دراسات سياسية

الحشد الشعبي كابوس إسرائيلي جديد

    توطئة

    لم تتمنّ “إسرائيل” أن يحصل في العراق أكثر ممّا حصل خلال وبعد الغزو الأميركي المدمّر له في مارس/آ1ار من العام 2003، حيث غرق هذا البلد العربي – والذي لا يمتلك حدوداً مع “إسرائيل”، لكنه شكّل مصدر قلق دائم لها منذ عقود – في بحور من الدماء التي أسالتها قوات الاحتلال الأميركي، أو هي أسهمت في إسالتها بواسطة جماعات تكفيرية كان للولايات المتحدة دور أساسي في إنشائها وتنظيمها وتمويلها، أو أنها جيّرتها لاحقاً في خدمة أهدافها التوسعية في المنطقة.

    وعلى الرغم من عدم تورّط “إسرائيل” بشكل مباشر في الأحداث العراقية منذ الغزو الأميركي، وذلك لإبعاد نفسها عن أي انعكاسات غير ضرورية، لكنها سعت منذ البداية لتأجيج الأوضاع في هذا البلد، عبر دعم المشروع الأميركي فيه بكلّ الوسائل المتاحة، وعلى قاعدة أن الأهداف الأميركية والإسرائيلية شبه متطابقة تجاه العراق ودول المنطقة عموماً.

    واللافت هنا أنه مقابل الدور الإسرائيلي المختبئ خلف التدخل العسكري الأميركي في العراق في تلك المرحلة، لم تتعرّض الجماعات التكفيرية هناك لإسرائيل بشكل مباشر، وظلّ تركيزها منذ ظهورها بعيد الغزو الأميركي، على مواجهة قوات الاحتلال، والشيعة وإيران، تحت ذريعة طرد الاحتلال وأدواته من البلاد ومن كلّ المنطقة!

    وهذا التوصيف ينطبق على جماعة أبو مصعب الزرقاوي (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين) ومن خَلِفه، وصولاً إلى أبو بكر البغدادي، وتنظيمه الإرهابي(داعش)، والذي بدأ بمهاجمة “إسرائيل” متأخراً، ولو على مستوى الخطاب الإعلامي فقط، لتفادي الانتقادات التي وجّهت إليه بتركيز عملياته الدموية ضدّ المدنيين من الشيعة والسنّة والمسيحيين، مع غياب لأي عمليات “جهادية” من قِبل “داعش” ضد “إسرائيل” ومصالحها، سواء في الداخل الفلسطيني المحتل أو في العالم، بذريعة أولوية المواجهة مع العدو الأقرب والأدهى، أي الشيعة!

    ولأن “إسرائيل” بعيدة جغرافياً- وسياسياً- عن العراق، فهي لم تتمكن من تفعيل تدخلها في الأحداث التي كانت تجري على أرضه كما فعلت – وتفعل – في سورية، سواء من خلال عمليات قصف جويّ منتظمة  لأهداف معادية، أو عبر دعم مكثّف لهذه الجماعة أو تلك، ضمن استراتيجية “إسرائيل” التقليدية لزعزعة الدول الرافضة للتطبيع معها، وإغراق شعوبها في الفوضى.

    لكن ذلك لا ينفي وجود أدوار إسرائيلية، مستترة ومؤثّرة، في الأوضاع العراقية في مرحلة تمدّد تنظيم “داعش”- قبل تمكّن الحشد الشعبي والجيش العراقي من القضاء عليه في نهاية العام 2017- عبر وسائل أمنية واستخبارية معقّدة، وتحديداً من خلال الحليف الأميركي الذي كان بمثابة الفاعل الأوّل في العراق، أو بتفعيل الوجود الإسرائيلي، الاستخباراتي والعملياتي، في مناطق كردستان شبه المستقلة عن الدولة العراقية منذ العام 2003، والذي تبيّنت غاياته بعد القصف الإيراني الأخير لمعسكرات تابعة للمعارضة الإيرانية الكردية، والمدعومة من “إسرائيل” وبعض الدول الغربية والعربية، في أيلول وتشرين الأول من العام 2022.

    “الحشد الشعبي”: تحدّ جديد لإسرائيل

    شكّل ظهور “الحشد الشعبي” في العراق مفاجأة غير محسوبة بالنسبة للأميركيين والإسرائيليين وحلفائهم الخليجيين على وجه الخصوص، لأنه أسقط  سريعاً رهاناتهم على حرب طويلة ومدمّرة بين تنظيم “داعش” التكفيري والشيعة وبقيّة المكوّنات العراقية، كما كانت توحي المواقف والتصريحات والتقارير الصادرة عن الجهات المذكورة في تلك المرحلة السوداء من تاريخ العراق، والذي اختار عدم الخضوع للهيمنة الأميركية بعد إسقاط النظام السابق، فكانت “داعش” هي السلاح الأمضى لتطويعه أو تقسيمه.

    ولا تعود الخشية الإسرائيلية من “الحشد الشعبي” إلى علاقته بإيران وبحزب الله اللبناني، وتهديد تلك العلاقة للأمن القومي الإسرائيلي، كما يدّعي المسؤولون الإسرائيليون؛ بل إن لهذه الخشية جذوراً دينية ودوافع استراتيجية وأمنية واقتصادية، ترتبط بالعراق وبأوضاع وتحوّلات المنطقة عموماً؛ وليس هدف إحياء خط كركوك-حيفا، الجديد – القديم، لنقل البترول العراقي إلى الكيان الإسرائيلي، سوى أحدها فحسب.

    وقد ترجمت “إسرائيل” مخاوفها من “الحشد الشعبي”، حسب ما تمّ كشفه من قِبل وسائل الإعلام والمواقف السياسية التهديدية لأبرز مسؤوليها، عبر الشروع بقصف واستهداف مراكز ومقرّات له على الحدود مع سورية أو في داخل العراق، وذلك منذ منتصف العام 2019، ولو من خلال ضربات متقطعة وغير مكثّفة، كما تفعل في سورية حالياً.

    وعلى الرغم من عدم اعتراف “إسرائيل” بتلك الهجمات بشكل رسمي، إلّا أن الكثير من الأدلّة المادية، والتصريحات الصادرة عن مسؤولين وقياديين في الحكومة العراقية وفي الحشد الشعبي، وكذلك التصريحات أو التقارير الإسرائيلية والغربية المتواترة، تؤكد مسؤولية الكيان الإسرائيلي عن الهجمات الجويّة التي نفّذت حتى اليوم ضد مقرّات ومعسكرات ومستودعات تابعة للحشد الشعبي، في إطار استراتيجية “إسرائيل” العدوانية التي تطبّقها منذ سنوات، والتي سمّتها (حرب بين الحربين)، من أجل منع “أعدائها” من تشكيل بنى تحتية وقدرات عسكرية ونوعية تهدّد ما يسمّى التفوّق الإسرائيلي الاستراتيجي في المنطقة.

    ففي أواخر العام الماضي، كشف رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، أفيف كوخافي، عن عملية تقوم إسرائيل بتنفيذها حالياً في العراق وسوريا باسم “حرب بين حربين”، وتهدف من خلالها إلى “منع تدشين حزب الله آخر في العراق وسوريا”(1).

    فيما وصفت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية، الحرب الدائرة بين “إسرائيل” والعراق بأنها “حرب سريّة”(2)، في دلالة واضحة على عمق التورّط الإسرائيلي في الوضع العراقي، وعلى الفشل الأميركي في تحويل العراق إلى دولة  مسالمة و”صديقة” لإسرائيل.

    من جهته، كشف المستشرق الإسرائيلي، يارون فريدمان، بعض أبعاد الرؤية الإسرائيلية لنمو قدرات الفصائل الشيعية المعادية لكيانه في العراق، بقوله إن “التصور الإسرائيلي للميليشيات المسلّحة في العراق يعتبرها تهديداً أمنياً حقيقياً؛ وبالتالي فإن لدينا مصلحة للمسّ بها، واستهدافها”.

    وأضاف: ” إن الحديث هنا عن 67 ميليشيا مسلّحة تمثّل الشيعة العراقيين، وتحظى بدعم سنوي حكومي يصل 60 مليون دولار سنوياً، وتعاون مع المحور الإقليمي الذي تقوده إيران في المنطقة، وتبذل جهوداً لنقل الأسلحة والوسائل القتالية عبر حدودها مع إيران لسوريا ولبنان والعراق”(3).

    وأوضح فريدمان أن” إسرائيل تراقب التحركات الإيرانية الجارية لافتتاح ميناء بحري جديد على شاطئ اللاذقية شمال سوريا، فيما تجري الجهود الميدانية لإقامة خط سكّة حديد من إيران إلى سوريا مروراً بالعراق. ويمكن الافتراض أن الهجمات الجويّة الأخيرة المنسوبة لإسرائيل ضدّ الميليشيات المسلّحة في العراق، تأتي الإحباط الجهود الإيرانية لإبعاد مستودعات صواريخها المتطورة عن مرمى الطيران الإسرائيلي “(4).

    وفي السياق، نشرت صحيفة بيلد الألمانية مقالًا تحت عنوان “التهديد الصاروخي من قِبل المليشيات العراقية لإسرائيل/ القادة العراقيون والإيرانيون والفلسطينيون يتحالفون”، وحذّرت فيه من خطورة ترسانة صواريخ حركة النجباء للكيان الإسرائيلي، معبّرةً عن قلقها من استعداد فصائل المقاومة العراقية لاستخدام صواريخ دقيقة التوجيه وطائرات مسيّرة بعيدة المدى لضرب “إسرائيل”(5).

    وتطرّقت الصحيفة إلى مقابلة المتحدث باسم النجباء، المهندس “نصر الشمري”، مع وكالة الأنباء الإيرانية “مهر”، ونقلت عنه قوله “إن دعم النجباء للمقاومة الفلسطينية لا يقتصر على نقل الخبرات والأسلحة، لأننا قادرون على استهداف عمق إسرائيل”، لتؤكد على “التهديد الكبير الذي تتعرّض له إسرائيل من قِبل ترسانة الصواريخ التابعة للفصائل العراقية، وخاصة النجباء”. ونقلت عن الخبير في صناعة الصواريخ “فابيان هاينز” قوله: “نظام القبّة الحديدية كان قادرًا على التكيّف بشكل أو بآخر مع الصواريخ غير الدقيقة لحماس والجهاد الإسلامي؛ لكن الصواريخ التي أعطتها إيران لحلفائها الإقليميين يمكن أن تضرب أهدافًا عسكرية واقتصادية مع درجة خطأ ضئيل للغاية؛ حقيقة أن القيمة الاستراتيجية لهذه الصواريخ قد ازدادت أضعافاً مضاعفة”(6).

    وخلص التقرير إلى أن سبب الغارات الجويّة الإسرائيلية على الأراضي السورية هو “قلق تل أبيب من التهديد الذي تشكّله الجماعات العراقية”، وبيّن أن العديد من القوات العراقية أقامت بالفعل قواعد ومستودعات أسلحة في أراضي الدولة الجارة، ممّا جعل حدود البلدين ملاذاً آمناً لأعداء “إسرائيل” (7).

    إذاً، وكما تبيّن التقارير الآنفة الذكر، هناك قلق إسرائيلي وغربي حقيقي من “الحشد الشعبي”، على الرغم من أنه يُعدّ جزءاً أساسياً من القوات المسلّحة العراقية، والتي تلتزم بقوانين البلاد وحماية الأراضي العراقية والدفاع عن الشعب العراقي، ضد أي تهديدات خارجية أو داخلية، مهما كانت طبيعتها أو دوافعها؛ ويبرز تنظيم “داعش” التكفيري في طليعتها، والذي لم يزل خطره قائماً حتى تاريخه، حيث يقف “الحشد” في موقع التصدّي الحازم له، بالتعاون مع القوات المسلّحة وأجهزة الاستخبارات العراقية كافة.

    فما هي بواعث القلق من” الحشد”، والتي تدفع “إسرائيل” لانتهاك سيادة العراق واستهداف قوّة عراقية “رسمية”، وفي دولة غزاها الأميركيون (رعاة الكيان وحُماته) قبل عقدين من الزمن، وسعوا جهدهم لضمّها إلى التحالفات التي أسّسوها في المنطقة لمواجهة إيران؛ وهل هي تقتصر على علاقة “الحشد الشعبي” بإيران والمقاومة في لبنان، وبتنمية قدراته الصاروخية التي تهدّد الكيان الإسرائيلي، أم أن المسألة تتجاوز هذه الدوافع، على أهميتها وواقعيتها؟

    ما من شك في أن لدى “إسرائيل”، كتجسيد للحركة الصهيونية العالمية، وككيان وكمجتمع، رؤية عنصرية معادية لكلّ دول وشعوب المنطقة، انطلاقًا من دوافع إيديولوجية ودينية واستراتيجية، ترتبط بنشأة الكيان الإسرائيلي وأهدافه التوسعية وارتباطاته الغربية، والتي تتناقض، بل وتتصادم مع ثوابت ومصالح وأمن شعوب هذه المنطقة، في العمق؛ ولا يمكن أبداً التوفيق فيما بينها، كما كشف فشل وسقوط  السياسات أو المحاولات، الغربية والإسرائيلية، لفرض سلام مصطنع على الشعوب العربية والمسلمة، طيلة عقود مضت.

    وفيما يتعلق بالعراق تحديدًا، وهو مكوّن أساسي من مكوّنات المنطقة، وفق المعايير الجغرافية والاستراتيجية، كما الدينية والتاريخية أيضاً، فإن المعركة التي بدأها الصهاينة ضد الحشد الشعبي فيه، لا تنفصل عن المعارك التي يخوضونها ضد ما يسمّونه القوى الإرهابية المعادية لهم، والمدعومة من إيران خصوصاً.

    وهذه المعركة التي أطلقتها “إسرائيل” منذ سنوات ضد الحشد الشعبي، تحمل أبعاداً خطيرة، ويأتي البعدان الديني والاستراتيجي في طليعتها.

    أوّلاً: البعد الديني للحرب الإسرائيلية على “الحشد”

    بات معلوماً أن “إسرائيل” استندت في عملية تثبيت وجودها القسرية في فلسطين، في العام 1948، وعلى حساب أرض الشعب الفلسطيني التاريخية وحقوقه ودماء أبنائه، إلى ركائز دينية جيوستراتيجية عديدة.

    فقد استخدمت الحركة الصهيونية الدين كدافع أوّل لتجميع جماعات “يهودية” مختلفة المشارب والأهواء، من أوروبا “النازية والفاشية” ودول أخرى، والدفع بها إلى فلسطين، التي تمثّل “الأرض الموعودة لشعب الله المختار”، و”أرض اللبن والعسل”؛ ومن ثمّ استغلّت عواطف تلك الجماعات، وأغرتها بالمال، لدفعها إلى خوض المعارك وارتكاب المجازر ضد الفلسطينيين، فيما كانت الصهيونية تسعى في الحقيقة وراء أهدافها الخبيثة الخاصة بها، بالتواطؤ مع القوى الاستعمارية الكبرى حينها، وأبرزها بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.

    وقد توسّع هذا المسار الديني – السياسي التضليلي للحركة الصهيونية خلال مراحل تثبيت وتمدّد الكيان الإسرائيلي على حساب شعوب المنطقة العربية والإسلامية. فقد أكّدت مقالة نُشرت في صحيفة “دافار”، بتاريخ 14/4/1981، “حق إسرائيل المشروع، لكونها دولة يهودية في الشرق الأوسط، العمل للدفاع عن أي أقليّة قومية أو إثنية أو دينية في المنطقة؛ ومن مصلحة إسرائيل المشروعة أن تشارك في الحفاظ على النسيج التعددي للشرق الأوسط، لكونه أساس وجودها وأمنها، ومن حق إسرائيل منع السيطرة العربية والإسلامية على مختلف الأقليّات التي تعيش في المنطقة”(8).

    ولهذا، فإن إسرائيل تسعى دائماً إلى إثارة الخلافات بين الشيعة والسنّة والأكراد في العراق، وبين السنّة والعلويين في سورية، والموارنة والدروز والسنّة والشيعة في لبنان..

    كما أن زعماء الحركة الصهيونية لم يرفضوا وجود الأمّة العربية وحسب، بل دعوا إلى إقامة نظام سياسي – ثقافي جديد في الشرق الأوسط، لكي تختفي الثقافة العربية – الإسلامية في المنطقة(9).

    من هذا الجذر السياسي المتلبّس بالدين، والذي يشكّل ركناً أساسياً من أركان الحركة الصهيونية والكيان الإسرائيلي، يمكن فهم الدوافع الأخرى المحرّكة للكيان لمهاجمة الحشد الشعبي العراقي – عدا الدوافع السياسية والأمنية المعلنة – والذي لا يُخفي قادته وأعضاؤه التزامهم الديني بالإسلام، عقيدة وممارسة عملية ونظام حكم؛ بموازاة جهرهم بالعداء للولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي الغاصب لفلسطين.

    لكن هناك فارق جوهري بين الاستخدام أو الاستثمار السياسي للدين من قِبل الحركة الصهيونية العنصرية لتحقيق أهداف جيوستراتيجية واستعمارية، وبين الالتزام بالمبادئ والقيم الدينية من أجل حماية المجتمع والدفاع عنه، ولصدّ الأخطار الداخلية والخارجية.

    فالصهيونية العالمية، والتي يجسّدها حالياً كيان الاحتلال الإسرائيلي، استثمرت ولا تزال في “الدين اليهودي”، من أجل مواجهة أعدائها الكثر؛ لكنها ترفض في الوقت نفسه تحويل الصراع معها في المنطقة إلى صراع ديني، كونها تخشى من التداعيات الخطيرة لهذا التحوّل على استقرار الكيان ومشاريعه ووجوده؛ مع سعيها الحثيث لإثارة النعرات والنزاعات الطائفية والمذهبية على مستوى المنطقة، كما فعلت تجاه لبنان والعراق وسوريا ومصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية طيلة عقود خلت.

    من هنا يمكن تحليل وتقويم المواقف السياسية الإسرائيلية الملتوية من الأوضاع العراقية، على الأقل منذ مرحلة ما بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003 وحتى اليوم، وتحديداً حيال الحشد الشعبي وعلاقته ببقية المكوّنات والفئات العراقية، ضمن المسار التفتيتي والتقسيمي السابق الذكر، حيث تؤدّي البروباغندة الإعلامية الإسرائيلية، التابعة للمنظومة السياسية الصهيونية، دوراً أساسياً في تشويه صورة “الحشد” وعمقه الديني، وتزييف أهدافه، وعلاقاته بإيران وبحركات المقاومة في المنطقة؛ لكنها بالمقابل تتجاهل أو تهوّن من تأثير الدين والدوافع الدينية في حركة الصراع العربي-الصهيوني، أو هي تحاول تشويه وحرف مسارات هذه الدوافع، كما هي الحال بعد توقيع ما يسمّى الاتفاقيات الإبراهيمية للسلام، مع بعض الدول العربية في الأعوام الأخيرة.

    ثانياً: البعد الاستراتيجي للحرب الإسرائيلية على “الحشد”

    تتضمّن الرؤية الإسرائيلية الاستراتيجية للعراق عدة أبعاد، ومنها أنه بلد معادٍ في تكوينه وتاريخه لليهود  وللصهيونية، وأن فيه إمكانات وقدرات مهدّدة لأمن الكيان ووجوده في حال لم يتم ضبطها حسب التوجهات الإسرائيلية والأميركية، الضمنية والمعلنة.

    ومن أخطر التهديدات التي يحسب الإسرائيليون حساباً في هذه المرحلة، الحشد الشعبي بكافة فصائله، والذي يعرقل المشاريع الأميركية والإسرائيلية لتغيير الواقع العراقي، السياسي والأمني والاقتصادي، من خلال مبادرات ومحاولات التطبيع، كما عبر توسيع دائرة الاختراق الإسرائيلي للإقليم شبه المستقل في كردستان العراق، والمجتمع العراقي عموماً.

    وعليه، تتعدّد الأهداف الإسرائيلية حيال العراق، وهي تشمل فرض التطبيع مع الدولة والشعب العراقي، ومكافحة القوى المعادية لإسرائيل، والمدعومة من إيران، وصولاً إلى التعاون المشترك في مشاريع إقليمية تخدم مصالح الطرفين، الاقتصادية والتجارية.. والأمنية!

    تزعم المدوّنة اليهودية ليندا منوحين عبد العزيز، التي عاشت في العراق على مدى عشرين سنة، أن لدى المجتمع المدني العراقي رغبة شديدة لشقّ الطريق نحو علاقات مع إسرائيل؛ ومن ناحية العراقيين، فإن المصالح هي الأساس؛ فليس للعراق نزاع حدود مع إسرائيل. وقد ملّ العراقيون من القضية الفلسطينية، بعد أن استثمروا فيها الكثير، على حدّ إحساسهم.

    وتضيف: يقول بعض العراقيين إن فلسطين هي مشكلة إسرائيلية داخلية. فإسرائيل في نظرهم هي حقيقة ناجزة. ويمكن للعراق من ناحيتهم أن يقيم معها علاقات مثل دول عربية أخرى؛ في نظرهم، يمكن للعراق أن يكسب من العلاقة مع القوّة العظمى اليهودية في الشرق الأوسط، التي هي رمز للديمقراطية والتقدّم(10).

    هذه هي الخلفية الاستراتيجية التي تحكم سياسات “إسرائيل” تجاه العراق، والتي ستبقى في إطارها النظري حتى إشعار آخر، لأنها تصطدم أوّلاً بجدار الحشد الشعبي الصلب، كما بالدولة والشعب العراقي، والرافض لأي تقارب مع “إسرائيل” مهما كانت الضغوط  والمغريات، كما أثبتت التطورات خلال السنوات الأخيرة، والتي تصاعد فيها التدخل العسكري والأمني الإسرائيلي في العراق.

    أما الاستراتيجية الموازية، فقد بدأت “إسرائيل” بتطبيقها منذ مرحلة الغزو الأميركي للعراق، ولا تزال حتى اليوم تطبّق أجزاء معيّنة منها، من خلال دعمها العلني للطموحات الكردية الانفصالية في إقليم كردستان العراق، وكذلك تشجيعها الخفي للانقسامات الطائفية والمذهبية والعِرقية بين مختلف مكوّنات الشعب العراقي، كما ظهر في مرحلة صعود الجماعات التكفيرية وحتى تاريخه.

    ولا يخفى الدور الأساسي للحشد الشعبي في مواجهة وإسقاط هذه الاستراتيجية الإسرائيلية الهدّامة؛ وهذا ما يفسّر الاستهداف الإسرائيلي المباشر للحشد من دون غيره من القوات أو الأجهزة الأمنية العراقية، والتي يرتبط بعضها بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة الأميركية.

    خاتمة

    لقد شكّل ظهور الحشد الشعبي العراقي في العام 2014، وتمكّنه من هزيمة تنظيم “داعش” التكفيري خلال ثلاثة أعوام فقط، مفاجأة وصدمة للكيان الإسرائيلي، والذي كان يراهن على حرب تمتد لأجيال بين الفصائل المسلّحة، الشيعية والسنيّة والكردية، وذلك تحت رعاية أميركية وغربية كاملة، في إطار المشروع الأميركي- الإسرائيلي الذي تمّ البدء بتنفيذه منذ الغزو الأميركي للعراق في  آذار/ مارس 2003.

    وبعد فشل المشروع المذكور بفعل المقاومة العراقية المدعومة من قِبل محور المقاومة في المنطقة، سارعت “إسرائيل” إلى تطبيق خطط بديلة لتحقيق أهدافها في العراق، وذلك استناداً إلى ركيزتين أساسيتين:

    1-شنّ غارات وهجمات عسكرية استهدافية ضد مواقع ومعسكرات وقوافل تابعة للحشد الشعبي، بهدف إضعاف قدراته وقطع أي تواصل بينه وبين قوى المقاومة في سورية ولبنان، خصوصاً في الأطر العسكرية والأمنية واللوجستية. وقد استطاع “الحشد” استيعاب هذه الضربات الإسرائيلية إلى حدٍ كبير.

    2-شنّ هجمات دبلوماسية وسياسية-إذا صحّ التعبير- تحت عنوان السلام والتسامح والتطبيع، لتحقيق أهداف سياسية، استراتيجية أو تكتيكية، قد تتيح تطويق ومحاصرة الحشد الشعبي، الذي بات جزءاً مهماً من محور المقاومة، كما تعلن بعض فصائل هذا الحشد تكراراً؛ وصولاً إلى فرض تطبيع عراقي مع “إسرائيل”، وبما يحقّق الأهداف الإسرائيلية السياسية والاقتصادية.. والدينية في العراق.. وفي الدول العربية المجاورة له لاحقاً.

    ومعلوم أن الطموحات الإسرائيلية في العراق، المعلنة أو الضمنية، تتضمّن إعادة توطين “اللاجئين” العراقيين اليهود في الموصل (“موطنهم التاريخي”) والمناطق القريبة من تركيا، أو التعويض عليهم، وإعادة إحياء خط كركوك- حيفا النفطي الاستراتيجي، وتأسيس مشاريع اقتصادية وتجارية واستثمارية متنوعة مع العراق، كما هي الحال اليوم مع الإمارات والمغرب ومصر والأردن، وصولاً إلى بناء تحالفات ذات طابع أمني واستراتيجي بين العراق والكيان الإسرائيلي وبعض الأنظمة العربية، وبرعاية الولايات المتحدة الأميركية، في مواجهة إيران ومحور المقاومة في المنطقة.

    ومن الواضح أن هذه الطموحات الإسرائيلية لم تتم ترجمتها حتى اليوم، سواء بشكل كليّ أو جزئي، مثلما حصل مع دول عربية أخرى، بسبب رفض الشعب العراقي لها أوّلاً، وثانياً بسبب تصدّي الحشد الشعبي (الذي يضم فصائل شيعية وسنيّة ومسيحية) للمحاولات السياسية والميدانية لترجمتها، من قِبل الحلف الأميركي – الإسرائيلي وأدواته الداخلية والإقليمية، برغم الضغوطات والإغراءات الهائلة.

    وفي المحصّلة، فإن كابوس الحشد الشعبي العراقي قد أضيف بالفعل إلى كوابيس الكيان الإسرائيلي الأخرى، والذي لن يتمكن من التخلص منه، مهما بلغت درجات مكره ودهائه.. وإرهابه؛ وما على هذا الكيان سوى الإعداد للمواجهة الكبرى مع محور المقاومة، والذي بات “الحشد الشعبي” مكوّناً أساسياً فيه.

    الهوامش

    • (1) رئيس الأركان الإسرائيلي: نعمل على منع استنساخ حزب الله في العراق وسوريا واليمن، العربية. نت، 4/12/2022.
    • (2) تقرير بريطاني يعدّ ما يجري بين إسرائيل والعراق “حرباً سريّة”، وكالة شفق نيوز، 24/8/2019.
    • (3) عدنان أبو عامر، مستشرق يوضح خطورة الحشد الشعبي على أمن إسرائيل.. كيف؟، موقع عربي 21، 29/9/2019.
    • (4) المرجع السابق.
    • (5) القوّة العسكرية لفصائل المقاومة العراقية تُقلق “إسرائيل”، موقع الخنادق، 26/6/2021.
    • (6) المرجع السابق.
    • (7) المرجع السابق.
    • (8) حسن صعب، الشيعة في العقل الصهيوني: مؤتمر هرتسيليا نموذجاً، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، الطبعة الأولى: 2018، ص 20.
    • (9) المرجع السابق.
    • (10) المرجع السابق، ص 36.

    مقالات ذات صلة

    اترك تعليقاً

    زر الذهاب إلى الأعلى