التفاهم الإيراني السعودي الخلفيات والتداعيات (تحليل واستنتاج)

بعد 7 سنوات من المغامرة وسنة من المماطلة على مستوى الاقليم رضخت السعودية أخيراً لمنطق الدبلوماسية الايرانية وبدأت العمل على إنجاز خارطة طريق واضحة للملفات العالقة بين البلدين منذ انتصار الثورة عام 1979.
تراكم التفاصيل والاشكالات المفتعلة من قبل السعودية فرض على الطرفين علاقة شك، لا سيما وأن الرياض استخدمت لأكثر من 40 عاماً وسائل شتى لكبح التصاعد الطبيعي للوزن النوعي الايراني منها وأخطرها وسيلتي القومية والعامل المذهبي إلى جانب استهداف بؤر المقاومة والتحرر في المنطقة، حيث أرسلت أكثر من خمسة آلاف انتحاري إلى سوريا والعراق، إلى جانب عشرات آلاف المقاتلين الذين ساهموا تحت شعارات الوهابية في الحرب الدولية على البلدين.
كانت العلاقات قبل قطعها عام 2015 محكومة بالصبر الاستراتيجي الايراني الذي ينظر إلى الشركاء في الخليج بعين التكامل على مستوى الجوار والوحدة على مستوى العالم الاسلامي والذي تمثل الدولتان (السعودية وإيران عنصري ثقل نوعي فيه يجعل الكتلة الاسلامية في العالم لاعباً دولياً أساسياً. إلا أن الرياض تعاملت منهجًا مع إيران منذ انتصار الثورة في شباط 1979 على أنها نقيضها المذهبي والقومي والعرقي ومنافسها الرئيسي على زعامة العالم الاسلامي ومن هذه النظرة الخاطئة ساهمت الرياض في تمويل الحرب المفروضة على إيران واستخدمت للتشويش على الثورة الفتية معظم قدرة أدواتها الناعمة كما ألزمت الرياض بالدخول في تحالفات مدمرة للقوى النوعية الاقليمية حيث اتكات على الغرب وزعيمته الولايات المتحدة لصياغة مفهوم مشوه للأمن الاقليمي جعل المنطقة عرضة للتوتر والنزاع طيلة 44 سنة.
تطورت السياسة السعودية بعد العام 2010 من ممارس لاستراتيجية ناعمة على مستوى الديبلوماسية والاقتصاد والنفط والاعلام والدعوة الاسلامية إلى لاعب منغمس في حرب خشنة في معظم الإقليم، ومنذ العام 2015 سعت السعودية إلى تأكيد نفوذها القيادي الاقليمي في المنطقة مستفيدة مما في يديها من أسلحة.
مع مجيء النظام السعودي الجديد الذي تزعمه الملك سلمان وابنه محمد تنامى الشعور الزائف بسطوة القوة المدعومة من نظام متطرف في واشنطن يرأسه ترامب أوجه عندما دعمت السعودية منظمات إرهابية متطرفة للقيام بعمليات إرهابية داخل إيران، حيث اعتبرت السعودية أنه يمكنها التأثير على إيران من خلال هذا الاسلوب وفي الطريق إلى ذلك مارست السياسة السعودية كل ما يمكنها لمحاولة عزل ايران والتخريب على سياساتها الخارجية بدءاً من محاولة تعطيل أي فرصة للتفاوض حول البرنامج النووي الايراني وصولاً إلى تمويل جماعات ضغط في برلمانات أوروبا والولايات المتحدة وكندا لاستصدار كل ما يمكن أن يضر بسياسات إيران الخارجية.
في المقابل ومنذ رئاسة الرئيس الراحل هاشمي رفسنجاني في بداية التسعينات مروراً برئاسات السيد محمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد وحسن روحاني وصولاً إلى الرئاسة الحالية السيد ابراهيم رئيسي كانت الدبلوماسية الايرانية ومؤسسات القرار الاستراتيجي الايراني تصر على أن بين الجوار الخليجي مقومات للتفاهم التوافق الطويل الامد وأن محاولات تغيير وجه المنطقة باتجاه أعدائها الخارجيين الولايات المتحدة والكيان المؤقت وحلفائهما هي محاولات خاطئة وتحمل بذور فشلها وتدفع بموارد المنطقة المادية والبشرية إلى النزيف الدائم وبلغت محاولات لجم السياسات السعودية المغامرة أكثر من 25 مرة تحملت خلالها مجزرتين موصوفتين في موسمي الحاج عامي 1987 و 2015 راح ضحيتهما مئات الإيرانيين كما ضمتت على عدد كبير من الاحتكاكات في الخليج كانت تعمد فيها سفن وزوارق عسكرية سعودية التحرش بالبحرية الإيرانية التي كانت ترعب البحرية الأمريكية وتؤدبها في الخليج إلا أنها كانت تتعامل مع البحرية السعودية المشاغبة معاملة حسن الجوار مزودة بتعليمات عليا بعدم الانجرار إلى أي إشكال مع الزوارق والسفن العسكرية السعودية.
حمت إيران اليمن وسيادتها المنتهكة من قوى العدوان كما دافعت عن قراراتها وخياراتها في حرب ظالمة مفروضة استمرت 7 سنوات ودافعت من اليوم الأول عن الحق اليمني وعن القرار السياسي اليمني معتبرة أن حل الازمة اليمنية يبدأ بوقف العدوان واعتماد الحوار ورفع الحصار الظالم عن اليمنيين. كما حمت السيادة وحرية القرار السوري بمواجهة حرب كونية مولتها السعودية وفعلت نفس الشيء بوجه التدخلات السعودية في العراق ولبنان ناصحة الرياض بالتراجع عن سياساتها وتطبيع الأوضاع مع أصحاب العلاقة أنفسهم، ورغم أن كل محاولات التدخل السعودي في الاقليم كانت فاشلة وكلفت السعودية كثيراً إلا أن إيران بقيت تمارس دور الناصح مستغلة أي فرصة للتقارب لتتقدم باتجاه السعوديين حاملة حبل نجاة لهم من أزماتهم التي أغرقوا أنفسهم فيها واستعصوا عن الحل بفعل العناد وأمل تحقيق نجاحات في يوم ما، أظهرت الاحداث وتطورها السريع أنه صعب المنال ولا يمكن إدراكه.
في المقابل انشغلت مؤسسة القرار السعودي بمعارك جانبية ضد طهران في سوريا ولبنان والعراق واليمن وفلسطين وما كانت تعتبره السعودية صراعاً مع إيران في الاقليم تبين لصانع القرار السعودي مع الزمن أنه صراعات محلية مع قوى وطنية استطاعت في معظم المعارك ان تهزم الاندفاعة السعودية الخشنة المباشرة في بلدانها كما في اليمن وبالواسطة كما في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين.
أثخنت جراح التورط بالإقليم السعودية وكان أكثرها إيلاماً الجرح اليمني وساهمت حكمة القيادة اليمنية المنطلقة من خوضها حرباً دفاعية ضد السعودية بمد أول حبل للنجاة لجارتها المعتدية مستجيبة ينبل لتراجع الخيلاء والتسلط السعودي عندما أقرت الرياض أنها هزمت في اليمن، وكان الدافع للمرحلة الأولى من تهدئة الأجواء تصرف القيادة اليمنية تصرف الفرسان مع عروض الهدنة المدعومة بوعود التطبيع الأوضاع وترك اليمنيين وشأنهم.
كما سعت السعودية بصمت المثخن بجراحه لإطفاء فتائل التفجير التي أشعلتها في العراق وسوريا، أما في لبنان وفلسطين فلم يكن لها نفس النفوذ والتأثير المباشر كما في ملفات اليمن والعراق وسوريا بفعل مشاركتها لعدة قوى إقليمية وأجنبية في التوتر المضبوط في لبنان وفلسطين والذي يتحكم اللاعب المحلي أي المقاومة بعظم أور الله.
كانت كل خطوة تخطوها السعودية تجاه تهدئة النيران التي ساهمت بإشعالها في الاقليم تواكبها خطوة ايجابية سعودية في ملف العلاقات الايرانية السعودية حتى تجاوزت الرياض نسبة تفوق عن 80% من مشاكلها المفتعلة في الاقليم. فكانت الخطوة الطبيعية لذلك التحول تسارعاً في تطبيع الاوضاع مع إيران حيث أن معظم الملفات المشكلة التي كانت تعيق التقارب كانت من صنع السعودية نفسها.
وقد ساهم الانقلاب في السياسة والجيوبوليتيك العالمي الناتج عن تداعيات الحرب الاوكرانية الروسية وتورط الغرب كله في تلك الحرب بنزع ألغام كثيرة من أمام السعودية كما ساهم رفض السعودية التطبيع العلني مع العدو حتى الآن، مساهمة كبيرة في تسارع خطوات التقارب الايراني – السعودي، فكان لا بد من الاعلان عن التقارب والتفاهم، حيث أن قيوداً كثيرة كانت تربط الرياض لم يعد لها وجود تقريباً خلال العام المنصرم بسبب الحرب الأوكرانية وبسبب تراجع الاهتمام الامريكي في منطقة غرب آسيا أو إذا جاز التعبير تراجع التورط الأمريكي المكثف في المنطقة.
على مستوى آخر، توجه بن سلمان إلى تعديل بنيوي ودبلوماسي، فعلى صعيد الداخل فكك البنية الوهابية وأضعفها بشتى السبل وفتح المجال لمسار ثقافي ليبرالي متسارع ليقدم السعودية كبلد متقدم ومنفتح على الجميع بدون قيود، دون أن يخسر الحماية والدعم الأمريكي، ويتفتح دبلوماسياً واقتصادياً على الصين وروسيا، ويخفف من اتفاق الأموال في الصراعات الإقليمية، ووضع قيداً لصرف الميزانيات يشرط وجود منفعة اقتصادية مباشرة لخزينة الدولة، وذلك بعد التراجع الاقتصادي الكبير الناتج عن تمويل الحروب في سوريا والعراق واليمن وتضرر صورة الدولة الآمنة للاستثمار بفعل الحرب الطويلة في اليمن، في وقت تصعد فيه الامارات وقطر اقتصادياً كمنافس قريب ومتحفز وبذلك أعطت رؤية بن سلمان المبنية على أساس شعار السعودية أولاً دفعاً للاقتراب من إيران وتجاوز التحريض الأمريكي والصهيوني الذي ساهم في توتير العلاقات السعودية الإيرانية منذ 1979، لينتقل إلى مقاربة أكثر ذكاءً تفتح له المجال للعب دور حيوي واستغلال الفرص الإقليمية عبر تخفيف المعارضة الإيرانية للحركة السعودية
ختاماً فإن المشكلة في قطع العلاقات السعودية الايرانية لم تكن يوماً عند إيران أو بسبب إيران بل كانت بسبب تراكم الاخطاء السعودية والناتجة عن الاستراتيجيات الخاطئة التي اتبعتها منذ انتصار الثورة عام 1979.
لقد استفادت السعودية من لحظة تراجع أمريكي صهيوني في المنطقة ومن فتحها لخيار شرقي تجاه روسيا والصين وقامت بأجرأ قرار لها في العقود الخمسة المنصرمة حيث وافقت على اعادة العلاقات مع إيران بصيغة اعدتها الصين وعنت بشكلها أن الامر يتجاوز تطبيع العلاقات إلى أبعد من ذلك بكثير وهو ما قد يظهر تباعاً من خلال نتائجه التي ستنعكس إيجاباً على اليمن بدرجة أولى بما يفتح المجال للتفاهم حول الملفات العالقة في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان وافغانستان والبحرين وما هذه البداية إلا تعبير على فيا أن المنطقة تتجه إلى تحولات جديدة قد تعيد للمنطقة استقرارها وحضورها بين القوى التي تشكل العالم بعدما أصيبت الأحادية الامريكية بوهن عضال سينتج عنه حتماً عالم متعدد الاقطاب ستكون منطقة غرب آسيا بمواردها وامكانياتها وتحالفاتها في صدارة القوى التي ستشكل العالم ما بعد الأحادية.
تحليل واستنتاج:
1- إن تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية بالشكل الذي أنجزت بداياته في بكين سيؤثر على الخلافات والتوترات المذهبية التي تجتاح المنطقة ويفرض عليها التراجع النسبي.
2- ان تطبيع العلاقات السعودية الايرانية رسالة للعالم الاسلامي بأن الخلاف بين الطرفين لم يكن مذهبياً بل كان سياسياً مما سيفتح الباب أمام علاقات أقوى بين إيران والعالم الاسلامي.
3- إن تطبيع العلاقات السعودية الايرانية إذا أدى إلى التناغم والتنسيق في سياسات الدولتين الاكبر في غرب آسيا، على أساس التوازن المستقر، سيفرض على أي قوة أجنبية دخيلة المرور القسري من البوابة السعودية الايرانية إلى المنطقة.
4- إن تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية في حال استمر كفيل في المستقبل بتخفيف فعالية تحالفات السعودية العسكرية مع الغرب وصعوبة توظيفها ضد إيران ودول الإقليم.
5- ان الرعاية الصينية لتطبيع العلاقات السعودية الايرانية سيفسح المجال لكل دول المنطقة بالتفكير عميقاً بالتفلت من الهيمنة الأمريكية والغربية والاتجاه شرقاً مما سيعني ازدهاراً أكبر في الاقتصاديات التي تسعى واشنطن والغرب لتدميرها وتطوراً هاماً في امتلاك التكنولوجيا الصينية المتقدمة التي يحجب الغرب بعض مستوياتها الحساسة عن دول المنطقة.
6- ان اطمئنان السعودية لموقعها الاقليمي والعالمي في حال تم تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية سيخفض كلفة التسلح الكبيرة التي تصرفها السعودية على الأسلحة الغربية ويحول هذه الاموال باتجاه التنمية وتطوير المشاريع ذات الطابع المدني.
7- ان تراجع التوتر والحملات بين السعودية وايران نتيجة لتطبيع العلاقات بين البلدين الكبيرين سيخفض كلفة الدعاية الاعلامية المضادة والهجومية التي تمارسها السعودية على إيران منذ انتصار الثورة عام 1979.
8- ان تراجع التوتر نتيجة للتطبيع السعودي الايراني قد يفرض على السعودية إعادة النظر في الاموال الهائلة التي تهدرها على قوى وجماعات سياسية ومسلحة في الاقليم دون فائدة.
9- ان تطبيع العلاقات السعودية الايرانية سيعيد موسم الحج إلى طبيعته السابقة مناسبة للتعبد وقضاء المناسك.
10- ان تطبيع العلاقات السعودية الإيرانية سيساهم في اطفاء معظم الحرائق التي افتعلتها السعودية في المنطقة بما فيها العراق اليمن سوريا لبنان.
11- ان تطبيع العلاقات السعودية الايرانية سيعيد الامارات وقطر إلى حجمهما الطبيعي بعد الفقاعتين اللتين عاشت فيهما الدولتان طيلة 10 سنوات ومارستا منهما جنون العظمة بما يكفي وستجد الدولتين الصغيرتين نفسهما مرغمتين للدخول حسب احجامهما الطبيعية في أي تجمع أو صيغة اقليمية في المستقبل.
12- إن تجاوز السعودية للخلاف مع الجمهورية الإسلامية سيفتح لها المجال للتقدم والاختراق في دول المنطقة، وفي الساحات التي كانت محرمة عليها بفعل موقفها المتشنج وسلوكها العدائي.
13- ان تطبيع العلاقات السعودية الايرانية سيسهم في تحرير مصر من قيدها الاماراتي ويسمح لها بالدخول في شراكة مع إيران.
14- ان تطبيع العلاقات السعودية – الإيرانية سيسهم في إعادة سوريا والعراق تدريجياً إلى دورهما الكبير الذي كانتا تلعبانه في المنطقة.
15- إن تطبيع العلاقات السعودية الايرانية واطفاء الحرائق الاقليمية الذي سينتج عنه سيخفف عن إيران تدريجياً عبء الأزمات المختلفة ويفرغها المهمة تحرير فلسطين.
16- ان تطبيع العلاقات السعودية الايرانية سيجعل محور المقاومة القوة الاعظم في المنطقة وسيفتح له المجال للتفرغ كلياً لتحرير فلسطين بعيداً كل المشاكل التي كانت تثقله.
17- ان التطبيع في العلاقات السعودية الايرانية سيخفف بشكل كبير من عمليات الضغط الاقتصادي والحصار الاقصى على إيران.