خطة أخرى لمحاولة الهروب ثم يتحدث عن خطة بديلة: لجأنا بعدها إلى أحد أبواب الطوارئ الخلفية، على أمل أن نقوم بذات الخطة المعدة سلفا، وقد تمكن الشباب من تحريك الباب، إلا أن الوقت لم يكن في صالحنا، حيث إن تغيير الخطة الأولى، والتفكير في البدائل، ومضي الوقت في محاولات تكسير الباب؛ كل ذلك مر في ظل محاولة القوات الخليفية تدارك الوضع كسروا الباب ولكن كان بانتظارهم أحد المرتزقة مصوبا سلاحه باتجاه الباب، يقول الشهيد: لا مجال لفقدان الأمل. قلت للشباب وقتها: “بما أنهم تنبهوا لهذا الباب؛ فليبق الشباب في مكانهم، ويتظاهرون بأنهم ما زالوا يحاولون تكسيره للتمويه عليهم” وتوجهت بمعية عدد آخر محاولين فتح منفذ آخر عند البوابة التي تقع عند مكان الحلاقة.
عدم اليأس
يبدو من سياق هذه الشهادة أن شخصية الشهيد رضا الغسرة كانت تتميز عن غيرها بأنها لا تصاب باليأس والإحباط حتى في أحلك الظروف، فبعد فشل المحاولات وانكشاف خطط الهروب لا زال الأمل هو ذات الأمل: كنت أنا وحسين البناء نعمل على خطة للهروب مجددا من سجن جو بعد أن ألقي القبض علينا في العملية السابقة. لم يكن أحد يعلم بها غيرنا، وكنا نعمل بصمت… بعد أن أصبح موضوع الهرب في ذلك اليوم “أمرا مستحيلا” قال لي حسين: “رضا.. لا أعتقد أن خطتنا السرية ستنجح بعد ما حدث اليوم” قلت له: “لا تيأس، ويجب أن نحافظ على خطتنا السرية. لا يجب أن نفقد الأمل.
المقاومة والشجاعة الفريدة
ذكرنا موقفه الذي يقول فيه: لن أسكت عن أي مجرم يقوم بالاعتداء علي يقول مكملا: حرك إحساسي بما حولي ما قام به أحد المرتزقة الذين يقفون خلفي. رفسني بقوة على ظهري. قمت له على الفور وقلت له مهددا: “لا تضرب” رد علي: “شو؟!” قلت له بنبرة أشد: “قلت لك لا تضرب” وجرت مشادة كلامية بيني وبينه، وقام برفع الهراوة وكأنها سيف قاطع وضربني ضربة شديدة على رأسي كادت تغشيني، وانتفخ رأسي بشكل سريع، ولأنها من الأمام فقد شجت جبهتي، ونزف الدم على وجهي وكأني في ساحة حرب. لم ينل ذلك من عزيمتي، وأخذت أصرخ في وجهه وأتحداه، كنت أريد أن أنقض عليه وآخذ بثأر إخوتي. في الأثناء سمع أحد الضباط صراخي العالي، وجاء مسرعا وهو يقول: ” من.. من.. من ذي؟” رآني وأنا أغرق بالدماء وهو يقول: “شفيك رضووا؟” فأجبته: “لماذا يضربني؟” وعقبت مباشرة: “الذي يمد يده علي سأرد عليه بالمثل، ولست خائفا من شيء، وافعلوا ما بوسعكم.. أنا هنا جالس، ولم أرتكب ذنبا أو أعتدي على أحد” وأعدت الكلام مجددا: “إذا اعتدى علي أحد من غير سبب فلن أقبل حتى لو كلفني تمردي حياتي”.
في حديثه عن تكسيرهم للترب الحسينية وتقطيع المسابيح يقول: فصرخت في وجوههم: “أنتم تستهدفوننا لأننا شيعة، وعملكم ليس له علاقة بالتفتيش، ونحن لا نسكت على هذه الإهانة” أخذت أصرخ في وجوههم وأجادلهم بسبب اعتدائهم على المعتقد، وكان الشهيد سامي يحاول تهدئتي حتى لا يقومون بالانتقام بممارسة جريمة أخرى، ولكني رفضت السكوت وقلت بصوت عال وهم يسمعون: “هؤلاء طائفيون، ويجب أن يقفوا عند حدهم” لم أكن في تلك اللحظة مكترثا لعاقبة صراخي عليهم، ولم أضع أي حساب لما سوف يصيبني من الانتقام والتعذيب.
حديثه أيضا حول مقاومة الشتيمة من قبل المرتزق الذي بصق عليه وعلى القرآن، وأن عدم الرضوخ لهم جعلهم يستسلمون.
تكلم عن مرتزق كان يستهدفه، وأراد أن يستفزه ويحلق شعره، وأنه ذهب عنه ثم عاد له ليلا ولكن الإصرار الذي واجهه به الشهيد رضا جعله ينصرف، بل جعله إذا قابله لاحقا يخاطبه: إنت كويس.. إنت محترم.
جاء شرطي للشهيد علي السنكيس وأمره بالخروج لينقله لزنزانة أخرى، رفض علي ذلك، فقال له المرتزق: قوم واجر كفوء رأبتك، يقول الشهيد رضا: نهضت وقتها من مكاني، وقلت للشرطي إيهاب: “مو على كيفك”. فرد علي: “شو..؟” قلت له: “الّلي سمعته.. وعلي ما بيغير الزنزانة.. إلا على قطع رقبتي علي ما بيتحرك” بدأ المرتزق بالصراخ علي، وأنا أرد عليه بالمثل. ثم دخل عليَّ إلى زنزانتي، وأخرجني منها، ثم أخذني بعيدا عن الزنازن، وبحيث لا يسمعنا الشباب، وقال لي: “رضا.. إنت كويس وشخص محترم.
حب الآخرين
مشاعر تذكرنا بالعظماء، وهو كذلك أحدهم، قال عن سماع صوت التعذيب: كنت أسمع أصوات الشباب وهم يتعرضون للضرب والتعذيب الوحشي. كان سماع أصواتهم أقسى من التعذيب نفسه، وكنت أقول في نفسي: “يا ليتني أكون معهم لينالني ما يصيبهم” خرجت روحي إلى عند الشباب، كنت سارحا، ولم أشعر بالمرتزقة المجرمين حولي، وكل شعوري كان موجها نحو الشباب.
السجين السني
لم يحمل رضا في صدره غلا تجاه من يختلف معه في المذهب، حاله كحال بقية البحرانيين المعروفين بالتسامح والطيبة، بعد أن كسر المرتزقة أغراض رضا وإخوته المعتقلين وجرت المجادلة بين رضا وبينهم، بعدها توجه المرتزق لزنزانة السجين السني، يقول رضا: واصلت في الجدال معهم بشأن كسرهم للترب وتمزيقهم الكتب، وقلت له: “هؤلاء سنة، احذر أن تهجم عليهم مثل ما هجمت علينا نحن الشيعة”… قلت لهم في الأثناء: “نحن لسنا طائفيين مثلكم، وليس لدينا مشكلة مع السنة، واسألهم إن كنا أسأنا لهم أو تعرض أحد لهم بأذى.. أنتم الذين تثيرون الأحقاد بهذا الاستهداف، ولكن لن تبلغوا منالكم” وأضفت: “نحن سلم لمن سالمنا، وحرب لمن حاربنا”.
علي السنكيس
السجن يجبرك على أن تكون أخا عطوفا ترحم من هو أصغر منك سنا، لكن رضا تحول إلى أخ وأب وأم، طيبته تذكرك بعاطفة بني جمرة ولوعة أمهاتها، وآهات الجمارة المصبوبة في جمرات الملا عطية. وصل علي السنكيس، على أي حالة؟: حين أدخلوا الشهيد علي ورأيته على تلك الحال؛ كسرَ قلبي منظرُه، وآلمني كثيرا. تعمدوا إهانته وأحضروه وهو يرتدي ثيابا أكبر من حجمه… في بداية الأمر وضعوا الشهيد في القاعة الخارجية… ناديته وطلبت منه أن يقترب منا…. إلا أنني طمأنته، وجاء قربي وسألته عن حاله. المأساة لم تكن خافية، كان كل شيء ظاهرا على جسده ووجهه. إلا أن الشهيد كان صابرا محتسبا، ورابط الجأش. قال لي ممازحا وهو في تلك الحالة العصيبة: “أنا بخير” ثم أضاف وهو يبتسم: “ضربوني.. ضربة شامليدر وباليز وجاؤوا بي..” حاولت أن أخفف عليه وأنسيه جراحه، وقلت له: “لا تقلق نحن معك، سوف نزودك ببعض الملابس لكي تستحم وتمسح بعض آثار العذاب”.
الصدق والتواضع
ما يشعرك بأن الشهيد رضا يتعامل مع الله، ولا يتعامل مع الأضواء، هو أنه لم يكن يصور نفسه خالية من التأثر والانفعال حاله حال البشر، فالرواية مطبوعة بالواقعية والصدق والتواضع أيضا كما سيتبين. بعد مشاهدة تعذيب المرتزق الباكستاني الغليظ للمعتقل سعيد الإسكافي في 2011م، بين رضا أنه تعلم من شجاعة سعيد واستفاد منها، وبيّن ما كان يعتريه ويعتري غيره من الترقب عندما يقبل عليهم ذلك المرتزق الباكستاني الذي لا يعرف قلبه الرحمة: كنت أنا واحدا من الذين يخشون بطش هذا الجلاد، ويصيبني ما يعتري غيري حين تهب ريحه القذرة. لكن الإسكافي غير في نفسي الكثير. لقد انبرى سعيد على الجلاد الوحش، وصرخ عليه بصوت ملؤه الإباء، حتى تحول الوحش إلى فأر مرعوب، وقلبَ لسانه المليء بالشتائم إلى مدح إلى الإسكافي وتملّق.
تحليل نفسي
ثم يتوقف مع تحليل شخصيات هؤلاء المرتزقة وأنهم جبناء وأن طبع الجبان هو الاستضعاف للآخرين، بسبب عقدة النقص التي تسري في عروقهم، وأما الشجاع فلا يعتدي على المقيد بالأصفاد.. في الواقع إن هذا الفهم النفسي يعد خبرة اجتماعية هامة ربما تستوقف الكثيرين، ففي الجانب التربوي تبرز أمامنا كثير من التساؤلات من هذا القبيل: لماذا يقوم بعض الأشخاص باستضعاف الآخرين؟ وما هو منشأ هذا الاستضعاف؟ مع أن ظاهرهم حسن.. هذا التحليل من قبل الشهيد يستحق التأمل والتوقف لطبيعة النفوس والعوامل المؤثرة فيها.
قرار الشجاع المتواضع
اتخذ الشهيد الشجاع قراره بالتعلم من الإسكافي والاستفادة من تجربته: منذ ذلك اليوم قررت أن أتصرف بأخلاق الشجعان النبلاء، وأن أتعامل معهم كما كان يفعل المعتقل سعيد الإسكافي. هذا الأمر ومع مرور الأيام زرع في داخلي مزيدا من الشجاعة، وجعلني أواجه الخوف بالتمرد والتحدي.
تعلمت من علي السنكيس
لا يستنكف الشهيد رضا عن بيان الواقع، وأنه مع كونه أكبر سنا من الشهيد علي، ومع كونه يقدم له النصح، إلا أنه مع ذلك كان يستفيد من خصال علي وأخلاقه، وقد سبق وأشرنا إلى ما رآه في شخصية الشهيد علي من خصال حميدة: تعلقت بالشهيد علي السنكيس وتعلق بي كثيرا، وكنت أخاف عليه، وأحاول أن أساعده وأسدي له النصيحة في مختلف الأمور. وبسبب العلاقة الخاصة التي ربطتني به؛ فقد كنت أوبّخه إن فعل خطأ ما. لقد تعلمت منه وتعلم مني.
دروس من تجربة الشهيد رضا
التجارب المريرة التي مر بها شهيدنا الغسرة أعطته من الخبرة والوعي الشيء الكثير والذي تجاوز عمره، ويمكن الإشارة إلى بعضها:
- إباء الذل
في حديثه عن المعتقل سعيد الإسكافي يبين الشهيد خبرة مكتسبة، بذل في إزاء تعلمها أمنه وحريته ومن ثم حياته، وهي أن الاستكانة والتراخي تؤدي إلى مزيد من الاستضعاف، ونقطة على السطر: بقينا على هذه الحال، نتعرض كل ليلة للهجوم من قبل القوات. لكننا كنا نرد عليهم، وهو أمر تعلمته منذ فترة الطوارئ. “الذي يستجيب لهم يتعرض لمزيد من الاستضعاف والذل، لكن من يتمرد عليهم يفرض احترامه، حتى ولو تعرض لتعذيب مضاعف في بداية الأمر”.
- المحافظة على المكتسبات
يقول الشهيد رضا: ورغم ما كان يصيبنا من تعذيب؛ فقد كنا نتمرد ولا نلوذ بالسكوت، ونرد أي أذى يلحق بنا. وقد دفع ذلك المرتزقة ومسؤوليهم إلى التورع عنا. أقول ذلك عن تجاربَ عايشتها وعاينتها، وكنت جزءا منها.
بعد حديثه عن منع الحريات عند الأعداد الكبيرة، مرجعا ذلك إلى التسليم بالواقع والسكوت عنه -ولست معنيا هنا بتقييم نظرته لما جرى في تلك المباني الأخرى، بقدر ما يعنيني الاستفادة من تجربته وتجربة المعتقلين معه في مبنى العزل- يعود ليتكلم عن مبنى العزل الذي هم فيه: كنا الوحيدين الذين لم نقطع رفع الأذان، أو إحياء الشعائر الدينية، بخلاف ما جرى في المباني الأخرى التي تعرضت للهجوم، وفرضت عليها القوانين الجائرة. كنا قد تعرضنا للتعذيب، وتم تهديدنا والاعتداء علينا، لكننا –مثل رجل واحد- تمسكنا بحقنا في ممارسة الشعائر. لقد كانت ثمرة الصمود هو الحفاظ على حقنا، وعدم التفريط به حتى على مستوى التعذيب؛ بفضل الله وثبات الأقدام لم يتم التعرض لنا كما أصاب بقية السجناء في المباني الأخرى.
- شهادة على إفلات الجناة الحقيقيين
تكلم عن المعتقل من غير الشيعة، وبين قضيته وكيفية التعاطي معه في القضاء والسجن، وهذه شهادة واضحة على حجم الظلامة التي تحيق بالآلاف من المعتقلين على خلفية التعبير عن الرأي أو ممارسة العمل السياسي، في مقابل خلاص من يقوم بجانية بهذا الحجم: كان هذا المرتزق يريد أن ينقل الشهيد علي السنكيس مكان السجين فهد، وكانت قضيته قتل تايلندية والتمثيل بها قبل حرقها. لقد ارتكب جريمة فظيعة. والده يعمل فيما يسمى جهاز الحرس الوطني، وإذا عرف السبب بطل العجب! فقد تم تغيير حكمه في محكمة الاستئناف إلى مؤبد. وفي محكمة التمييز خفف الحكم إلى 15 سنة. وهو الآن ينتظر مكرمة للإفراج عنه.
- العمل خير من الجمود
ربما لا أجد في رواية رضا حديثا مفصلا عن المرأة التي اعتقلت وأثارت أحداث 15 مارس، وإنما أراه قد انخرط مباشرة في خطة الهروب، ولا أعزو ذلك إلى الأنانية بل إلى الواقعية، بخلاف أدائنا في كثير من الأحيان حينما نقتصر على الصدمة، ولا نجد غير التفصيل في كيفية انتهاك الضحية وشيئا كثيرا من تفاصيل انتهاك العرض المخلة، الواقعية تعني أن تتجاوز الصدمة وأن تقدم ما يمكن تقديمه، الوقت كان قصيرا جدا، بدرجة أنه لم يسعفهم في الفرار، والفرار لا شك أنه سيكون سببا لممارسة دور أكثر فاعلية وهم في الخارج، لاسيما وأنهم إنما اعتقلوا من أجل دفاعهم عن الحرمات ورفضا لانتهاك الأعراض.
- الدرس الكبير من تجربة الشهيد رضا الغسرة
نختم بهذه الكلمة للشهيد: تحدينا وواجهنا، وثبتنا، ووقفنا، وتعاونا، وراهن الأردنيون على كسرنا، ولكنهم خابوا. قالوا بأن الأبواب لن تفتح، ولكنها فتحت رغما عن أنوفهم. راهنوا على منع العزاء، لكننا أبينا إلا أن نرفع راية الحق، مهما كانت الأخطار. واستمات الأردنيون لمنع رفع الأذان ونداء “أشهد أن عليا ولي الله”، لكن صوت الحق كان يشق عنان السماء.
وآخر كلمة لخص فيها تجربته في السجن: إن السجن ليس نهاية، إنما هو امتحان.. والدرس الكبير الذي ألخص به تجربة السجن هو أن حقوقنا لم تكن عطية من أحد، وإنما انتزعناها بصمود، وثبات، وتحدٍّ، وتحمُّل وصبر، ومقاومة.
رحمك الله يا رضا، أشهد أنك كنت -بحق- كرّاراً غير فرّار، أبيَّ الضيم فسلام الله عليك حيّاً في الدنيا والآخرة.
والحمد لله رب العالمين.