الرسول وعلاقته بقومه
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[1]). آمنا بالله صدق الله العلي العظيم.
هذه الآية توضح لنا الصورة لعلاقة النبي محمد كإنسان وكمسئول وكقائد بقومه، وتوضح لنا الأجواء التي تتحرك فيها تلك العلاقة من المحبة والرحمة والخوف والحرص على الأمة، تلك الأجواء التي فتحت عقول الناس وقلوبهم بذكر الله ولدعوته، وأدخلت الناس إلى هذه الأجواء أفواجا في دين الله. وهذه الآية الشريفة المباركة تقيم الحجة على كل حاكم، وعلى كل قائد، وعلى كل رمز، وعلى كل داعية، وعلى كل مصلح، وتدعوهم جميعا للاقتداء بالرسول الأعظم (ص)، وهذا في علاقته بقومه أو بعلاقته بالناس جميعا.
قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ).
لقد جاءكم: الخطاب موجّه من الله جلّ جلاله إلى الناس كافة وليس موجّها إلى المؤمنين خاصة، لقد جاءكم ـ الآية نسبت فعل المجيء إلى الرسول الأعظم (ص) لم تقل مثلا لقد بعثنا فيكم أو أرسلنا إليكم رسولا كريما، وإنما قالت لقد جاءكم للدلالة على الإرادة الخاصة الصادقة لدى الرسول الأعظم (ص) والرغبة الشديدة للرسول الأعظم للقيام بمهام الدعوة، صحيح أن هناك تكليفا من الله عز وجل وأن الرسول الأعظم استجاب لهذا التكليف ولكن الآية تقول إن هناك إرادة خاصة وصادقة لدى الرسول الأعظم (ص)، وهناك رغبة شديدة لدى الرسول الأعظم للقيام بمهام الرسالة وبهداية قومه وإرشادهم وإصلاحهم.
نقدر بأن هناك قسمين من الدوافع لدى الرسول الأعظم للقيام بمهام الرسالة:
القسم الأول من الدوافع: ينبع من علاقته بالله، وهناك علاقة خاصة تربط بين الرسول الأعظم (ص) وربه، وأن هذه العلاقة تولّد لدى الرسول دوافع للقيام بمهام الرسالة.
القسم الثاني من الدوافع: هي الدوافع التي تنبع من علاقة الرسول (ص) بقومه، وهذه العلاقة تولّد لدى الرسول الأعظم دوافع للقيام بمهام الرسالة، الآية الشريفة المباركة ركزت على هذه الدوافع، تنبه إلى هذه الدوافع. هناك دوافع تنبع من علاقة الرسول بالله، وهناك دوافع تنبع من علاقة الرسول بقومه، الآية تريد أن تنبهنا إلى القسم الثاني من الدوافع، وفيها أيضا دلالة على أن الإنسان الذي يرتبط بعلاقة حسنة مع الله لابد بأن يرتبط بعلاقة حسنة مع الناس.
لقد جاءكم رسول: لفظ رسول في الآية ينبهنا إلى أن المجهود الذي يقدمه الرسول الأعظم إلى الناس، المنهج الذي يقدمه الرسول الأعظم إلى الناس، هو ليس من عنده وإنما هو من عند الله، فهو رسول من عند الله يحمل إلى الناس هذا المنهج ويحمل إلى الناس هذا المشروع، وهذا يدل على عظمة هذا المنهج، ويدل على عظمة هذا المشروع، ويدل على كفاءة هذا المنهج وعلى هذا المشروع، ويدل على ملاءمة هذا المشروع مع الناس.
المعنى الأول: أنه بشر مثلكم هو من النفس البشرية، وهذا ينبهنا إلى أن سيرة الرسول – صفات الرسول – مواقف الرسول – هي حجة عليكم، لا تستطيعون أن تقولوا عندما تطالَبون بأن تكون لكم نفس سيرة الرسول، وأن تكون لكم نفس صفات الرسول، وأن تكون لكم نفس مواقف الرسول الأعظم (ص)، لا يمكن أن تحتجوا لتقولوا إنه ليس من البشر، هو بشر يتألم كما تتألمون يفرح كما تفرحون ويحزن كما تحزنون، له مثل العواطف البشرية والمشاعر البشرية، فهو حجة عليكم في سيرته في صفاته ومواقفه، وعليكم أن تقتدوا به وليس لديكم حجة في مخالفته لأنه بشر مثلكم. وأيضا هذا اللفظ فيه تشريف للإنسان، لإنسانية الإنسان؛ فهذه الآية تقول إن الإنسان كإنسان في مقدوره أن يصل إلى هذه المرتبة العالية التي يتفوق فيها على الملائكة، وإن كبار الملائكة وعظماء الملائكة يتصاغرون أمامه، إذا سلك الإنسان مسلك الرسول وانتهج نهج الرسول فهو يستطيع أن يقطع المسافات، ويرتقي في مدارج الكمال ليصل إلى مرتبة عالية في إنسانيته يتفوق فيها على الملائكة.
المعنى الثاني: المعنى الأول ربما يقترب من المعنى الفلسفي، أما المعنى الثاني فيقترب من المعنى الاجتماعي.
الله جل جلاله يريد أن يقول إلى الناس إن الرسول محمد (ص) هو واحد منكم، الناس والمجموعة البشرية أسرة واحدة والرسول يرتبط بها وهو جزء منها تربطه بهم وشائج المحبة، تريد أن تقول لهم إن الرسول (ص) يعيش بينكم ويرتبط معكم برباط المحبة والود والحرص، يعرف مشاكلكم ويسعى إلى حل هذه المشاكل، يتألم إلى آلامكم يفرح إلى أفراحكم، فهو منكم ويرتبط بكم.
وفي هذه الآية حجة على كل حاكم، وعلى كل قائد، وعلى كل رمز، وعلى كل داعية، وعلى كل مصلح. إن هؤلاء عليهم أن يرتبطوا بمجتمعاتهم، أن يعيشوا معهم، أن يختلطوا بهم، أن يتعرفوا على أحوالهم ومشاكلهم، وأن يسعوا إلى حل هذه المشاكل، أن يفرحوا إلى أفراحهم ويحزنوا إلى أحزانهم، وإلا فليسوا أهلا للمواقع التي يحتلونها، الحاكم القائد الرمز الداعية، الذي يعيش منعزلا عن قومه، لا يعرف شيئا عن معاناتهم وعن مشكلاتهم، لا يفرح لأفراحهم ولا يحزن لأحزانهم، هذا لا يستحق الموقع الذي هو فيه.
الحاكم القائد الرمز الداعية المصلح الذي تتعدد له القصور والفلل والشقق الفاخرة، وسائر الناس لا يجدون لهم مسكنا، يمتلك الأراضي الواسعة وأبناء الشعب الواحد منهم لا يستطيع أن يمتلك أرضا ليسكن عليها، يمتلك الثروات الضخمة ويسعى ليزيد هذه الثروة بالحلال والحرام وأبناء الشعب وسائر الناس لا يمتلكون لقمة العيش، هل هؤلاء جديرون بالمقام الذي هم فيه؟ طبعا لا، فالقائد الحاكم الرمز المصلح يجب أن يكون واحدا من الناس يرتبط بالناس، يخالط الناس يعاني ما يعانيه الناس وإلا ليس أهلا للموقع الذي هو فيه.
قوله تعالى: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ).
عزيز عليه ـ أي يشق عليه، شديد عليه، يؤذيه عنتكم.
ما هو العنت؟ العنت له عدة معانٍ:
المعنى الأول: العنت بمعنى الشدة، والمشقة، والضرر، والهلاك، إلى غيره من المعاني.
المعنى الثاني: هو العناد والمكابرة، وبالتالي فلهذه الفقرة من الآية معنيان رئيسيان.
المعنى الأول: أنه يشق على الرسول الأعظم (ص) ويؤلمه ما تقعون فيه من المشقة والشدة ومن الأذى، كل ما يقع عليكم من الشدة والضرر والألم فهو يشق عليه ويؤلمه سواء أكان هذا الضرر في الدنيا أم في الآخرة، وبالتالي فهو يسعى لأن يخلق لكم أوضاعا مريحة وليس العكس، فهو لا يسعى لخلق أوضاع تؤزم المجتمع، وإذا وجدت مشكلة يسعى بجد لحل هذه المشكلة لأنه تؤلمه أية مشقة تقع على الناس، أي ضرر يقع على الناس فهذا يؤلمه، وليس العكس خلق أوضاع صعبة، سواءٌ أكانت أوضاعاً سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم خلق أزمات إلى الناس، التعامل مع الناس وكأنهم أعداء، استخدام الملفات الإنسانية لأهداف سياسية، هذا كله بعيد عما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين القائد وسائر الناس والجمهور، وبالتالي فكل أوضاع دستورية كل أوضاع سياسية، كل أوضاع اقتصادية، كل أوضاع اجتماعية أو ثقافية تشق على الناس، فالحاكم القائد يجب أن يسعى لحلها، وبالعكس يخلق أجواء مريحة، وبالتالي نحن ندرك كم هو غريب وشاذ أن يسعى القائد أو الحاكم لخلق أوضاع متأزمة على أي مستوى دستوري، سياسي، اقتصادي، اجتماعي، حالة شاذة ترفضها الفطرة الإنسانية، وترفضها الشرائع السماوية، وترفضها العقول السليمة.
المعنى الثاني: أن العنت هو المكابرة والعناد، فالآية تقول إنه يشق على الرسول (ص) ويؤلمه رفضكم رسالته إلى الدين التي جاء بها، فما تظهرونه من مظاهر المكابرة والعناد في مواجهة المشروع والمنهج يؤدي إلى ضرر الدنيا وضرر الآخرة، هلاك الدنيا وهلاك الآخرة وهو جاء رحمة للعالمين.
قوله تعالى: (حَرِيصٌ عَلَيْكُم).
الحرص: هي العلاقة الشديدة بالشيء، والرغبة الشديدة في الشيء، والتمسك الشديد بالشيء، فحينما يكون لدينا حرص على شيء فهذا يدل على رغبتنا الشديدة فيه وتمسكنا الشديد به، فالآية عندما تقول (حَرِيصٌ عَلَيْكُم( بمعنى أنه تربطه بكم علاقة قوية، علاقة حميمة، لديه رغبة شديدة في المحافظة عليكم، وهو متمسك بكم لا يريد أن يفرّط فيكم، فهو حريص على هدايتكم وعلى إرشادكم لما يصلح شؤونكم في الدنيا والآخرة، ولما يحقق لكم السعادة في الدنيا والآخرة، وبما يصلح أحوالكم، حريص عليكم بحيث يبعدكم عن كل أذى وعن كل مشقة وعن كل مضرة وعن كل هلاك، وبالتالي حينما يدعو الرسول (ص) إلى الجهاد فهو لا يسعى وراء الجهاد من أجل هلاككم ومن أجل مشقتكم، وإنما من أجل صلاحكم لأن الجهاد يرفع عنكم الذل الهوان ويرفع عنكم الظلم، ولأن الجهاد يحفظ لكم الحقوق ويصون أوضاعكم عن الفساد ويصون أوضاعكم عن التراجع للوراء، فالجهاد رحمة، وحينما يأمر بإقامة الحدود والقصاص فليس ذلك من أجل الانتقام، إنما هو رحمة، لماذا؟ لأن المجتمع بغير قانون يهلك، والقانون يحتاج إلى حماية، ولا يمكن حماية القوانين من دون الحدود والقصاص ـ (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَاب[2]) لأن المجتمع يحيا حينما يكون هناك قانون، وحينما تكون هناك حماية للقانون، أما إذا لم تكن هناك حماية لهذه القوانين فستوجد انتهاكات لهذه القوانين ويهلك المجتمع ويفسد المجتمع (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ)، العبادات الصلاة الزكاة الصوم الحج هي أيضا رحمة؛ لأنها تطهير إلى النفس وتزكية إلى النفس، تعمل على ترقية النفوس وتكميل النفوس، فتكون مصدر خير إلى الناس في الحياة الدنيا، وتتأهل هذه النفوس إلى الثواب الأخروي، ثواب الله يوم القيامة، فالجهاد والحدود والعبادات ليست من أجل المشقة عليكم وإنما من أجل الحرص عليكم.
قوله تعالى: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)
النبي (ص) رحمة للعالمين )وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ[3])، هو كرسولٍ رحمةٌ؛ لأنه يوصل رحمة الله إلى الناس، يوصل دين الله إلى الناس، وهو رحمة في صفاته وفي سيرته، وهو رحمة في دينه وفي رسالته، كما ذكرت الجهاد رحمة، الحدود رحمة، العبادات رحمة، الأحكام كلها رحمة، وهو أيضا يدعو إلى الرحمة، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، يدعوكم إلى التراحم، فالرسول رحمة إلى العالمين ولكنه أيضا له رحمة خاصة بالمؤمنين. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ). الرأفة ـ يعني الرحمة الشديدة، الرؤوف يعني شديد الرحمة، والشفقة على الناس لكي لا يصلهم أي ضرر وأي مشقة فالرسول (ص) به رحمة لكل الناس ولكن لديه رحمة خاصة بالمؤمنين، شديد الرحمة، شديد الشفقة على المؤمنين، وهنا يجب أن نلتفت إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن من رحمته للمؤمنين وأن من شفقته على المؤمنين أنه يدافع عنهم ويحميهم من ظلم الظالمين، فالرسول (ص) رحمة بالمؤمنين يحميهم من الظلم ويحميهم من الإجحاف ويحميهم من الضرر ويدافع عنهم، وحتى في هذا الحال وإن كانت رحمته تتجلى أكثر مع المؤمنين، إلا أنه رحيم بالظالمين أيضا؛ لأنه عندما يمنع الظالمين من إيقاع الظلم يحميهم من العذاب ويحميهم من الهلاك، فحتى في هذه المواقف التي يقف فيها الرسول الأعظم (ص) بالدفاع عن المؤمنين وعن حقوقهم وحمايتهم من الظلم هو أيضا رحيم بالظالمين أنفسهم لأنه يحميهم من العذاب الأليم، الله عز وجل رحيم بالمؤمنين وغير المؤمنين، رحيم بالناس كافة ولكن لديه رحمة خاصة وشفقة خاصة بالمؤمنين، ومن هذه الشفقة ومن هذه الرحمة أنه يدافع عن حقوقهم ويحميهم من الظلم.
المصادر والمراجع
- [1]. سورة التوبة، الآية: 128.
- [2]. سورة البقرة، الآية: 179.
- [3]. سورة الأنبياء، الآية: 107.