دراسات

دراسة: بناء الوعي لدى بيئة المقاومة وتحويل التهديدات الى فرصة

مقدمة

كانت خسارة فلسطين امتدادا للخسارة التي لحقت بشعوب الامة العربية والإسلامية، والتي شكّلت عاملا جديدا من عوامل البحث عن إمكانية استعادة الذات، فاندلعت الثورات، وظهرت حركات تحرر، لكنها للأسف لم تفلح في الوصول الى أهدافها، وبقيت قاصرة عن تحقيق الطموحات الجماهرية، لأسباب عدة وجوهرية لعل منها غياب الاستراتيجية، او عدم وضوحها، وبذلك وقعت فريسة في ايدي المخططين الكبار، وكان لبنان ولا يزال من ابرز البلدان التي تمثل جزءا من المشروع الصهيوني للوصول الى مياه نهر الليطاني لريّ الجليل الأعلى والحصول على الطاقة الكهرومائية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، كان مخططا ان يكون لبنان ضمن الدولة الصهيونية المزمع انشاؤها من النيل الى الفرات.

أنتج الاجتياح الإسرائيلي للبنان مناخا متقلبا خلط الوقائع والاحداث اللبنانية ودفع الى حالة من حالات الانقسام المناطقي والطائفي. هذه الحالة دفعت بالكيان الصهيوني لتوسيع نفوذه في لبنان من خلال الهجمات على القرى والبلدات مما زاد من معاناة السكان، تبعها الهجوم الجوي الإسرائيلي على لبنان في تموز 1981، وأعقبه زيادة تدخل في الأوضاع اللبنانية عن طريق التحالف العسكري الذي أنشأه الكيان مع الميليشيات المسيطرة على الشطر الشرقي للعاصمة، وفي الوقت الذي بلغ فيه القتال المحلي مبلغا أنهك العاصمة بيروت والمناطق الجنوبية. على الجانب الاخر كان المشهد الاقليمي فوق بركان مشتعل حيث الحرب المفروضة على إيران اشتعلت، وفي هذه الاثناء، بدأ الكيان الصهيوني اجتياحه للأراضي اللبنانية في حزيران 1982، ووصل الجيش الإسرائيلي بيروت في اليوم

الثالث لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ لبنان، والتي كتبت بحروف من دم ونار في الجنوب، خاصة منطقة جبل عامل صاحبة التاريخ الهام في بناء لبنان الحديث والمنطقة، فكرا وسياسة.

أخرج الاجتياح الإسرائيلي المقاومة الفلسطينية، كما اخرج القوات السورية الا من بعض المناطق المحاذية لحدودها في البقاع والشمال وبعض الجبل. ثم لم يجد من يحاسبه على كل ما ارتكبه من مجازر بحق الشعبين اللبناني والفلسطيني، وخاصة المجازر التي شكّلت رافدا للولادة الفعلية لما أصبح يعرف بعد ذلك بالمقاومة الإسلامية في حزب الله، التي ظهرت في ظروف كان الشعور بالقهر لدى المسلمين، بل لدى الوطنيين عموما في لبنان والمنطقة، قد بلغ ذروته. فقد هزمت المقاومة الفلسطينية واخرجت بالقوة من لبنان، وأخرجت سورية مثخنة بالجراح من معظم لبنان، ووسط صدام سياسي عنيف بينها وبين المقاومة الفلسطينية، انعكس بحدة على اللبنانيين فمزّقهم عاطفيا وفكريا وسياسيا، والحق اشد الأذى بتوجهاتهم القومية. ثم نصب الكيان الصهيوني دباباته، وعمل بوسائل التهديد والاغراء على إيصال حليفه اللبناني (قائد ميليشيا القوات اللبنانية حينها بشير الجميل) الى رئاسة الجمهورية. بالمقابل، كانت حرب صدام حسين على الجمهورية الإسلامية قد بدأت في استهلاك معظم طاقة الأمّة، ومعظم مواردها الاقتصادية والسياسية، لا سيما في الخليج الفارسي، محدثة شرخا كبيرا في المؤسسات التي يفترض أن تجسد تضامنها ووحدة موقفها، وأولها الجامعة العربية. قطع حزب الله درب الهزيمة وبدا مشواره في المواجهة المسلحة لكل مشاريع الارتهان للمحتل الإسرائيلي. ومنذ تلك اللحظة بدا مشوار التعبئة الشعبية-على الرغم من كل التعقيدات- يتبلور باصطفاف شعب ينشد الحرية لأراضيه ومناطقه، ويؤمن بأنّ المواجهة تتطلب الصبر والعمل بدأب ولم تتوقف حركته يوما. كانت انطلاقة الحزب أولا باعتباره “حزب المستضعفين” وكان المنتمون الأوائل الى صفوفه هم المعدمين، أبناء البؤس والشقاء الذين لم يتبقّ لهم الا الله، فجاء يأخذهم اليه. وها هو اليوم، الحزب الأعظم شعبية، والأفضل تنظيما، والأصلب موقفا، ويكاد يكون الارفع في وعيه السياسي وقراءته لخريطة التحولات، والمبادرة الى التعديل بما يراعي المزاج العام من دون التخلي عن ثوابته الايمانية وشعاره الجهادي الابعد مدى: فلسطين.

بعد أن مرت سنوات على اكتمال الانتصار اللبناني على العدو الصهيوني في أيار 2000، وبعد أن لقّن حزب الله، هذا العدو ومن صار في ركبه من حكام ومثقفين ودول، دروسا في جدوى الصمود، والإصرار على المقاومة للوصول الى هدف التحرير، واخفاق ما دون ذلك من أساليب المهزومين التي يطلقون عليها زيفا اسم المفاوضات ومبادرات التسوية والتطبيع. الان وبعد أن مر على اكتمال الانتصار سنوات يعود السؤال مجددا: لماذا انتصر حزب الله في حين هزم الاخرون؟ انه السؤال الذي فجر عشرات من الأسئلة التي وجبت الإجابة عليها ونحن نعيش أجواء اشتداد المؤامرات الإقليمية والدولية على مقاومة الشعب الفلسطيني واللبناني، ومحاولة وأدها، من خلال استهداف رموزها الكبيرة تارة او من خلال تنفيذ المؤامرات الامريكية، والإسرائيلية باسم الإصلاحات الديمقراطية تارة أخرى.

كي لا نغوص بعيداً في تاريخ الصراع على المنطقة والسيطرة على مقدراتها، عبر مشاريع عدة، فإن فشل تطبيق الطبعة الأخيرة من هذه المشاريع، أي “مشروع الشرق الأوسط الجديد”، بالقوة الصلبة في حرب تموز 2006، دفع الرعاة لمحاولة تطبيقه بالقوة الناعمة، وهي قوة تتبع، من جملة ما تتبع، أسلوب “الهندسة الاجتماعية” لإعادة صياغة الوعي الجمعي للمجتمعات المستهدفة بالكامل. فالمسألة لم تعد محاولة خلق أنظمة سياسية عميلة عبر عمل عسكري مباشر أو غير مباشر، بل خلق مجتمعات “عميلة” عبر تدخل ثقافي ناعم، بالمعنى الشامل لكلمة ثقافة، وإذا كان ذلك صعباً لاستحالته المنطقية، فالأفضل، وهو ما حدث، خلق مجتمعات جاهلة تقتتل فيما بينها، ومع الآخرين، على قضايا زائفة، وتستعيد صراعات تاريخية سابقة تمنحها أولوية مطلقة على المشاكل والقضايا الراهنة.

إنّ الكلمة المفتاح في الصراع مع العدو اليوم، هي معركة الوعي لأنّها تلعب دورا حاسمً في مصير الأمة، بحسب قول سماحة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في خطاب خلال مؤتمر لدعم المقاومة تحت عنوان: المقاومة في معركة الوعي والذاكرة: “إنّ الوعي إنّما هو شرط أساسي لوجود المقاومة والثورة والنهضة. إنّنا نخوض معركة الوعي في أمتنا وعن عدونا والذاكرة جزء من هذه المعركة التي نخوضها جميعًا”.

أهمية طرح هذا الموضوع تأتي من النقاط التي بدأت تظهر معالمها بشكل بطيء، لكنها ذات مؤشرات خطيرة وهي،

  • الحرب الناعمة التي يقودها العدو لضرب بيئة المقاومة ومقوماتها.
  • ما يحصل على الساحة العربية والإسلامية من تطبيع وتنازل وتامر مع العدو على المقاومة في فلسطين ولبنان، وعلى حقوقها الشرعية في الأرض والثروات ومقومات القوة.
  • الحصار الشامل الذي تتعرض له المقاومة وبيئتها في لبنان وفلسطين لا سيما داخليا وخارجيا.
  • المؤامرة الكبرى بقيادة الولايات المتحدة الامريكية الهادفة الى انهاء حالة المقاومة في لبنان وفلسطين بكل الوسائل لمصلحة العدو المحتل.
  • تشويه وتغيير الوعي والمفاهيم والثوابت التي بني على أساسها الصراع مع المحتل الصهيوني. والهجمة الممنهجة والمدروسة بعناية فائقة وعلى كل المستويات سياسية كانت او اقتصادية او ثقافية.

من هذا المنطلق، على البيئة الحاضنة للمقاومة ان تعي بخطورة وحقيقة وفهم ما يخطط لها، ثم إعادة تثبيت وتوحيد المفاهيم والثوابت، وبعد ذلك، التوافق على الاليات والوسائل الممكنة والمطلوبة لمواجهة هذه الازمة، وانتزاع الحقوق وتقرير المصير.

تبدو مسألة بناء الوعي، مسالة مهمة ودقيقة تتطلب متابعة لأليات صناعته بشكل دقيق وخلق أدوات لمواجهة كل محاولات الاختراق لهذا الوعي. تحتاج هذه العملية لقراءة الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لبيئة المقاومة. ومن هنا، يطرح السؤال، كيف نعيد بناء العقل المقاوم؟ كيف نحمي هذا الوعي الجمعي ونصنع منه أدوات مواجهة حقيقية لكل سياسات الاستهداف المختلفة من قبل العدو؟

بناء الوعي الجمعي: التشكّل وإدارة المواجهة

موضوع الوعي يدور حوله نقاشات واسعة جدًّا، في العقود السابقة كانت السياسة تجري صناعتها داخل مؤسسات مغلقة، ولم يكن يهم الأنظمة السياسية إلى حد بعيد ما هو رأي الجمهور والمواطنين. بينما في العقود الأخيرة يوجد رأي عام في الحضور السياسي وله قدرته على إحداث التغيير السياسي ومحاسبة من هم موجودين، وصار هدف صنّاع القرار أن يكون الجمهور راضيًا ومقتنعًا وموافقًا، بمعنى هناك مشروعية سياسية لخياراته.وإذا تمكن العدو من التلاعب بالجمهور سيصبح القادر بشكل غير مباشر على التأثير على صانع القرار في الدولة أو المنظمة العدوة. من هنا أهمية دور الناس في سياسات الحروب ونتائجها وخيارات صنّاع القرار وهو جعل الأهمية بالتلاعب بوعيهم. ليس شرطًا أن يكون هذا الامر صحيحًا، فهذا هو الفرق بينه وبين البصيرة التي تفترض أنّ النتيجة التي نصلها هي مطابقة للواقع، بينما الوعي في مكان ما هو زائف ويتعلق بالتصورات أكثر. ومن العوامل أيضًا، سهولة التأثير بالوعي لوجود وسائل التواصل، وإيصال الرسائل بكلفة قليلة ووقت سريع جدًا.

إضافة الى ذلك يمكن القول انّ الانتصار في معركة الوعي على الخصم يساعد إمّا في جعل الحرب غير ضرورية أو يجعل الفرص بالانتصار في الحرب أعلى. اما فيما يتعلق بأهمية اللغة في معركة الوعي فيمكن ان ترتبط بوعي الذات كأفراد ومجتمعات، وإنّ أعلى مستويات الهيمنة عندما يستطيع طرفًا ما أن يجعل المهيمن عليه ينظر لنفسه وفق تصورات المهيمن. بالتالي علينا أن نفهم عوامل القوة لدينا. إضافة الى الوعي بالآخر، العدو أو الخصم، ما هي تركيبته وكيف يعمل وما هي وسائله وأدواته؟ وهذا أمر مهم لكي نتمكن من تطوير استراتيجية الصراع معه. كذلك أن يتشكّل الوعي التاريخي للمجتمعات والعالم، والوعي بالمستقبل والقوى المحركة له اليوم. وأن يكون هناك وعي بهذا الصراع، ما هي طبيعته ومن هم الذين ينخرطون فيه؟ وكيف يتحرك ومن هم عناصره، وكيف يمكن أن نتقدم فيه؟ وما هي أبعاده الثقافية والعسكرية والتربوية؟

إنّ عملية صناعة الوعي والتلاعب به ليست فقط عملية ذهنية وفكرية، بل هي عملية تفاعلية مع الواقع. وهي تقوم على التلاعب والتضليل، ولها تقنياتها الكثيرة جدًّا، ومن أشهرها حاليًّا التضليل المعلوماتي، والإقناع الذي يقوم على المجادلات المنطقية والعقلانية لمحاولة صناعة الوعي، والتشتيت عن القضايا الأساسية إلى قضايا فرعية بأشكال مختلفة مثل ضخ محتوى ترفيهي كبير بوسائل الإعلام العربية، لتشتيت جمهور الشباب العربي عن قضاياهم العربية والسياسية والاجتماعية. ومنها أيضًا فرض الوقائع على الآخرين، فإنّ تأسيس الوقائع المادية يجعل الفكرة أكثر إقناعًا لأنّها جسّدت الواقع. والصراع هو الصراع على النموذج، فمن يستطيع أن يقنع الناس بنجاح نموذجه في الواقع يكون قادرًا على النجاح أكثر في معركة الوعي.

ما تحاول قوى الهيمنة العالمية القيام به في معركة الوعي هو: محاولة إقناع شعوب المنطقة أنّ ما يجري ليس صراع بين الحضارات بل هو صراع داخل الحضارة الإسلامية. وأنّ العرب والمسلمين هم في موقع دوني ضمن الحضارات العالمية وهم متخلفين، وبالتالي دينهم هو دين التخلف. وهذه الصفة لا يمكن أن ينفكوا عنها إلا في حال التخلي عن دينهم الإسلامي والثقافات المحلية. وأنّ النهوض في العالم الإسلامي مرتبط بالتحديث بأن نتبنّى النماذج العربية الثقافية والاقتصادية وحينها فقط نستطيع النهوض. بالمقابل يعدّ الغرب مركز العالم، وأنّها حقيقة لا يمكن لأحد تجاوزها، مع أنّها عكس التاريخ تمامًا فلطالما كان الشرق هو مركز الحضارات البشرية وليس الغرب. أمّا التطبيع، فهو يعادل الرفاه والنهوض والعيش الكريم. وبالتالي التصويب على المقاومة واعتبارها مشروع غير مفيد، مع الاستفادة من الإحباط واليأس الموجود عند الناس نتيجة الأزمات للقول عليكم التفكير بخيارات أخرى. هذه العناوين هي أهم ما يتم العمل عليه داخل المنطقة. إنّ الوعي باختصار هو حقيقة معرفة الواقع كما هو، وهو إدراكنا كيف يسير. وهنالك الكثير من المشاعر والعقائد والأيديولوجيات والأماني والأفكار المسبقة التي تجعل المرء قادرًا على رؤية الواقع بعكس ما هو، وعلى رؤية مصالحه بعكس ما هي، وتجعله قادرًا على التوجه حسب ما يريد عدوه له. إنّ الوعي الحقيقي هو وعي الواقع حقيقة كما هو بتجرد بدون أية التباسات ولا معايير ذاتية من مشاعر وأفكار. بمقابل ذلك تبحث الشعوب المستضعفة عن إمكانية أفضل للنهوض وتحقيق الاستقلال، وعن نجاعة لتحقيق الغلبة ضد قوى الاستعمار والهيمنة والتسلط والاحتلال. ولها مصلحة بمعزل عن كل الاعتبارات الدينية والفكرية والعقائدية في رؤية الواقع كما هو، وليس لها أي مصلحة في التضليل وفي إعطاء الواقع أشكالًا غير حقيقية. نشهد هذه الأيام حالة من التقلبات الدولية والإقليمية التي وضعتنا في صراع لفهم ما يدور حولنا، لكن النتيجة أننا وصلنا إلى حالة من الجهل في فهم الصراع، مع من، وكيف، ولماذا، مع أن حقيقة الأزمة اليوم قادتنا إلى أزمة مفاهيم ومبادئ وثوابت، وبالتالي عدم القدرة على تحديد أدوات المواجهة داخليا وخارجيا، وهذا بدوره دفعنا إلى أن نعيد تخطيط وترتيب وبناء عقولنا بمفاهيم وأفكار ومبادئ صحيحة، تتوافق مع المتميزات والمعطيات الجديدة، السلبية منها والإيجابية، التي تخص بيئة المقاومة.

تحتاج هذه الأزمة إلى حالة الوعي الحقيقي، وبناء المفاهيم، وتأكيد الثوابت المتفق عليها بين أبناء هذه البيئة، والهدف هو تثبيتها بآليات محددة، وتفعيل كل إمكانات المقاومة في محيطها العربي والاسلامي، ومع أحرار العالم، في محاولة لصد الهجمة المسعورة التي تستهدف المقاومة وبيئتها من جذورها، وتعمل على إفراغها من كل حقوقها المادية والروحية والقانونية، والمآلات التي يخطط لها العدو الصهيوني، لإيصال أصحاب الحق الشرعيين لنهايتها المؤلمة. لقد ساهم قلب الحقائق، وتشويهها، في أن يصبح الأخ عدوا، والعدو أخا، والغريب مقبولا، والقريب مرفوضا، وصاحب الحق محتلا، والمحتل الغاصب صاحب الأرض، كل ذلك جعل بالضرورة الانتباه لما لهذا الأمر من تبعات مخيفة على بيئة المقاومة، على المستويات المكانية كالأرض، وماديا كالإنسان صاحب حق من جهة أولى، والعالم العربي والاسلامي من جهة أخرى، وتبعات ثالثة لصالح العدو الصهيوني المغتصب من الطرف الآخر. من هنا، يتشكّل الوعي من أدوات أساسية تتمثل في البصيرة والاستقامة(أ)، وتراكم القوة(ب).

أ- بالبصيرة والاستقامة:

إنّ أحد أهم ميّزات بيئة المقاومة هي البصيرة والاستقامة التي يعرّفها الإمام خامنئي بأنها “الوعي والتنبّه والتيقّظ ورسم الاتّجاه الصّحيح”. تحدث الامام دام ظله الشريف عن البصيرة والاستقامة كعناصر أساسية لتشكيل الوعي الذاتي والإنساني. فطرح سؤالا مهما في هذا الإطار وهو، “كيف تتحقق البصيرة؟  الجواب: من خلال تخطي الذات.” من هذا المنطلق بني الوعي الجمعي لدى البيئة الحاضنة للمقاومة الشعبية، التي خرجت من رحم المعاناة دفاعا عن النفس والكرامة والحق. وبدا واضحا أن هندسة الوعي بهذا المستوى ليست بالأمر السهل، ذلك أنّ المغريات كثيرة ومتعددة. وكما أشار الامام خامنئي أنّ ” سبب انزلاق أقدام بعض الناس يعود في الأغلب إلى افتقادهم الوعي والبصيرة. فبعضهم مؤمن إلا أنه ينزلق وتزل قدمه بسبب عدم الوعي وافتقاد البصيرة. فالبصيرة اليوم على قدر كبير من الأهمية. وكلما وأينما وجُدت الفتنة والخداع والإعلام المضلّل تكتسب البصيرة أهميةً أكبر. واليوم ترون أن البراعة والحذاقة في الإعلام من العوامل المؤثرة في الساحات السياسية والاقتصادية وغيرها. وإن الكثير من الناس في العالم يقعون تحت تأثير الإعلام في إرادتهم وتوجهاتهم في كل المجالات؛ كالبيع والشراء والسياسة، وسائر شؤون الحياة”.  من هذا المنطلق، من المهم التأكيد على أهمية البصيرة والاستقامة المرتبطة بمسار من التوعية والإرشاد والتوجيه الضروري للأفراد والجماعات، ليس فقط للمحافظة على الرصيد الذي حققته المقاومة لسنوات طويلة، بل ولاحتضانه أكثر وحمايته من أي اختراق قد يعمل العدو على تحقيقه من خلال أدوات الحرب الناعمة، بهدف تشويه وضرب كل قيم الصمود والمواجهة لمشروعه التدميري.

ان وعي وإدراك رجال المقاومة الذين ضحوا بأرواحهم من اجل قضية عادلة، لا يجب ان يذهب سدا. بالتأكيد هذا الرصيد هو مخزون مهم وفاعل، ومستمر، لكنه غير كاف اليوم، في ظل هذه الحروب الشعواء التي تستهدف المقاومة وبيئتها. عندما انطلقت المقاومة الإسلامية في لبنان، حمل رجالاتها الوعي والبصيرة، وتمكنوا من طرح شعارات جديدة، لإيقاظ الناس وارشادهم وتحذيرهم من المؤامرات والاخطار، واستطاعوا قيادة الناس وانقاذهم من المطبّات والمنعطفات. لقد كانوا موجودين في ساحة المواجهة، ونجحوا في نهاية الأمر في تحقيق الإنجازات على الأرض، بالانتصارات المتعددة، وثبّتوا القوة والعمق في الفكر الذي امنوا به وعشقوه.

ومثلما راهنت المقاومة على تهيئة وبناء الفرد، الذي يجب ان تكون قدراته مميزة، أي لديه قدرة على التقدير، واخذ القرار، والإدارة، وجمع المعلومات بطريقة صحيحة، والقتال الفردي بنسبة عالية، وفهم التجهيزات من حوله، والقدرة على الاكتفاء الذاتي لتسيير أموره. تراهن المقاومة اليوم على بيئة مترابطة الأطراف، حاضنة لمشروع المقاومة وحامية له وداعمة لمسار المواجهة بكل تفاصيله المادية والمعنوية. بالتأكيد لا يمكن ان يتحقق ذلك بدون وعي بالثوابت والمبادئ.

اليوم مطلوب من هذه البيئة تمييز وتحديد مخاطر ونقاط ضعف هذه المرحلة التي تختلف كثيرا عن مخاطر المرحلة السابقة وهي أكثر تعقيدًا، وأن يحدد العدو، وتحدد سبل وطرق مواجهة هذا العدو. كيف يمكن ذلك؟ عندما تمتلك هذه البيئة رؤية كونية صحيحة نافذة وقوية، وتكون علاقتها بقضايا العالم وثقافته ومعلوماته وتحولاته الثقافية والعلمية على درجة عالية من الأهمية بحيث تكمل بناء الوعي وتصنع من أبناء هذه البيئة اشخاصا يتحملون مسؤولية بناء المستقبل، هنا يمكننا القول بان البصيرة والوعي هما الركيزتان الاساسيتان لتحقيق ذلك دون شك.

يشير السيد القائد خامنئي الى أنّ “البصيرة – كما يعبّر عنها اليوم في عرفنا – هي التحليل السياسي والوعي السياسي نفسه. علينا معرفة تموضع العدو، وتموضع الصديق؛ من هو العدو ومن هو الصديق. على الإنسان أن يعرف عدوه، أين هو عدوه. وعندما تعلمون ذلك ستطلقون النار بكل سهولة وستصيبون الهدف. أما إذا لم تعلموا، فستطلقون النار على رؤوسكم. يصبّ بعضهم النار على رؤوس خاصتهم وأنفسهم! بسبب عدم امتلاك البصيرة وعدم الوعي وعدم القدرة على التشخيص! والويل عندما يجتمع عدم امتلاك الوعي والتشخيص مع بعض النوايا والمقاصد والضعف الأخلاقي!!”. اليوم، تواجه المقاومة وبيئتها أخطر مراحل الاستهداف المباشر، في ولاءها وانتماءها الوطني والعروبي والاسلامي، لذلك لابد ان تكون محصنة، ليس فقط ببصيرة وفهم وتمسك بالثوابت، انما أيضا بتحمل المسؤولية، فيشعر كل فرد في هذه البيئة بمسؤوليته، وان له دور أساسي فيها-لا ان يقف على هامش الاحداث- ويتحرك في حياته بهدي الايمان، لأن للإيمان دورًا كبيرًا في تقدّمه في الميادين كافّة، وفي التغلب على كل ما يعترض سبيله من عقبات، وان يكون على وعي وبصيرة من أمره كما أشار السيد القائد.

ب- تراكم القوة

اٍنّ الحديث عن أسباب انتصار حزب الله في حين يهزم الاخرون، يكمن في تقديرنا في امتلاك الحزب لمقومات الانتصار الرئيسية من قبيل قيادة سياسية مضحية وواعية بالقضية وبالمرحلة التي تمر بها ويقف على قمّتها السيد حسن نصر الله الذي ضحى بابنه الشهيد هادي، في سبيل الله والوطن، ثم يأتي امتلاك الحزب لترتيب صحيح (لفقه الأولويات) وعدم التورط في القضايا الثانوية الداخلية او الإقليمية، والتركيز على الصراع مع العدو الرئيسي، يضاف الى ذلك بل يسبقه ايمان ديني وعقائدي عميق جعل كل عناصر المقاومة تنطلق نحو هدفها في ثبات وصدق وعزيمة غير قابلة للهزيمة لان الامر لديها كان اما نصرا او استشهادا. ويكمل هذا كله، قدرة الحزب على توحيد الشعب اللبناني والقيادة اللبنانية خلف نضاله، بل امتلاكه أيضا، لشعبية عربية وإسلامية جارفة جمعت الأمة كلها خلفه. هذه العوامل مجتمعة كانت هي عوامل الانتصار الفذ لحزب الله، بسبب الروح والإرادة المجتمعتين في عقل وكيان كل مقاوم لم يتردد لحظة في تقديم التضحيات لتحقيق الانتصار.

اٍنّ إدارة المواجهة من صميم العمل المقاوم، والهدف الأساس هو صناعة الوعي المقاوم أولا في ذهنية البيئة الحاضنة لهذه المقاومة، وثانيا في ذهنية شعوب المنطقة خاصة في فلسطين ولبنان، بل ولدى كل الأحرار في العالم. لقد نجحت المقاومة في إدارة التحول – على الرغم من كل التحديات-من امتلاك القوة إلى إدارة المواجهة لإحداث التغيير في الصراع مع الكيان الصهيوني. كما نجحت المقاومة في تغيير المفاهيم التي ارتبطت بجملة من الاحداث أساسها الاستسلام للوقائع المفروضة من قبل المحتل وحلفاءه، والاعتراف بتفوقه النوعي والكمي، وبالتالي الرضوخ لشروطه. من هذا المنطلق، أصبحت المقاومة عنوان التحدي، ورأس الحربة لإنشاء التغيير في هذه المفاهيم لدى الأجيال المستهدفة، والتي يعمل العدو على اغواءها وبطرق مختلفة لفصلها عن بيئة المقاومة بكل الطرق والأساليب.

من المهم التأكيد على أنّ تراكم الخبرة في مقارعة الأعداء ودحر الإرهاب ورصّ الصفوف، بين أطراف محور المقاومة من إيران إلى العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن، ساهم مساهمة كبيرة في تشكُّل الوعي وتجذّره لدى دول المنطقة.

لا شكَّ في أن المحفّز والمحرّك، لكلّ ما تحققه الشعوب، هو درجة الوعي التي تتوصل إليها هذه الشعوب، والتي غالباً ما تكون نتيجة تراكمات طويلة الأمد، وتفاعلات محلية وإقليمية ودولية، تشمل معظم مناحي الحياة، وتعبّر عن خبرة الشعوب التاريخية، وتلاقُح هذه الخبرة مع المعطيات الجديدة. ولأن دورة الحياة قصيرة، فإن معظم المؤرخين يحاولون أن يجدوا تفسيراً للظواهر التي يعايشونها، من دون أن يتمكَّنوا من إعطاء مرحلة الإنضاج الأهميةَ التي تستحقّ، لأنها قد تتجاوز العمر المتاح لهم، ولا يتسنّى لهم أن يقرأوا مؤشِّراتها خلال حياتهم القصيرة. وقد أتقن البعض استغلال هذا العامل الزمني، وإهمال اللامرئي منه، كي يقنعوا بعض أولياء أمور الشعوب بأن يتوصَّلوا إلى صفقات مجحفة بحقهم وبحق شعوبهم، لأنهم لم يتمكنوا من الركون إلى ما قد تحمله الحقب المقبلة من ثمرات لمن يليهم من الأجيال. والملاحظ منذ حرب عام 1973 على الأقل إلى حدّ اليوم، أن العدو الصهيوني يستخدم مقولة “نفاد الوقت” وأهمية التوصل إلى “صفقة”، اليوم وليس غداً. وتمكَّن، من خلال الإلحاح على هذه المقولة الزائفة، من استجرار اتفاقات وصفقات مع حكّام عرب، ما كان ليحلم بها لو أن الطرف المقابل اعتمد النظرة الاستراتيجية للصراع، ولم يراهن على تحقيق ما اعتبره إنجازاً أو انتصاراً خلال حياته القصيرة.

هذا الرهان هو رهان على استمرار الإيمان بالقضية والحقوق، واستمرار الإيمان بأن الأجيال المقبلة لن تكون أقلّ انتماءً، أو أقلّ بذلاً وعطاءً من أجل استعادة الحقوق وتحرير الأرض من الاحتلال. وهذا الرهان مناقض لرهان السادات مثلاً، حين وقّع اتفاقية “سيناء 2″، ثم “كامب دافيد”، ظناً منه أن عليه أن ينجز السلام خلال حياته بغضّ النظر عن ماهية هذا السلام وانسجامه مع تحرير الأرض وإعادة الحقوق. وكذلك الأمر مع اتفاق “وادي عربة”، والأمر ذاته ينطبق على المنظور الذي أدى إلى اتفاق “أوسلو”، في الوقت الذي كانت المفاوضات في واشنطن تسير لمصلحة العرب، وكان الكيان الغاصب في مأزق حقيقي، فشكّل اتفاق “أوسلو” انفراجاً للعدو، إقليمياً ودولياً، وما زال يحصد نتائجه على حساب الحق العربي، إلى حدّ اليوم.

بالمقارنة مع هذا المسار، وحين بدأ ما سمّوه “الربيع العربي”، وجيّشوا له تمويلاً نفطياً سخياً، وتسليحاً للإرهابيين، وتدريباً مخابراتياً غربياً، ومكنة إعلامية هائلة تضلِّل البشر وتصيب الأبصار بغشاوة تجعل الرؤية شبه مستحيلة، انهارت إرادات واهتزّت معنويات، وفقد كثيرون الثقة بإمكان فعل أيّ شيء للوقوف في وجه هذا التسونامي المعادي للعرب وحقوقهم. لكنّ القراءة الاستراتيجية للأحداث، من جانب سورية وإيران والقوى المقاوِمة في العراق ولبنان وفلسطين واليمن، واجهت هذا التحدي بثبات في الأرض، واستعداد لتقديم التضحيات مهما بلغت، لأنها أقلّ ثمناً من الانكسار والانهزام أمام هذه العاصفة الإرهابية الغربية الهوجاء. وخلال 10 سنوات من الصمود، وانضمام الحلفاء الدوليين إلى هذه المعركة، والمتغيرات الدولية التي ضاقت ذرعاً بالقطب الواحد وهيمنته، وخصوصاً بعد وصول الصين إلى مرحلة إثبات وجودها كقطب لا يمكن تجاهله أبداً، بدأ الوعي، عربياً وإقليمياً ودولياً، يتحول، ويمتلك الثقة بالنفس، وإدراك أن عناصر القوة تتشكَّل لخوض المعركة الكبرى، وأن الهزيمة ليست قدراً على العرب، وأن الغرب والإرهاب لا يمكن لهما أن ينتصرا على إرادة الشعوب العربية وتصميمها.

تراكم الخبرة في مقارعة الأعداء ودحر الإرهاب ورصّ الصفوف، بين أطراف محور المقاومة من إيران إلى العراق وسورية ولبنان وفلسطين واليمن، ساهم مساهمة كبيرة في تشكُّل الوعي وتجذّره لدى دول المشرق، وتزامن ذلك مع مقاومة الصين وروسيا لهيمنة القطب الواحد، ومقاومة فنزويلا للإجراءات الأميركية والانتصار عليها. كل هذا رسّخ، يوماً بعد يوم، إيماناً في قلوب أبناء محور المقاومة بأن الثبات والتضحيات تؤتي أكلها، ولو بعد حين. وهكذا، بعد صمود سوريا، ورفضها كلَّ محاولات الابتزاز، وتقديمها التضحيات الجسام في الحرب ضد الإرهاب، شهدنا الهبّة الفلسطينية المباركة، والدور الذي أدّاه الجيل الشاب في الإقليم والشتات في كسر احتكار الغرب للصوت الإعلامي، والذي هو في غاية الأهمية لإيصال الحقيقة إلى أحرار العالم وكسب أصواتهم. وها هي معركة الوعي تنتقل إلى الجزائر وتونس، حيث عبّرت الشعوب هناك عن مواقفها الثابتة في دعم قضية فلسطين، وحق الشعب الفلسطيني في أرضه ودياره. ولا شك في أن العدوى مستمرة، وأنها ستصل إلى كل شعوب المنطقة والعالم، بغضّ النظر عما يرتئيه ويخطّط له بعض الحكّام. 

بقي أن نرتقي بأدوات الدعم لتواكب مرحلة الوعي الجديد، من الأغنية المقاومة، إلى الموسيقى، إلى الأفلام، إلى المسرح والكتابة والتأريخ والترويج لكل ما له علاقة بالهوية الأصلية الحضارية لهذا المشرق العربي، منطلقين من ثقة أكيدة بأن الوعي بدأ في التشكُّل والنضج، وأن كل ما علينا هو أن نواصل المسيرة مع تحديث أدوات التفكير والاستراتيجية والمقاومة وتطويرها، والتنسيق مع قوى المشرق العربية الصاعدة، والتي تتَّبع مساراً مشابهاً لمسارنا المقاوِم للهيمنة الاستعمارية المبنية على نشر الحروب والإرهاب ونهب الثروات، مع الإيمان المطلق بأن الشرق في بداية مرحلة نهوض مستمر، وأن ما درجت عليه قوى الاستعمار والاحتلال الغربية الاستعمارية يتآكل ويندثر، يوماً بعد يوم، على أيدي القوى الحرّة في العالم، والتي ستصنع مستقبلاً عادلاً وملهماً للأجيال المقبلة.

تحويل التهديدات الى فرص

استكمالا لتراكم القوة يتم إدارة معركة الوعي من خلال التمكن والفاعلية في إدارة الحرب النفسية على العدو أي كي الوعي الجمعي في مجتمعه المدني والعسكري (أ) من ناحية، ومن خلال تحقيق الإنجازات واسقاط رهاناته(ب).

أ- إدارة الحرب النفسية على العدو

لا تستكمل مفاعيل الحرب النفسية، ولا يمكن لها أن تؤتي أكلها على نحو موجب، دونما عملية جراحية معقدة ودقيقة تستبطن تثوير الوعي العربي الجمعي العام، واستنهاضه وتنشيط روافعه وحوامله، من خلال إعادة تخليق وإنتاج

الصورة التي يتحملها الانسان العربي عن الكيان المؤقت (الأسطورة، الفزاعة، القدر المحتوم، اللعنة الأبدية التي لا تردّ ولا تبدّل ولا تزول، الجيش الذي لا يقهر…)، وبالتالي إعادة انتاج الصورة التي يحملها العربي عن نفسه، وعن حقيقة قدراته وامكاناته وأسباب القوة لديه. ركّزت المقاومة في حزب الله على تفعيل الاشتغال والعمل، على نحو متواز ومتسق، في سياستين استراتيجيتين الأولى تدأب على توفير العناية والاهتمام بكل ما من شأنه تحريك الوعي لدى بيئة المقاومة والبيئات المساندة لها، وتقديم المنشّطات اللازمة لفعل الاستنهاض والجاهزية والتوثب والتحفيز والحضور الفاعل. ثانيا، بكيّ الوعي الإسرائيلي العام كما بتوهينه وتثبيطه وانكفائه، وفرملة اندفاعته وانطلاقته وكبح جماحه والنيل من عزيمته وارادته: ” لقد تغيرت المعادلات والحسابات” يقول السيد حسن نصر الله ” والعدو هو الذي يجب ان يبقى خائفا وقلقا وهو خائف وقلق، ولكن اضافة الى ايجاد حالة الخوف عند العدو يجب ان يكون لدينا ليس حالة عدم الخوف فقط، بل حالة الاستعداد واليقين والايمان والثقة بالنصر، بأنه نعم الحرب المقبلة سنواجهها وننتصر ونغير المنطقة.

لاشكّ أنّ انعام النظر النقدي الفاحص في مشهدية الصراع المرير بين الكيان المؤقت وحزب الله يكشف كيف كان الاخير يوظف اي انجاز او فتح او نصر يتوافر عليه في ساحة المواجهة مهما كان ضئيلا او متواضعا، مستعينا في سبيل ذلك بغير وسيلة واسلوب في خدمة شدّ عصب شارعه، والشارع العربي والاسلامي، وفي شحذ همم جماهيره وأنصاره، ورفع وتعزيز روحهم المعنوية، وفي تعميق ثقتهم بمشروعه ومسيرته ونهضته، كما في اعداد المقاومين اعدادا صارما على نحو يجعل منهم مبادرين، مستعدين للتضحية والفداء، حاضرين في الساحات متبنين ومناصرين للقضايا الوطنية والقومية الكبرى.

من هذا المنطلق لم تكن المقاومة الإسلامية في لبنان في سبيل تحقيق ذلك، في حاجة الى تبني خطاب تحريضي أو اختلاق عناوين ديماغوجية، ولا اصدار شعارات زائفة ومواقف مضللة، لان قضيتها المركزية الام وأطروحتها للصراع هي عينها قضية واطروحة عموم العرب والمسلمين، بل كان يكفي لهذه المقاومة أن تجلب نصرا مؤزّرا بائنا، في قبالة همجية الالة العسكرية الاسرائيلية المتغطرسة، بعد سلسلة طويلة من النكسات والهزائم والانكسارات والاخفاقات التي منيت بها الحكومات والانظمة العربية، كي تحرّك سواكن الامة، وكي تعيد تثقيلها بعد انعدام وزنها وفعاليتها وتأثيرها.

من اللافت ان انتصارات حزب الله قدمت رسالة واضحة مفادها ” نحن قادرون”. وذلك بعد ان زلزلت العقل العربي، على نحو دفع باتجاه تحريره من ذلك الوعي الزائف الذي عمل الكيان المؤقت طوال سنين وعقود على ترسيمه، والقاضي بعجز العرب وتخلفهم في قبالة تفوق العقل الاسرائيلي  وتعاليه،  فقد اصابت الرسالة التي استنبطتها انتصارات حزب الله هذا الوعي الزائف-الذي صيّر الى نشره وضخه- في عقول العامة، بعد أن أثبتت بالتجربة الواقعية الحية امكانية الحاق الهزيمة بالكيان الصهيوني، كما الاضرار بها، وأكدت بما لا يقبل الشكّ أنّ العقل العربي قادر على منازلة العقل الاسرائيلي، بل قادر على مزاحمته والتفوّق عليه في غير مجال وصعيد.

حرّكت انتصارات حزب الله الوعي العربي، وشكّلت تحريضا دافعا لألاف الشباب اللبنانيين للانخراط في صفوفه، والانتظام تحت رايته وولايته، وبالتالي الخضوع لدورات عسكرية مكثفة استعدادا للمواجهة المقبلة مع الجيش الاسرائيلي. وهكذا نرى أن اهم ما تكشفت عنه حرب تموز 2006، وكان مثار ومدعاة اندهاش واستغراب الصديق قبل العدو، القريب والبعيد على حدّ سواء، هو صناعة الانسان وفق ما أفضى اليه مختبر حزب الله: الانسان-المقاتل يصلابته، وارادته، وشجاعته، وتضحيته، وبطولته، وحيلته، وذكائه، وقدرته على الصمود والمواجهة والمناورة، فضلا عن تمايز ملحوظ في ادارة الحرب وصولا الى استجلاب وتحقيق النصر.

كذلك الانسان- المواطن بقدرته على تحمل الصعاب، وركوب موج المخاطر والشرور، والاستهانة بالموت، والاستخفاف بالحروب، وتكبّد ويلاتها، وما قد تسفر عنه من دمار وقتل ومجازر وتهجير، هذا فضلا عن اطمئنانه، وسكينته، وعميق ثقته بقادته كما بالنصر المؤزّر، “فقبل السلاح ومع السلاح وبعد السلاح”، يقول السيد حسن نصر الله مقاربا أطروحة النصر، والغلبة “عنصر القوة الحقيقي هو هذا الشعب وهؤلاء الاهل وهؤلاء الرجال والنساء والكبار والصغار، هذه العقول المؤمنة، والقلوب الشجاعة والارادات الصلبة، والعزائم التي لا تلين، والانفس المستعدّة للتضحية، قيمة هذا السلاح أنّه في يد هؤلاء الرجال، وأنّ هناك من يحتضنهم، ويدافع عنهم، ويحميهم، ويثق بهم ويراهن عليهم، هذا السلاح الرهان فيه على القبضة التي تسمك به، على القدم الثابتة في الارض..”.

عكف حزب الله على اعادة صياغة الوعي العربي الجمعي، والوعي الاسلامي العام، وعلى اعادة انتاج، او اعادة تشكيل ثوري لكل من المشروع الاسلامي والثقافة العربية، من خلال تخيّر دقيق ومتوازن—بعناية بالغة- للمفاهيم الاسلامية المستمدة من القران الكريم، ومن السير النبوية الشريفة، ومن الوقائع في التاريخ العربي والاسلامي، وذلك كتعبير ضمني وصريح عن إدراك الخزين الثوري الهائل الكامن في المشروع الاسلامي. كما أدخل حزب الله وبمهارة فائقة كل التاريخ العربي والاسلامي في المعركة مع الكيان الصهيوني، ووظفهما أحسن توظيف: ففي توصيفه للكيان الصهيوني بأنه “اوهن من بيت العنكبوت”، لا يكون السيد حسن نصر الله قد اختار مفهوما اسلاميا قرآنيا لغرض صياغة فكرة وصورة جديدتين للكيان وحسب، بل يكون قد أبطل مرة والى الأبد” مفعول هزيمة حرب 1967، وكل ما ترتب عليها من استدخال للهزيمة في الوعي العربي، والاقرار العاجز بوجود الكيان المؤقت واستدامته.

نجح حزب الله في تجويف الوعي الاسرائيلي وكيّه، والاضرار بمخياله، والتعرّض لمحفزاته ومنشّطاته روافعه وحوامله، حتى وصل الى حالة من الانتكاس في طبقاته، والى حالة من القلق والخوف والهلع واليأس والاحباط، بسبب انعكاسات وتأثيرات التشكل النمطي لصورة حزب الله لديه، الامر الذي انعكس عزوفا عن الالتحاق بالخدمة العسكرية، كما انعكس فرار من أرض المعركة، وتحاشيا وتجنبا لكل اشكال الاحتكاك والالتحام المباشر مع مقاتلي حزب الله. تقود هذه المعاينة الفاحصة للتهديد الذي طالما مثله حزب الله على صعيد الصراع مع الكيان الصهيوني” الدولة” والجيش والكيان، الى الوقوف على عتبة وعي صحيح بكل المسالك والمسارب المفهومية التي تسلل عبرها هذا الحزب الى المخيال والذاكرة والعقل، كما الى الوعي الاسرائيلي الجمعي العام.

ب- نجاح المقاومة واسقاط رهانات العدو

بعد مضي 23 عاما على تحرير الشريط الحدودي الجنوبي من الاحتلال الإسرائيلي (25 أيار 2000)، باتت نتائج هذا التحرير وتداعياته الاستراتيجية والتاريخية، أكثر تألقاً. فخصوصية التحرير أنه شكّل ايضا محطة تأسيسية في حاضر لبنان ومستقبله، وغيّر مسار التاريخ في المنطقة. كما شكّل تتويجاً لمسار أسقط أهداف الاجتياح الاسرائيلي في العام 1982، وساهم، مع انتصار العام 2006، في اعادة صياغة وعي قادة الكيان المؤقت، لجهة إدراكهم حدود قوتها ونظرتها الى ذاتها والى الآخر المعادي. والاهم أنه ايضا أحدث تحولاً في نظرة اللبنانيين الى مقاومتهم التي غيرّت معادلات الصراع وواجهت بأقل الامكانات وأصعب الظروف، قوة اقليمية عظمى تشكل تهديدا وجوديا لهم. تجاوزت مفاعيل التحرير من كونه اخراجا للاحتلال من مساحات جغرافية محددة، الى اخراج الكيان (بالمعنى المباشر) من المعادلة الداخلية في لبنان (تعزَّز هذا الجانب لاحقاً بانتصار العام 2006). ونجحت المقاومة في هذه المهمة بعدما حولت الاحتلال الى مشكلة داخلية اسرائيلية، تطور الى ضغط متصاعد على القيادة الاسرائيلية من أجل الخروج من المستنقع اللبناني. لم يتبلور هذا الواقع، إلا بعد عدد من المحطات والمراحل والمواجهات المتعددة التكتيكات والاساليب. ومن أبرز ما تميز به حزب الله في هذا السياق، أنه صنع تكتيكا صاروخيا حوّل بموجبه الاحتلال لمنطقة الشريط الحدودي الى عبء على مستوطنات شمال فلسطين المحتلة، بدلا من أن يكون حزاما أمنياً لها. ونجح من خلال فرض معادلة الصواريخ التي كانت تنهال على المستوطنات رداً على استهداف المدنيين والعمق اللبناني، إلى تحويلها الى قيد اضافي على صانع القرار السياسي والأمني. واضطرت القيادة الاسرائيلية، بعد فشل جيش الاحتلال في كسره (القيد) خلال عدواني 1993 و1996، إلى الالتزام بالمعادلات التي فرضها حزب الله. وهو ما وفر للمقاومة المظلة التي مكَّنتها من مواصلة عملياتها، وصولا الى تبلور قرار الانسحاب من لبنان.

استنادا الى هذه التحولات في وعي قادة العدو وجمهوره، نجحت مقاومة حزب الله في أن تسلبهم التلويح بخيار الاحتلال البري، وهو أهم رعب كان يسيطر على سكان لبنان لدى الحديث عن أي مواجهة مع كيان العدو. في المقابل، انتقل الرعب الى الداخل الاسرائيلي، وهو ما تم التعبير عنه على ألسنة النخبة الاسرائيلية بأشكال مختلفة، لدى طرح أي سيناريو ينطوي على فكرة اعادة احتلال اجزاء من لبنان. ومع تجذر التسليم بحدود قوة سلاح البر الاسرائيلي في مقابل مقاومة حزب الله، أقرت المؤسسة العسكرية الاسرائيلية – بقلم النائب السابق رئيس الاركان، اللواء يائير غولان – بصورة صريحة ومباشرة، بعدم ثقة القيادة العليا بالجيش البري. في المقابل، تعقَّدت مشكلة الكيان المؤقت أكثر مع اتضاح حقيقة انه بعيدا عن البر، لا فرصة للحسم العسكري مع المقاومة، وهو ما أقر به الرئيس السابق لأركان جيش العدو غادي أيزنكوت للجمهور الاسرائيلي، بالقول انّ الانتصار في الحرب سيأتي حصراً عبر مناورة القوات البرية التي ستحتل الأرض وتهزم العدو.هكذا وجد الكيان المؤقت نفسه أمام خيار جوي عقيم ومكلف جداً لعمقه الاستراتيجي، بفعل نجاح حزب الله في إبداع تحويل الجبهة الداخلية الى جبهة قتال حقيقية. وبحسب تعبير غولان “تنتظر الجبهةَ الداخلية سيناريوات لم تشهدها طوال تاريخها في كل الحروب التي خاضتها في مواجهة الجيوش العربية». وعلى المقلب الآخر، هي أمام خيار بَرّي متعذر – ومن دونه لا يوجد حسم عسكري – بعدما أدركت أنه مكلف الى المستوى الذي ترى فيه قيادة حزب الله فرصة لتدمير سلاحي المدرعات والمشاة في جيش العدو. لم يكن تحرير العام 2000 انتصارا للبنان وحده. بل كان انتصارا ايضا لفلسطين والشعوب العربية. فقد قدمت المقاومة في لبنان ابداعاً ناجعاً في مواجهة تفوق الاحتلال على كافة المستويات، من موقع التجربة المدوية في نجاحها. وأثبتت أن بالإمكان الانتصار عليه من دون انتظار استراتيجية عربية مشتركة، المطلوبة بدورها في كل حين على قاعدة التحرير. وأظهرت أن لدى الشعوب العربية خياراتها البديلة عن التسليم بالوقائع التي فرضها الاحتلال، وهو ما يُفسر محاولات تطويق حزب الله في لبنان، ومعه المقاومة في فلسطين، وتشويه صورتها منعاً لاستكمال انتشار العدوى القادرة على اعادة صناعة التاريخ بالاتجاه المعاكس لما تدفع نحوه الولايات المتحدة والعدو الاسرائيلي.

من هنا، يتضح أن الحملة الدعائية التي يقوم بها الكيان المؤقت، وتتناغم معها قوى محلية وإقليمية ودولية، هي من ضمن عدة مسارات تسعى الى تحريض الشعب اللبناني عموماً، وجمهور المقاومة خصوصاً على حزب الله، على أمل أن يساهم ذلك في تقويض قاعدته الشعبية ويفاقم الضغوط عليه من أجل إجباره على تقديم تنازلات تتلاءم مع أولويات ومصالح كيان العدو.

انطلاقاً ممّا تقدم، تندرج كل الخطوات التي تقوم بها المقاومة، ضمن إطار ما يُعرف بـ«معركة الوعي»، التي باتت تحتل جزءاً أساسياً في استراتيجية الكيان المؤقت ضد أعدائه. يكفي ان نشير في هذا الإطار الى دراسة صادرة عن معهد أبحاث الأمن القومي في تل أبيب، حول استراتيجية الجيش التي نشرت عام 2018،  التي سعت إلى إنتاج قدرة تأثير على بلورة الوعي في صفوف أعدائها والقوى الشعبية والسياسية للتأثير في مواقفها وخياراتها. ولهذه الغاية عمدت الى تطوير أدوات للتأثير الواسع والمركّز. ولفتت الدراسة الى أن معركة الوعي تحتل حيزاً أساسياً باعتبارها «جهداً مستقلاً ومرافقاً ومُكمّلاً لمختلف الجهود الأخرى»، الهجومية والدفاعية واللوجستية، بحسب ما تنص عليه استراتيجية الجيش. لكن اللافت أيضاً أن البند المتعلق بـ«معركة الوعي»، تم إدراجه في «فصل استخدام القوة» (في استراتيجية جيش الاحتلال) إلى جانب المناورة والنيران المتعددة الأبعاد، وأيضاً كان لها مكانتها فيما يتعلق بالقدرات الناعمة على مستوى (حرب) المعلومات والوعي والشرعية والقانون. من هنا يمكن القول إنّ إدراكنا الحقيقي لإرادة العدو تجعلنا أقدر على مواجهة هذه الإرادة في نطاق حرب الإرادات والصراع عليها. نحن مطالبون بالسعي والبحث وبذل الجهد من أجل التوصل إلى معرفة الواقع كما هو لا كما نحب أن يكون، ولا كما يريد العدو أن يكون.

المصادر:

  • كتاب البصيرة والاستقامة للإمام خامنئي.
  • كتاب الحرب النفسية قراءات في استراتيجيات حزب الله، يوسف نصر الله، ص420-421.
  • خطاب السيد حسن نصر الله امين عام حزب الله خلال المهرجان المركزي الذي نظمه الحزب في الذكرى العاشرة لعيد المقاومة والتحرير، وذلك في الخامس والعشرين من ايار 2010.
  • غابرييل سيبوني واخرون، الاستراتيجية العسكرية ضد حماس وحزب الله، ترجمة عدنان ابو عامر، بيروت مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية، 2011، ص29-30.
  • أمل سعد غريب، حزب الله: السياسة والدين، بيروت، دار نوفل، 2002، ص67.
  • سيف دعنا، اعادة انتاج الفشل المعرفي الغربي لفهم الظاهرة الاسلامية الثورية، صحيفة الاخبار اللبنانية، السنة الثالثة العدد 924، 9 تشرين الاول 2009.
  • كي تكون اسرائيل مثل اسبرطه، ترجمة فرح عباس نقلا عن الاكسبرس، صحيفة السفير اللبنانية، السنة السابعة والثلاثون، العدد 11672،21 اب 2010.
  • علي حيدر، حزب الله ومعركة الوعي الإسرائيلية العدو يصوّب على جمهور المقاومة، الاخبار، تشرين الأول 2020.
  • على حيدر، المقاومة تعيد انتاج «الوعي الجمعي»: اسرائيل تكتشف حدود قوتها، الاخبار، 25 أيار 2019.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى