ثقافة

سلاح البصيرة

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)[1]

كربلاء كمعركة انتهت في ظهيرة اليوم العاشر من محرم في عام 61 هـ ولكن تموجات كربلاء وعاشوراء استمرت إلى يومنا هذا وسوف تستمر إلى يوم ظهور الإمام صاحب العصر والزمان وإلى آخر زمان وأن أحد أهم شعارات الإمام زمان حين ظهوره يرفع شعار «يا لثارات الحسين »، في كل صراع يستخدم العدو أسلوبين لقهر خصمه، الأسلوب الأول الذي يستخدمه الأعداء والطغاة والمجرمين والجبابرة هو «سلاح الخدعة والمكر»، والسلاح الثاني هو «سلاح القوة القهر»، روي عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «كان عمي العباس نافذ البصيرة صلب الإيمان »، نحن أمام هذين السلاحين الذي يستخدمهما الجبابرة والطغاة نحتاج إلى سلاحين يوازيهما ويستطيعان أن يردعاهما ولكن ما السلاحين التي ممكن للأمة والشعوب المقهورة والمظلومة أن تستخدمهما لرد سلاح الطغاة والجبابرة، هذين السلاحين هم الذين وردا في كلمة الإمام الصادق (ع) في وصفه لأبا الفضل العباس (ع).

أول سلاحٍ يمكن لنا أن نقارع به سلاح الخدعة والمكر هو «سلاح الوعي والبصيرة» والسلاح الثاني الذي يمكننا أن نقارع به سلاح القوة والقهر هو «سلاح صلابة الإيمان»، البصيرة في اللغة هي «الإدراك والفطنة» وفي الاصطلاح هي «انفتاح عين القلب واستشفاف النتيجة ورؤيتها من البداية وهي ملكة تقييم الأيام الآتية من اليوم المعاش»، يعني يمكن لصاحب البصيرة أن يقرأ الأحداث وما سيجري من الآن قبل أن تصبح الأحداث، في القاموس يقول نافذ البصيرة بمعنى «قوي الإدراك وثاقب الفكر»، ويقول صاحب تفسير الميزان البصيرة هي «رؤية القلب والإدراك الباطني»، إذا امتلك الإنسان المؤمن البصيرة لم يتمكن الطغاة والجبابرة والمجرمون أن يخدعون، وكذلك إذا امتلكت الشعوب البصيرة والوعي فسيستحيل على الطغاة والجبابرة أن يخدعوا هؤلاء الشعوب وخصوصاً الشعوب المظلومة والمقهورة، مشكلتنا اليوم هي أن مجتمعاتنا تفتقد للوعي والبصيرة، مسؤولية النخب وعلماء الدين وفئة الشاب الواعية هي أن ترفع مستوى البصيرة في الأمة، كيف يمكن لنا أن نستحصل هذه البصيرة.

أمير المؤمنين (ع) له رواية يقول: «نظر البصر لا يجدي إذا عميت البصيرة» هذا البصر الذي نرى به ظواهر الأمور، لا فائدة منه إذا مات فكرنا ووعينا ورؤية قلبنا للأحداث وللأمور.

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا)[2]، الفرقان هو الذي يميز ويوضح الأمور ويفرق بين الحق والباطل، إذن التقوى توجد البصيرة، الإخلاص لله سبحانه وتعالى يوجد البصيرة للإنسان، قال تعالى ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)[3]، الجهاد في الله في سبيل الله، هنا عندما قال (فينا) أشار إلى الإخلاص والخلوص في العمل، أن يكون العمل كله لله، عندما يكون الفرد وتكون الأمة مخلصة لله، الله سبحانه وتعالى يقذف هذا النور في قلوبهم ليبصروا ويميزوا الأشياء، لذلك البصيرة هي رؤية القلب وليست رؤية العين.

أيضاً من الأمور التي تجلب البصيرة للأفراد والشعوب والأمم هي «معرفة ودراسة تجارب البشرية»، تجارب الآخرين والبشرية عندما يطّلع الإنسان على تجارب الآخرين والشعوب والبشرية هذا تعطيه معرفة لكيفية استخدام الطغاة والمجرمين لأساليبهم، أيضاً عندما يكون هناك عدو، الأمة والفرد الذي يدرس ويعرف أساليب العدو ممكن أن يتحصل على البصيرة.

إذن البصيرة لها أداتين:

  1. اللطف الإلهي وقذف الله سبحانه وتعالى هذا النور في قلب الإنسان من خلال التقوى والإخلاص.
  2. دراسة تجارب السابقين ودراسة أساليب العدو.

البصيرة التي تحدّث عنها الإمام الصادق (ع) في قوله: «كان عمي العباس (ع) نافذ البصيرة صلب الإيمان» تجلّت في العباس في عدة موارد، العباس بن علي (ع) لم يذكر لنا التاريخ في كثير من حياته ولكن ما جرى وما نقل عنه في كربلاء كافي لأن نعرف بأن شخصية العباس لم تكن شخصية عادية، عندما حلّت ليلة عاشوراء كان خال العباس موجود في صف بن زياد وعمر بن سعد، فتشاور مع الشمر اللعين قال له: ما رأيك بأن نأخذ الأمان لأبناء أختنا من بن زياد؟ فأيده الشمر، فذهبا إلى بن زياد وطلبوا منه صك أمانٍ ورقة يكتب فيها «الأمان لعباسٍ وأخوته»، ذهبوا أخذوا هذا المكتوب وذهبوا به إلى شمر بن ذي الجوشن مع شخص اسمع كزمان مولى ابن حزام الكلبي وهو خال العباس، ذهبوا به إلى مخيمات الإمام الحسين وبدأوا يصيحون على مخيم الإمام الحسين وقالوا: «أين أبناء أختنا؟» عرفوهم أنهم برسالة من ابن حزام فخرج العباس وأخوته وقالوا: «ماذا تريد؟» قال: جئنا بأمانةٍ من بن زياد، أنت وأخوتك شفعنا لك عند بن زياد وجئنا لك بالأمان من أجل أن تخرج من المعسكر وتحصل على الأمان وتذهب، هذا الأمر لماذا فعلوه؟ هذا الأمر فعلوه بعد كلام الإمام الحسين (ع)، الإمام الحسين (ع) عندما خطب بالقوم قال لهم مو أنتون الذين أرسلتم لي الرسائل والكتب من أجل أن آتيكم، إذا أنتم تراجعتم عن موقفكم خلوا ليي السبيل لكي أرحل، رفضوا قالوا لا نتركك إما أن تبايع الأمير أو أن نقتلك، أرادوا أن يفتتوا جيش الحسين بن علي (ع) فوضعوا هذه الخطط، كل فرد وجماعة يريدوا أن يأتوا إلى أنصار الإمام الحسين (ع) ويقدموا له الأمان بشكلٍ منفرد حتى يتفتت الجيش عن أبي عبدالله الحسين (ع)، ولكن ماذا كان العباس وأخوته، أجابهم أبي الفضل العباس: «لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟» لو لم يكن لدى أبا الفضل العباس وعي وبصيرة كافية ممكن أن يُخدع بأنه تعال احنا راح الآن نعطيك الأمن وبعد ذلك نتفاوض بشأن الحسين إلى أن يحيّلوا أبا الفضل العباس وأخوته ويأتوا إلى أنصار الإمام الحسين الواحدة تلو الأخر ويفتتوا جيش الحسين (ع) ويستطيعون أن يأخذوا الإمام الحسين ويفعلوا به ما يشاؤون، ولكن بسبب وعي أبا الفضل العباس وأخوته رفضوا هذا الأمان واشترطوا أن يكون الأمان إلى بنت ابن رسول الله الإمام الحسين (ع)، أيضاً من الأمور التي هي تكون شاهدة وعلامة وقرينة أن كل المفاوضات التي حصلت أو أغلب المفاوضات التي حصلت بين جيش الإمام الحسين (ع) وبين جيش ابن سعد كان الإمام الحسين (ع) يُرسل أبا الفضل العباس ليفاوض القوم ومنهم ليلة العاشر حينما زحف جيش عمر بن سعد باتجاه الإمام الحسين (ع) وأرادوا أن يبدأوا المعركة في يوم التاسع من محرم، أرسله الإمام الحسين (ع) وقال له: أطلب منهم يمهلون سواد هذه الليلة، فذهب الإمام الحسين وفاوضهم وعندما رجع كان الإمام الحسين (ع) يسأل أبا الفضل العباس عن تقييمه لموقفهم، هذا إن دلّ على شيء دل على ثقة الإمام الحسين بتقييم وقدرة أبا الفضل العباس على المفاوضة وتحليل الأمور.

أيضاً بالنسبة إلى صلابة الإيمان الذي تحلّى به أبا الفضل العباس واضحة جداً في … الذي كان يرتجزه في المعركة، عندما قاتل العباس يذكر الرواة بإن الإمام الحسين (ع) أخبر القوم بأنه غداً  سوف تبدأ المعركة وبأن كلنا سنقتل، يقول أنه ظهر في وجوه القوم الخوف والرعب بل حتى أن زهير بن القين جاء ليوصي أبا الفضل العباس، قال له: هذا أخوكم غريب وذكر له القصة التي على أثرها تزوج أمير المؤمنين أم البنين حينما قال لأخيه ابحث لي عن امرأةً ولدتها الفحول من العرب، ذكر له وذكّره بهذه الحادثة، فقال له بأن أمير المؤمنين أنجبك من أجل هذه الليلة فالله الله بأخيك الحسين، فغضب العباس وقال أوتذكرني بنصرة الحسين؟ يعني هذه مسألة فارغة ومحسومة بالنسبة لي، أصلاً لا أقبل حتى أحد يناقشني في هذه المسألة، عندما دخل العباس بن علي (ع) المعركة وقطعوا يمينه، كان يرتجز ويقول: «والله لو قطعتموني يميني إني أحامي أبداً عن ديني وعن إمامٍ صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين»، المعاني الموجودة في الشعر تظهر أن دفاعه واستماتته عن الإمام الحسين (ع) ليس فقط لأنه أخاه بل لأنه إمام زمانه ولأنه ابن بنت رسول الله (ص)، دخل المعركة وقاتل قتالاً شديداً فقطعوا يساره، فأرجز يقول: «يا نفسُ لا تخشيْ من الكفار وأبشري برحمة الجبار مع النبي المصطفى المختار قد قطعوا ببغيهم يساري فأصبهم يا رب حر النار»، عجيب .. في وسط المعركة مع حرارة السيوف ونزف الدماء وقطع الأطراف يتكلم كلاماً عجيباً غريباً كله إيمان وثقة بالله سبحانه وتعالى، هذه صلابة الإيمان التي تجلت في العباس لا يمكن أن تكون وليدة اللحظة، يستحيل أن تكون هذه الصلابة وليدة اللحظة.

لذلك أنا أعتقد أن مسؤوليتنا اليوم كلنا كشباب كأفراد كثوار أن نفكر كيف تحصل أبا الفضل العباس على صلابة الإيمان؟ أعتقد أن هناك عنصرين هما الذين يساعدون على إيجاد صلابة الإيمان وهذا الذي نرجوه أن يكون في شبابنا، وظيفتنا نحن كأفراد والثوار في البحرين والشباب في السجون أن يستحصلوا على صلابة الإيمان.

كيف يمكنهم أن يستحصلوا على صلابة الإيمان؟

  1. بناء الوعي الفكري: إذا استطعنا أن نبني وعياً فكرياً وعقائدياً ممكن أن نحقق العنصر الأهم والأول في مسألة تحقيق صلابة الإيمان.
  2. العبودية الله وبناء البعد المعنوي للإنسان: نحن كشباب كمجاهدين كأنصار للحق كالسائرين على خط الحسين بن علي (ع) كأبناء مدرسة كربلاء علينا أن نسعى في البناء البعد الروحي والمعنوي في أنفسنا، وعلينا أن نسعى لنشر الحالة المعنوية في أوساط مجتمعاتنا من خلال العبادة وأداة الصلوات الواجبة في أوقاتها والصلوات المستحبة كصلاة الليل والنوافل والمناجاة مع الله سبحانه وتعالى وتلاوة القرآن، هذه العبادات بالمعنى الأخص في تقوي روحية الإنسان وتقوي العلاقة بن الإنسان وربه.

إذا استطعنا أن نوفر هذين العنصرين، عنصر الثقافة والوعي وعنصر البناء الروحي أمكننا أن نحصل على صلابة الإيمان التي من خلالها لا يمكن لأي عدوٍ مهما كان، أمريكا؛ إسرائيل؛ درع الجزيرة؛ قوات التحالف؛ الخليفيين؛ كلهم لا يمكن أن يصمدوا أمام البصيرة وأمام البناء الروحي وصلابة الإيمان.

أسال الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا ويفرج عن معتقلينا ويفك أسرانا ويرحم شهدائنا ويرزقنا شفاعة الحسين وأصحاب الحسين ويوفقنا لأداة رسالة الله في الأرض ونقارع الظالمين ويختم حياتنا بالشهادة في سبيله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المراجع والمصادر

  • [1]- البقرة: 214
  • [2]- الأنفال: 29
  • [3]- العنكبوت: 69

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى