شمعات على طريق الحق
كلٌّ من الإنسان والحيوان تصدر منه أفعال ولكنّ الفارق بينهما أن الحيوان تدفعه غريزته للحركة والأكل والهرب و..، أما الإنسان المتمتع بالعقل فإن حركته منطلقة من دوافع الإيمان والهدفية فيما يتجه نحوه، من هنا تبرز أهمية الإيمان والإعتقاد كونه المحرك والباعث لصدور أفعال الإنسان، ولذلك جاء الأنبياء والأولياء ليصلحوا النفوس ويزرعوا إيمانًا صالحًا، وإلا فإن العمل بلا إيمان لا قيمة له (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ)[1].
في ضوء ذلك يكون الإيمان مقترنًا بالعمل الصالح بل هما يتحدان حتى يصيرا شيئًا واحدًا عند المؤمن، فالإنسان المؤمن لا يعيش الإثنينية بين الإيمان والعمل الصالح بل يكون عمله الصالح تجسيدًا للإيمان، ولذلك بعدما يؤمن الإنسان بربه يجد نفسه مسؤولًا عن عباداته ومعاملاته وينظر إلى الخلق على أنهم عيال الله، فلذلك يلتقي الإيمان والعمل الصالح على صعيد السلوك الفردي والإجتماعي ويكون ذلك منطلقًا للتعاون على البر والتقوى واجتناب الإثم والعدوان والدعوة إلى خط الإستقامة.
يتجلّى الإيمان والعمل الصالح في عبادةٍ طالما أكّد عليها القرآن الكريم والسنة، وللأسف فإن الغالب على هذه الفريضة هو الإهمال، ألا وهي فريضة “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.
النصوص القرآنية كثيرة في الدعوة إلى ذلك ومنها: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[2] (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[3] (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[4].
وفي موضع آخر حينما يعمد الباري تعالى إلى طرح الصفات المختصة بالمجاهدين في سبيل اللَّه أولئك الذين اشتروا الجنة من اللَّه تعالى بأموالهم وأنفسهم، يقول بعد بيان ست صفات من الصفات المتعلقة بهؤلاء المجاهدين (الآمِرُونَ بِالمَعرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ والحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)[5]، هذا هو دأب المجاهدين، يكدحون ويفنون أنفسهم في سبيل اصلاح المجتمعات وتمهيد طريق الحق لسالكيه، ولهم وعد من الله تعالى “مغفرة منه وأجرًا عظيمًا”.
إن طريق الرسالة تعتريه الكثير من الصعوبات والمشاق التي تعيق الحركة، وهذا التدافع الحاصل يدفع الكثير من الرساليين إلى التعب بل اليأس أحيانًا فيسقط بعضهم وسط الطريق، فالإنسان لديه طاقة محدودة ولا يستطيع وحده أن يكمل المشوار في حال كثرت المعاناة والمحن، ولذلك وصف الله سبحانه وتعالى طريق الحق بأنه طريق ذات الشوكة حيث قال (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ)[6].
وفي خضم هذه التحديات ما أحوج أن يكون في أوساط المجتمع المؤمن بروز ووضوح لحالة “التواصي بالحق والتواصي بالصبر”، بحيث يستشعر الفرد بأن هناك أشخاصًا متفقون معه في المبدأ والهدف والجميع يسير معه في هذا الطريق “طريق الحق والإستقامة”.
هؤلاء الأصحاب حقًا، هؤلاء الذين تأوّه عليهم أمير المؤمنين (عليه السلام) بلوعةٍ وتجرع مرّ مفارقتهم فقال عنهم: أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟ أين عمار؟ وأين ابن التيهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنية، وأُبرد برؤوسهم إلى الفجرة.
ثم ضرب بيده على لحيته الكريمة فأطال البكاء ثم قال: أوْهِ على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة، دُعُوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتبعوه[7].
نعم هؤلاء الشهداء والمجاهدون والمضحون مضوا على طريق الحق وأضاؤوه لنا، بشهادتهم وتضحياتهم شخّصوا العدو ورسموا خط المفاصلة بيننا وبينه فكانت جبهتان: جبهة الحق ويمثلها أولياء الله والشهداء والمجاهدون، وجبهة الباطل ويمثلها حكام الظلم والجور وأعوانهم، لقد جسّد هؤلاء مفهوم “عدم الركون للظالم” فكانوا أول الناس مجاهرة بعداء الظالم وبالنهي عن المنكر، ذلك المنكر الذي لا يختص بفرد بعينه بل يعم المجتمع بأكمله، فهم القدوة لنا في سلوك هذا الخط وإكمال الطريق.
____________
- [1] إبراهيم 18
- [2] آل عمران 104
- [3] التوبة 71
- [4] الحج 41
- [5] التوبة 112
- [6] الأنفال 7
- [7] نهج البلاغة خطبة 181.
* هذا المقال يعبر عن رأي صاحبه ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع