دروس من حياة الإمام العسكري
أيها الأحبة الأعزاء، إن حياة الإمام الحسن العسكري (ع) غنية جدا بالدروس والعظات والعبر لمن يريد أن يتعلم ويتعظ ويعتبر (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)[1]، وسوف أقف منها على درسين مهمين، وهما:
الدرس الأول ـ عمره الشريف
لقد تولى الإمام التقي الحسن العسكري (ع) زمام الإمامة بعد وفاة والده الإمام علي الهادي (ع) بتاريخ: (26/جمادى الثانية/254هـ) وكان عمره الشريف (22 عاما)، واستشهد (روحي فداه) على يد الخليفة العباسي (المعتمد) بتاريخ: (8/ربيع الأول/260هـ)، وعمره الشريف (28 عاما)، فكان زمن إمامته (6 سنوات) فقط.
والدرس الذي نستخلصه من ذلك: أن قيمة الإنسان ليست في كبر سنه (كم يعيش في هذه الحياة الدنيا)، وكم يملك فيها من السلطة والقوة والنفوذ والجاه والرمزية أو المال والثروة، وإنما تكمن قيمة الإنسان في قربه الحقيقي من الله (ذي الجلال والإكرام) ومنزلته الرفيعة عنده ورضاه (جل جلاله) عنه، وفيما ينجزه من أعمال نافعة ومواقف صادقة تساهم في خدمة الإنسانية واستقامة الحياة وتطويرها في جميع المجالات وعلى كافة الأصعدة. فقد استشهد الإمامان الجواد والعسكري وجدتهما الزهراء (ع)، وهم في ريعان الشباب، في العشرينات من أعمارهم الشريفة المباركة، وقد قال الله تعالى مخاطبا نبيه الكريم يحي بن زكريا: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[2]، وهذا بخلاف حرص بعضنا على الحياة الدنيا، وتركيز همه الأكبر على طول البقاء فيها، بعيدا عن المضمون والدور الذي يلعبه الفرد في الحياة وصلته برسالتها وغاية وجودنا فيها. فكثيرا ما نردد: يا طويل العمر، وأطال الله عمرك، حتى وإن كان طول بقاء الفرد سببا لمزيد من الشقاء له وللآخرين؛ بسبب الذنوب والجرائم التي يرتكبها، ويحمل أوزارها فوق ظهوره، ومواقفه المخزية التي تترك آثارها السلبية على الإنسان والمجتمع، أو كانت أيامه تكرارا لبعضها بدون زيادة في العلم أو العمل الصالح. وقد قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «من تساوى يوماه فهو مغبون».
أيها الأحبة الأعزاء،علينا ونحن نقف على سيرة هذا الإمام العظيم (ع) وحياته أن نتعلم هذا الدرس البليغ من حياته الشريفة المباركة، بأن تكون حياتنا مزرعة استثمار للآخرة، وساحة تجارية نشيطة مع الله (تبارك وتعالى)، فتكون جهودنا الحقيقية، وتوجهاتنا الصادقة، منصبّة على رسالة الحياة، وغاية وجودنا فيها، بإثراء إنسانيتنا الكريمة، وتحصيل الكمال الإنساني الذي هيأنا الله (جل جلاله) له، ليحصل لنا القرب من الله (ذي الجلال والإكرام) والمنزلة الرفيعة لديه (جل جلاله) والفوز برضاه (عز وجل) وذلك كله من خلال: تحصيل المعرفة اليقينية به (سبحانه وتعالى)، والنظر إلى جميع جوانب الحياة وزواياها وقضاياها وشؤونها من خلال تلك المعرفة، والحرص الشديد على إنجاز الأعمال الصالحة النافعة في الدين والدنيا والآخرة، واتخاذ المواقف الصادقة معه (عز وجل) ومع العباد. والحذر كل الحذر من القشور ومن الادعاءات الكاذبة، ومن اللجوء إلى الطلاسم والأعمال المموهة (كما يفعل بعض المشعوذين)، ومن ترديد الكلمات التي ليس وراءها يقين، ولا أعمال صالحة، ولا مواقف صادقة؛ للإيهام الكاذب بالمعرفة والقرب والمنزلة الرفيعة عند الله (جل جلاله)، فإنها من الكذب، وهي لا تسمن ولا تغني من جوع، وإن ضررها كبير، ونتائجها وخيمة على العبد في الدنيا والآخرة.
الدرس الثاني ـ التمهيد للغيبة
يعتبر الإمام الحسن العسكري (ع) الحلقة الأخيرة في سلسلة الظهور، وبعد عهده الشريف بدأ عصر الغيبة الصغرى ثم الكبرى. وكان الإمام الحسن العسكري (ع) يخضع للإقامة الجبرية والرقابة الدقيقة من السلطة الغاشمة، وممارسة الإرهاب والعنف ضده وضد شيعته الأبرار؛ لأنهم يمثلون القوة المعارضة الأبرز والأكثر جدية وفاعلية وخطورة على السلطة الغاشمة. وفي ظل تلك الظروف الصعبة والمعقدة تحمل الإمام (ع) مسؤولية الإعداد والتهيئة لعصر الغيبة، بما تطلبته من حذر شديد وحسن التدبير والتخطيط والتربية والقيادة، وقد أنجزت المهمة على أحسن وأكمل وجه. وهذا يدل على أن الإمام الحسن العسكري (ع) كقائد: كان يمتلك شجاعة كبيرة، ورؤية دينية وفكرية وسياسية واضحة، ورؤية واضحة للأهداف، ويمتلك تخطيطا محكما لحركته، وتربية صحيحة كاملة لقواعده الجماهيرية وللكوادر القيادية الفاعلة في حركته، وإدارة دقيقة لها وللمواقف والأوضاع العامة في ساحة الحركة. ولم يكن مسايرا للسلطة والقوى الغاشمة، ولم يقبل القبول الذليل بالأمر الواقع – كما يتوهم البعض – وإنما كان رافضا ومقاوما لها ومستعدا للتضحية في سبيل الله (تبارك وتعالى) وتحقيق الأهداف المقدسة لمشروع السماء العظيم. وقد حذرت المؤمنين الأعزاء في مناسبات سابقة من تلك الأطروحات التي توهم الناس بقبول الأئمة (ع) بالأمر الواقع الظالم والمنحرف، وتعايشهم مع الطواغيت والظالمين والمستبدين والمفسدين في الأرض، في سبيل تبرير مواقف بعض الرموز والقيادات أو منهجهم في العمل أو تبرير بعض التوجهات المسايرة للسلطة وقوى الاستكبار العالمي؛ وذلك لأنها أطروحات مخالفة للواقع، وفيها إساءة للرب الجليل الذي استخلص الأئمة (ع) لنفسه ودينه، ورفدهم بعلمه، وجعلهم الذريعة إليه، والوسيلة إلى رضوانه، وفيها كذلك: إساءة لمقام الإمامة العظيم، وجهل لدور الإمام في مشروع السماء العظيم، ورسالته في حياة الإنسان وخدمة الإنسانية.
والدرس الذي نستخلصه من ذلك: أن نرفض الانحراف والظلم والاستبداد والاستكبار والفساد؛ لأن القبول بها: ضد الفطرة والعقل والدين والضمير والأخلاق والاقتداء بالأولياء الصالحين (ع)، وأن تكون لنا قيادة مؤمنة واعية مقدامة وشجاعة وجريئة في مواقفها، تمتلك رؤية دينية وفكرية وسياسية واضحة، ورؤية واضحة للأهداف، وتمتلك تخطيطا محكما للحركة، وتتمتع بحسن التربية والقيادة والإدارة للكوادر والقواعد الجماهيرية وللمواقف والأوضاع العامة، ولا تأخذها في الله (عز وجل) لومة لائم، وذلك من أجل تحقيق الأهداف الإسلامية والوطنية المقدسة للحركة.
وفي الختام، وبمناسبة افتتاح هذا المهرجان المبارك، وفي ظل الإحباط المتزايد في الساحة السياسية المحلية، فإني أدعوكم – أيها الأحبة الأعزاء – لزيادة الاهتمام بإحياء المناسبات الدينية (الوفيات والمواليد وغيرها)، فإنها (كما ذكرت في مناسبات كثيرة سابقة) الملاذ الأول الحصين لجماهيرنا المسلمة الغيورة على دينها ووطنها؛ للمحافظة على حضورها الفاعل في الساحة، وارتفاع معنوياتها في الرفض والمقاومة والبناء والتعمير.
أوصيكم – أيها الأحبة الأعزاء – بالسعي لتطوير الاحتفالات الدينية وتنويع أشكال الإحياء، وذلك على الأسس الثلاثة التالية:
الأساس الأول ـ الأصالة والنقاء: وذلك من خلال مراعاة الأطر والأحكام الشرعية في الإحياء، وتنقيته من كل شوائب الانحراف والإساءة.
الأساس الثاني ـ توسيع دائرة المشاركة الشعبية: وذلك من خلال الحرص على مشاركة كافة الشرائح والمستويات من الجنسين: الرجال والنساء، ولكافة الأعمار: الأطفال والشباب والشيوخ، وتنويع الأنشطة لتستوعب كافة المواهب الفكرية والأدبية والفنية وتلبي كافة الأذواق في المجتمع. على أن تكون المشاركة ليست بالحضور فحسب، وإنما بالاشتراك في الأنشطة المتنوعة في الإحياء، كما هو موجود فعلا في مهرجانكم هذا.
الأساس الثالث ـ المنفعة: وذلك من خلال الحرص على أن يكون الإحياء مفيدا لكافة الشرائح والمستويات المشاركة في الإحياء في الدين والدنيا، بأن تخرج بفوائد عملية بعد المشاركة، بأن تحصل على المزيد من المعرفة بالله (سبحانه وتعالى) والقرب منه (عز وجل) والمعرفة النافعة بأهل البيت (ع) وطاعتهم والقرب من منهجهم وخطهم في الحياة، والاقتداء بهم (ع) في السلوك الصالح، والمواقف الصادقة، والأعمال النافعة في الدين والدنيا والآخرة، والمعرفة بكافة شؤون الحياة العامة وقضاياها الجوهرية والحيوية، وتحمّل المسؤولية العامة الشرعية والأخلاقية نحو الدين والوطن والعباد، وليس الدخول والخروج بدون فائدة، كما يقال: “دخلت وأنا جوعان، وخرجت وأنا جوعان”، فيفقد الإحياء قيمته، وتضيع غايته ورسالته والهدف منه في الحياة.
أيها الأحبة الأعزاء، إن حقيقة الإحياء والمشاركة والزيارة لأهل البيت (ع) وقيمتها تكمن في قدرتها على أن تجعلنا قريبين من منهجهم (ع) وخطهم في الحياة، وتحملنا على الاقتداء بهم (ع) في السلوك والمواقف والأعمال الصالحة. وبدون ذلك: يصبح الإحياء ممارسة فارغة من المضمون، وتصبح المشاركة والزيارة فاقدة للقيمة والمعنى، وتضيع رسالتها وأهدافها في الحياة، وتصبح بدون فائدة حقيقية!!
أيها الأحبة الأعزاء، أكتفي بهذا المقدار، وأستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم، وأستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
المراجع والمصادر
- [1]. سورة ق، الآية: 37.
- [2]. سورة مريم، الآية: 12.