دراسات أمنية

مخاطر التموضع الأمريكي الجديد في العراق

ملخص تنفيذي

يسعى الأمريكي إلى المحافظة على نفوذه في العراق والمنع من محاصرة هذا النفوذ أو حتى منافسته، سواء في القطاع العسكري والأمني أم في مجال الطاقة. وهو يرزح تحت سقف التهدئة مع الدول المنتجة للنفط بسبب الحرب الأوكرانية وما سببته من ضغطٍ متصاعد على الغرب عمومًا وعلى الدول الأوروبية بالخصوص. من هنا يسعى الأمريكي إلى التموضع الهادئ والناعم لناحية العلاقات مع القوى السياسية وتشريع الحركة بحيث لا تثير أيٍّ من الحساسيات وبالتالي غير قابلة للمنع. والمتتبع لحركة السفيرة الأمريكية الحالية ومروحة لقاءاتها واهتماماتها يرى في هذا التموضع الجديد الذي قد يعقّد التحرك المعارض للوجود الأمريكي، لكنه في نفس الوقت قد يستغل السقف الذي من الصعب أن يتجاوزه الأمريكي تجاه الدول المنتجة للنفط.

مخاطر التموضع الأمريكي الجديد في العراق

أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية انفتاحها على الحكومة العراقية الجديدة التي تشكّلت بعد مخاضٍ سياسيٍ وأمنيٍ عسير، كاد أن يودي بالعراق إلى اقتتال داخلي. لذا عمدت السفيرة الأميركية في العراق إلى تكثيف لقاءاتها مع أركان الدولة العراقية، سعيًا منها لتحقيق عدّة أهداف وهي:

  • اكتشاف بنية الحكم الجديدة التي يريد رئيس الوزراء الجديد المحسوب على الإطار التنسيقي، محمد شياع السوداني، بناءها في العراق.
  • العمل على الاختراق الهادئ في البنية الجديدة، والعمل على تشكيل بيئة النزاع لإمكانية توظيفها في المرحلة المقبلة.
  • إظهار الأمريكي نفسه أمام الرأي العام المحلي في العراقي والدولي بأنه غير منغلق على أي حكومة عراقية، بل ويسعى لتحقيق صالح الدولة العراقية.

قد يكون هذا المنهج من عدم فك الارتباط الكلي بالساحة العراقية ناتج عن المخاوف الأمريكي من أن يأخذ العراق موقع الطبيعي في محور المقاومة. من هنا يمكن لنا أن نفهم المسار التصاعدي للنشاط السياسي الناعم الأمريكي تجاه العراق وذلك بسبب سقف التهدئة التي يحاول الأمريكي أن يرسمها مع الدول الخليجية والمنتجة للنفط كي يستعيض عن رفض السعودية لتلبية طلبه في زيادة انتاج النفط بشكل يومي. كل ذلك يستند إلى النظرة الأمريكية تجاه العراق وموقعه الاستراتيجي في مواجهة محور المقاومة والضغط على الصين. على أن السؤال الأساس هو في المخطط الأمريكي للمرحلة القادمة؟

في الإجابة على هذا السؤال لابد من طرح أسئلة عديدة هي:

  • ما هي المجالات التي يمكن أن يضغط من خلالها الأمريكي؟
  • كيف يمكن أن يوظف الأمريكي هذه المجالات وما هي الأسباب التي ستدفعه إلى تفعيل مسارات الضغط؟

أولاً: مجالات الضغط الأمريكي

بعد أن توافقت القوى السياسية على تشكيل الحكومة وترشيح محمد شياع السوداني، أعلن الأخير عن “المنهاج الوزاري” والذي يشكل تصوره وبرنامجه العملي في الحكومة المنوي تشكيلها والتي على أساسها تتم مطالبته ومحاسبته من البرلمان والشعب العراقي. وبعد الاطلاع على البرنامج يمكن تعداد مجالات محددة يمكن أن توظف للضغط السياسي والشعبي على الحكومة، وتطوير الضغط إلى مظاهرات وتحركات على الأرض تفتح مختلف السيناريوهات والخيارات في الحياة السياسية العراقية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن بعض هذه المجالات هي محط اهتمام الأمريكي بسفيرته ومؤسساته على مستوى العراق، ومندوبة الأمم المتحدة بلاسخارت، إضافةً لاهتمامات الشباب العراقي وأولوياته؛ الأمر الذي من السهل توظيفه مستقبلاً ضد الحكومة أو القوى السياسية. من هذه المجالات التي حددها “المنهاج الوزاري” كأولوية للمعالجة هي:

المجالجهة ومستوى الاهتمامكيف يمكن توظيفه
أزمة الكهرباء، خصوصًا مع اقتراب الصيفاهتمام من السفيرة الأمريكية بشكل خاص، بسبب بروز النفوذ الأمريكي في هذا مجال الطاقة في العراق عمومًا، وهذا ما يمكن لحاظه بعد توقيع اتفاقية مع شركة سيمنز الأمر الذي دفع لحصول اتفاقية مع شركة جنرال الكتريك بعد فترة وجيزة.الهدف: منع/تقييد دخول الشركات غير الأمريكية إلى قطاع الكهرباء وتسجيل إنجاز للحكومة الحالية. مستوى الفعالية: فعالية متوسطة التحليل: يمكن أن يشكل هذا المجال ملفًا ضاغطًا على الحكومة العراقية، خصوصًا مع اقتراب فصل الصيف، والحاجة الملّحة للكهرباء على مستوى العراق ككل.  
قانون الانتخابات لمجلس المحافظات والمجلس النيابيبحسب المتابعة لم نجد تصريح رسمي من السفيرة الأمريكية أو مندوبة الأمم المتحدة فيما يخص الجدل الحاصل حول قانون الانتخابات، بل وجدنا اهتمامًا من بعض المراكز البحثية تحاول تفنيد وشرح المعضلة من دون طرح توصيات.الهدف: منع القوى السياسية المحسوبة على الإطار التنسيقي من السيطرة التامة على المشهد السياسي وتعزيز النفوذ، إضافةً إلى المحافظة على قابلية النزاع وبيئة أزمات في العراق للحفاظ على التدخل الناعم. مستوى الفاعلية: فعالية عالية وذات كلفة متدنية، لكن على مستوى القوى السياسية التقليدية والمدنية، ومع احتمال التصادم العراقي/العراقي واردة وبالتالي الضبابية في المشهد الأخير. التحليل: تبرز أهمية هذا المجال كون قانون الانتخابات الذي يُعمل على إقراره في الوقت الحالي سيُحدد توزع القوة والحضور النيابي بين الأطراف السياسية، وبالتالي المشهد السياسي في المرحلة المقبلة. من هنا تسعى القوى السياسية إلى إقرار قانون يناسبها ويضمن لها أهدافها، سواء على مستوى انتخابات المحافظات أم على مستوى الانتخابات النيابية. لذا قد لا يحتاج الأمر إلى تصريح أو تدخل من السفيرة الأمريكية أم المندوبة الأممية، إلا إذا تطور الأمور إلى تأزم واحتمال التصادم، بل يكفي الضخ الإعلامي وتحريك النُخب الإعلامية والسياسية المحسوبة على الأمريكي.
القطاع المصرفي والمالي وارتفاع أسعار الصرفاهتمام أمريكي سواء من السفيرة الأمريكية أم من السلطات المالية في الولايات المتحدة الأمريكية؛ وكذلك اهتمام من مندوبة الأمم المتحدة بلاسخارت.الهدف: الضغط على القوى السياسية عمومًا، ومحاصرة الحشد الشعبي والفصائل المقاومة ومصادر تمويلها. إضافةً إلى ما يزعمه المسؤولون الأمريكيون من محاصرة “الاقتصاد الموازي” الذي تسعى إيران ومحور المقاومة لاستعماله للتهرب من العقوبات الأمريكية المفروضة. مستوى الفعالية: من أكثر المجالات المحركة للشارع وذات فعالية مباشرة وسريعة. التحليل: يتصل هذا الملف بالحياة اليومية والتفصيلية للمواطن العراقي، والذي يمكن توظيفه على المستوى السياسي. فأسباب سعر الصرف والضغط على القطاع المصرفي والمالي لا تنحصر أسبابه بالمسائل التقنية والمالية الصرفة، وهذا ما أظهرته التجربة الأخيرة حول الارتفاع الشديد لسعر الصرف، واتهام جهات ومصارف في العراق بتهريب الدولار إلى الدول المجاورة.  
حقوق الإنسان وتمكين المرأةاهتمام من السفيرة الأمريكية بشكل متكرر ودائم (3 تغريدات خلال عشرة أيام حول الموضوع)اهتمام من بلاسخارت في إحاطتها المقدمة لمجلس الأمن في شباط 2023.الهدف: بناء أرضية اختراق بعيدة المدى يمكن توظيفها مستقبلاً. مستوى الفعالية: لن يكون ذا فعالية في الوقت الحالي التحليل: هذا المجال لا يمكن لمس أثاره بشكل سريع وآني، إنما يهدف إلى بناء أرضية للاختراق وتأليب المجتمع العراقي بعيد الأمد، وبالتالي فإن توظيفه السياسي والشعبي صعب ومعقّد حاليًا خصوصًا مع لحاظ خصائص المجتمع العراقي
تنفيذ المشاريع الاستراتيجية (استكمال تنفيذ مشروع ميناء الفاو الكبير، محطة تحلية مياه البحر في محافظة البصرة)  يبرز الاهتمام الأمريكي في هذا المجال كونه يمس عمق النفوذ الذي يتمتع به في العراق والذي عمل على بناءه والمحافظة عليه منذ 20 عامًا، لذا توضع حركة السفيرة الأمريكية ولقاءاتها في هذا السياق بشكل أساسي.الهدف: منع أي دولة من تقويض النفوذ الأمريكي في العراق أو حتى منافسته. مستوى الفعالية: تبرز المشاريع الاستراتيجية كقطاع حساس للأمريكي يوظف باقي المجالات من أجل منع اختراق نفوذه فيه. التحليل: تُمثل هذه المشاريع الاستراتيجية مجالاً حساسًا للأمريكي لن يتوانى في الحفاظ على نفوذه فيه، وبالتالي فإن القدرة على تعطيل هذه المشاريع، والضغط الاقتصادي السياسي الذي يمكن أن يمارسه سيؤدي إلى تحريك الشعب العراقي في وجه الحكومة والسعي لأسقاطها.
العلاقة مع إقليم كردستان وقضية الموازنةاهتمام من السفيرة الأمريكية عالٍ، ومن بعض مراكز الأبحاث الأمريكيةاهتمام خاص من مندوبة الأمم المتحدة سواء في إشارتها التفصيلية للعلاقة بين الطرفين في إحاطتها لمجلس الأمن، أم في مشاركتها في “ملتقى السليمانية السابع” في الشهر الجاري.الهدف: تعزيز دور اللاعب الكردي كوكيل للأمريكي داخل العملية السياسية في العراق أولاً لتحقيق التوازن مع القوى الإطارية، وثانيًا للحفاظ على إقليم كردستان كنقطة وصل ما بين البلدان الأربع تشكل ساحة انطلاق لتنفيذ أي مخطط في هذه الدول. مستوى الفعالية: الفعالية تتجه بإحداث أزمة سياسية مع إقليم كردستان يمكن أن تشكل مدخلاً للتدخل الخارجي. التحليل: موضوع الموازنة يمكن أن يثير الاستياء على المستوى النخبوي، إضافةً لتوتير العلاقات مع إقليم كردستان نتيجة الخلاف حول تحديد مخصصات إقليم كردستان العراق، وبالتالي في العراق ومزيد من الضغط على الحكومة قبل اللجوء إلى تحريك الشارع العراقي.
مكافحة الفساد وهدر المال العامإشادة من بلاسخارت للجهود المبذولة من قبل حكومة السوداني فيما يخص مكافحة الفساد المستشري واستعادة الأموال المنهوبة، وذلك في إحاطتها المقدمة لمجلس الأمن.الهدف: الضغط على القوى السياسية المقاومة، ومنع بناء اقتصاد موازي يمكن من خلاله مواجهة الضغط الاقتصادي الأمريكي الذي يمكن أن يُمارس. مستوى الفعالية: فعالية متوسطة. التحليل: كشفت “سرقة القرن”، التي أعلن السوداني عن مساعيه لاسترداد أمولها، عن عمق الفساد وتجذره بشكل بنيوي في الدولة العراقية، والتي لم تتشكل أي حكومة إلا ووضعت مكافحته هدفًا له في برنامجها الحكومي. ورغم تداول المسؤولين الأمريكيين فيه ومندوبة الأمم المتحدة، إلا أنه سيوظف بالضغط السياسي على الحكومة العراقية للتنازل هنا أو التراجع هناك، كون هذا الموضوع من المستبعد معالجته في المدى المنظور. لذا وكغيره من البلدان توظف قضية الفساد في العراق للضغط على الحكومة من غير أن تقود إلى إسقاطها.

ثانيًا: اللحظة الأمريكية للتدخل

أدى تحويل الاهتمام الأمريكي عن منطقة غرب آسيا وما استتبعه من انكفاء عسكري إلى تضييق الخيارات على مستوى حركته في مناطق نفوذه، خصوصًا في ظل المتغيرات المتسارعة سواء مزيد من تعزيز الحضور الصيني على مستوى الإقليم أم الانفراجات الحاصلة بين أطراف المنطقة. من هنا يمكن القول أن الأمريكي في العراق سيعمل على استثمار المجالات المذكورة سابقًا، بل وتشكيلها مسارات منسجمة فيما بينها.

سيبقي الأمريكي مسار الحديث عن “حقوق الإنسان وتمكين المرأة العراقية” كمجال للتغلغل في البنية الاجتماعية العراقية وتأسيسه لقضايا يمكن من خلاله التأثير بشكل كبير في المستقبل، وهنا يبدو النشاط الأمريكي والأممي موسّع وكبير ولابد من الالتفات إليه. في حين سيرفع الأمريكي من مستوى التدخل الناعم إذا ما شعر بأن العلاقة المتوازنة التي اتبعها السوداني في سياسته الخارجية بدأت تختل، أو سعي القوى السياسية المحسوبة على المقاومة بدأت تعيد صياغة المشهد السياسي الداخلي بعيدًا عن التوازنات الموجودة حاليًا؛ هنا قد يبرز الحديث أكثر عن مواضيع عديدة، تتميز بأنها محط جدال داخل النخب العراقية وبالتالي الحاجة فقط إلى تحريك المؤسسات الإعلامية وبعض الشخصيات السياسية لإحداث أزمة سياسية وتجاذبات، هذه المواضيع هي: أزمة الموازنة والعلاقة مع إقليم كردستان العراق، مكافحة الفساد وهدر المال العام، وقانون الانتخابات.

يبرز قانون الانتخابات وما يمكن أن يؤدي إلى تصادم عراقي/عراقي كمرحلة تنذر بمحاصرة الحكومة العراقية وعدم الاكتفاء بالضغط السياسي أو الاقتصادي عليها. هنا يبرز النفوذ العميق للأمريكي على المستوى الاقتصادي (المشاريع الاستراتيجية، والشراكة مع الصين) وبنية الدولة الأمنية والعسكرية، وهما قطاعين حساسين لا يمكن أن تقبل الولايات المتحدة الأمريكية المساس بهما. لذا قد يصبح من صالح الأمريكي الذهاب إلى تصادم شيعي شيعي ، إضافةً لتفعيل أزمة انقطاع الكهرباء مع اقتراب الصيف، والضغط بسعر الصرف الأمر الذي سيقود إلى تحريك الشارع العراقي في وجه الحكومة والقوى السياسية والإعلان عن فشلها بالإدارة والحكم وبالتالي العمل على مسار تشكيل حكومة جديدة.

في الخلاصة سيعمل على الأمريكي على منع تقارب أطراف البيت الشيعي، وسيطرة الإطار التنسيقي بالكامل على المشهد السياسي والاقتصادي في المرحلة المقبلة؛ إضافةً لذلك لن يقبل الأمريكي بأي تحويل أو مساس لما يمكن تسميته بـ “النفوذ الاستراتيجي الأمريكي” داخل العراق الأمر الذي قد يدفع الأمريكي على تفعيل الضغط الأقصى وإسقاط حكومة السوداني.

ثالثًا: الحاصل الاستراتيجي للحركة الأمريكية مستقبلاً

يسعى الأمريكي إلى المحافظة على نفوذه في العراق والمنع من محاصرة هذا النفوذ أو حتى منافسته، سواء في القطاع العسكري والأمني أم في مجال الطاقة. وهو يرزح تحت سقف التهدئة مع الدول المنتجة للنفط بسبب الحرب الأوكرانية وما سببته من ضغطٍ متصاعد على الغرب عمومًا وعلى الدول الأوروبية بالخصوص. من هنا يسعى الأمريكي إلى التموضع الهادئ والناعم لناحية العلاقات مع القوى السياسية وتشريع الحركة بحيث لا تثير أيٍّ من حساسيات الأطراف العراقية المقاومة، تحت مبدأ “سحب الذرائع” ونزع المشروعية أمام تحرك هذه القوى في مواجهتها للأمريكي في الساحة العراقية.

يمكن القول أن الأمريكي يعمل على هدف أن تصل حركته وسياسته في العراق غير قابلة للمنع ومشروعية مواجهتها غير متحققة، وذلك بهدف الحفاظ على سقف التهدئة المُتبع تجاه الدول المنتجة للنفط. طبعًا هذا الأمر يضيق حركة القوى المعارضة للوجود الأمريكي، لكنه من جهة يعطي فرصة أمامها كون الأمريكي يسعى للحفاظ على تدفق النفط من العراق وتعويض النقص الحاصل من المملكة العربية السعودية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى