وثائق وأحداث

مجريات الزيارة الأخيرة للشهيد المجاهد أحمد عيسى الملالي

تلقى والد الشهيد في صباح يوم الجمعة الموافق ٢٠١٩/٧/٢٦م اتصالاً من إدارة سجن جو، أخبروه بأن هناك زيارة خاصة للشهيد في تمام الساعة الثانية ظهراً وأن عليه اصطحاب خمسة عشر شخصاً من الأقارب. 

كانت آخر زيارة للشهيد قبل يومين من تلقي هذا الإتصال مما أوحى الى أقارب الشهيد بأن النظام ماضٍ في تنفيذ حكم الإعدام الظالم على الشهيد.

استنفرت العائلة بعد سماعها الخبر وكنا مصدومين بادئ الأمر الى أن حان موعد صلاة الظهر.

توجهنا بعد الصلاة مباشرة الى سجن جو وكنا ما يقارب خمسة وثلاثين شخص من أقارب الشهيد جميعنا من الدرجة الأولى في القرابة.

وصلنا الى مواقف سيارات السجن حوالي الساعة الواحدة والربع وكان الجو حاراً جداً حيث الشمس في كبد السماء وكان الإستنفار الأمني مشدداً جداً في محيط السجن وعند اكتمال وصول جميع سيارات العائلة شرعنا في النزول من السيارات فأشار الينا أحد عناصر الأمن بالانتظار في مواقف السيارات.

في تمام الساعة الثانية أشاروا الينا بالتوجه الى داخل السجن وعند دخولنا خضعنا لتفتيش دقيق جدا خصوصاً النساء.

طلبوا من أب الشهيد اختيار خمسة عشر شخص فقط من الأقارب كدفعة أولى وقالوا بأن الباقي سيتم إدخالهم بعد انتهاء الدفعة الأولى من الزيارة.

تم إدخالنا الى المبنى المخصص للزيارات على دفعات. كل خمسة أشخاص على حدة.

عند اكتمالنا داخل مبنى الزيارات أشاروا الينا بالذهاب الى غرفة تقع في نهاية ممر طويل كان يقف على جانبيه جمع غفير من عناصر الأمن الرجالية والنسائية كلهم يحملون السلاح والهراوات بوضع الإستعداد بهدف ترهيبنا.

وصلنا الى باب الغرفة فصاحت احدى عناصر الأمن النسائية بزميلاتها شامتة:

تعالوا لنرى الفيلم فاجتمعوا وتسمروا عند نافذة كانت مفتوحة من الجانبين على الغرفة المعدة للزيارة وذلك كي يستمعوا لما يدور من حديث بيننا وبين الشهيد.

دخلنا غرفة الزيارة وكان يحيط بجدرانها الثلاثة كراسي حديدية بعددنا الخمسة عشر وكرسي بلاستيكي يتوسط الجدار الرابع للغرفة وعلى يسار ذلك الكرسي يوجد باب آخر للغرفة غير الذي دخلنا منه وفي السقف نصبت كاميرا أمنية لتصوير مجريات المقابلة.

طلبوا منا الجلوس فجلسنا بصمت كل منا ينظر الى الآخر وسرعان ما فتح الباب الذي على يسار الكرسي البلاستيكي فكانت أنظارنا شابحة لذلك الباب. دخل علينا الشهيد فوقفنا جميعاً وصحنا بأعلى أصواتنا “اللهم صل على محمدٍ  وآل محمد” والإبتسامات ترتسم على محيانا جميعاً فارتجت تلك الغرفة.

أخذنا نعانق الشهيد بالأحضان والقبل واحدا تلو الآخر الى أن انتهينا فرجع كل منا الى مقعده وجلس الشهيد على الكرسي البلاستيكي الذي سرعان ما تركه وأخذ يتنقل بالجلوس بيننا.

تبادل كل منا الأحاديث مع الشهيد وكانت المعنويات عالية جداً وكان كل منا يلاطف الآخر ويمازحه بكلمات لا مجال فيها للمجاملة أو الرياء وعبر كل منا عن مشاعره الصادقة بكلمات قدسية لم تكن من عادتنا البوح بها طيلة حياتنا وشعر كل منا بارتياح نفسي لم نشعر به قط فعرفنا حينها بأن هناك ألطاف خفية تحيطنا وأرواح قدسية حاضرة معنا في تلك الغرفة، مسحت على قلوبنا فأزالت الخوف منها وبثت في أرواحنا العزة والكرامة.

استنفذ كل واحد منا حديثه الخاص مع الشهيد فدارت لحظة صمت رهيب وكأن على رؤوسنا الطير وهم لا زالوا متسمرين عند تلك النافذة يسترقون السمع كاللصوص فانتهزنا هذه الفرصة ورفعنا اصواتنا بشجاوةٍ مستحضرين أدعية قصيرة من أدعية أهل البيت (ع) : ” يا مَنْ يَمْلِكُ حَوائِجَ السّائِلينَ ، و يَعْلَمُ ضَميرَ الصّامِتينَ ، لِكُلِّ مَسْأَلَة مِنْكَ سَمْعٌ حاضِرٌ وَ جَوابٌ عَتيدٌ ، اَللّـهُمَّ وَ مَواعيدُكَ الصّادِقَةُ ، و اَياديكَ الفاضِلَةُ ، و رَحْمَتُكَ الواسِعَةُ ، فأسْألُكَ أن تٌصَلِّيَ عَلى مُحَمَّد وَ آلِ مُحَمَّد ، و أنْ تَقْضِيَ حَوائِجي لِلدُّنْيا وَ الآخِرَةِ ، اِنَّكَ عَلى كُلِّ شيء قَديرٌ”. ” يامَنْ أَرْجُوهُ لِكُلِّ خَيْرٍ وَآمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُلِّ شَرٍّ، يامَنْ يُعْطِي الكَثيرَ بِالقَلِيلِ، يامَنْ يُعْطِي مَنْ سَأَلَهُ، يامَنْ يُعْطِي مَنْ لَمْ يَسأَلْهُ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ تَحَنُّنا مِنْهُ وَرَحْمَةً ؛ أَعْطِنِي بِمَسأَلَتِي إِيّاكَ جَمِيعَ خَيْرِ الدُّنْيا وَجَمِيعَ خَيْرِ الآخرةِ، واصْرِفْ عَنِّي بِمَسْأَلَتِي إِيَّاكَ جَمِيعَ شَرِّ الدُّنْيا وَشَرِّ الآخرةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ ماأَعْطَيْتَ وَزِدْنِي مِنْ فَضْلِكَ ياكَرِيمُ، ياذا الجَلالِ وَالاِكْرامِ ياذَا النَّعَماءِ وَالجُودِ ياذَا المَنِّ وَالطَّوْلِ حَرِّمْ شَيْبَتِي عَلى النَّار”.

ثم شرعنا بقراءة دعاء الفرج لمولانا صاحب العصر والزمان عجل الله فرجه الشريف فوقف الجميع مرددين بأعلى أصواتنا وكان الشهيد أكثر المتفاعلين في هذا الدعاء حيث كنا نشكل حلقة حوله وهو رافع يده عالياً الى السماء: “اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين، وَهَبْ لَنا رَأَفَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَدُعاءَهُ وَخَيْرَهُ مانَنالُ بِهِ سَعَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَفَوْزاً عِنْدَكَ، وَاجْعَلْ صَلاتَنا بِهِ مَقبُولَةً، وَذُنُوبَنا بِهِ مَغْفُورَةً، وَدُعاءَنا بِهِ مُسْتَجاباً وَاجْعَلْ اَرْزاقَنا بِهِ مَبْسُوطَةً، وَهُمُومَنا بِهِ مَكْفِيَّةً، وَحَوآئِجَنا بِهِ مَقْضِيَّةً، وَاَقْبِل الَيْنا بِوَجْهِكَ الْكَريمِ وَاقْبَلْ تَقَرُّبَنا اِلَيْك، وَانْظُرْ اِلَيْنا نَظْرَةً رَحيمَةً نَسْتَكْمِلُ بِهَا الْكَرامَةَ عِنْدَكَ، ثُمَّ لا تَصْرِفْها عَنّا بِجُودِكَ، وَاسْقِنا مِنْ حَوْضِ جَدِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِكَأسِهِ وَبِيَدِهِ رَيّاً رَوِيّاً هَنيئاً سائِغاً لا ظَمَاَ بَعْدَهُ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ”.

عند وقوفنا لقراءة دعاء الفرج، أصاب عناصر الأمن الذهول، فخرجوا منالغرفة ينظرون الينا مذهولين وما إن  رأو الشهيد متوسطاً حلقة الدعاء، خرجو من الغرفة وأغلقوا الباب وراءهم.

عندما انتهينا من قراءة دعاء الفرج، جلس كل واحد منا في مقعده، وطلبت أم الشهيد أن نكثر من قراءة الأدعية المأثورة عن أهل البيت (ع) وتوجهت الى فلذة كبدها وطلبت منه أن يجلس بينها وبين أبيه، فأخذت تلاطفه وتمسح على قلبه تارة وتشمه وتقبله تارة أخرى، فسألها عن فعلها، فقالت له، هذا ما تعودت فعله منذ صغرك يا حبيبي ويا قرة عيني الى أن سجنت، فقال لها مواسياً وملاطفاً: “كلها كم ساعة يا أماه وأنا مع الحور العين، واللقاء معكم عند أمير المؤمنين (ع) “، ثم قال: “أنا لن أموت يا أماه، فالشهيد لا يموت” وتلا قوله تعالى: “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”، ثم قال: “أنا سيحضر لي الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه وأهل البيت (ع) جميعهم سيحضرون” وقال: “دم الشهيد إذا سقط، فبعين الله يسقط”، وكان يسلينا بترديد هذه العبارة عدة مرات، ثم وقف على رجليه وأشار الى عنصرين من الأمن  من أصول أجنبية عن تراب هذا الوطن الطاهر وقال هاذين هما اللذان عذباني وهما اللذان أخذا الشهداء الثلاثة الذين اعدموا في ما يعرف بقضية الشحي وضرب على صدره عدة مرات وقال لإن قدر الله ولم أرزق الشهادة فأنا من سيقتص منكما، وإن رزقت الشهادة فمن خلفي رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فانصرف الذين أشار اليهما الى آخر الممر الذي قدمنا منه والخوف والإرتباك بادٍ عليهما. عندها قال أبو الشهيد (الحاج عيسى الملالي): أنت بطل يا ولدي، أنت رفعة راس، رفعت رؤوسنا عالياً، أنت مفخرة لنا جميعاً.

عندها استحضرنا المقطع الأخير من دعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) الذي علمه لكميل بن زياد، ورفعنا اصواتنا عالياً والكل يقرأ بصوت مرتفع:

إِلهِي وَسَيِّدِي فَأَسْأَلُكَ بِالقُدْرَةِ الَّتِي قَدَّرْتَها، وَبِالقَضِيَّةِ الَّتِي حَتَمْتَها وَحَكَمْتَها، وَغَلَبْتَ مَنْ عَلَيْهِ أَجْرَيْتَها، أَنْ تَهَبَ لِي فِي هذِهِ اللّيْلَةِ وَفِي هذِهِ السَّاعَةِ، كُلَّ جُرْمٍ أَجْرَمْتُهُ، وَكُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتُهُ، وَكُلَّ قَبِيحٍ أَسْرَرْتُهُ، وَكُلَّ جَهْلٍ عَمِلْتُهُ، كَتَمْتُهُ أَوْ أَعْلَنْتُهُ، أَخْفَيْتُهُ أَوْ أَظْهَرْتُهُ، وَكُلَّ سَيِّئَةٍ أَمَرْتَ بِإِثْباتِها الكِرامَ الكاتِبِينَ، الَّذِينَ وَكَّلْتَهُمْ بِحِفْظِ ما يَكُونُ مِنِّي، وَجَعَلْتَهُمْ شُهُوداً عَلَيّ مَعَ جَوارِحِي، وَكُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشَّاهِدَ لِمَا خَفِي عَنْهُمْ وَبِرَحْمَتِكَ أَخْفَيْتَهُ، وَبِفَضْلِكَ سَتَرْتَهُ، وَأَنْ تُوَفِّرَ حَظِّي مِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَنْزَلْتَهُ، أَوْ إِحْسانٍ فَضَّلْتَهُ، أَوْ بِرٍّ نَشَرْتَهُ، أَوْ رِزْقٍ بَسَطْتَهُ، أَوْ ذَنْبٍ تَغْفِرُهُ، أَوْ خَطَأٍ تَسْتُرُهُ، يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ، يا إِلهِي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَمالِكَ رِقِّي، يامَنْ بِيَدِهِ ناصِيَتِي، يا عَلِيماً بِضُرِّي وَمَسْكَنَتِي، يا خَبِيراً بَفَقْرِي وَفاقَتِي، يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ، أَسأَلُكَ بِحَقِكَ وَقُدْسِكَ وَأَعْظَمِ صِفاتِكَ وَأَسْمائِكَ، أَنْ تَجْعَلَ أَوْقاتِي فِي اللّيْلِ وَالنَّهارِ بَذِكْرِكَ مَعْمُورَةً، وَبِخِدْمَتِكَ مَوْصُولَةً، وَأَعْمالِي عِنْدَكَ مَقْبُولَةً، حَتَّى تَكُونَ أَعْمالِي وأوْرَادِي كُلُّها وِرْداً وَاحِداً، وَحَالِي فِي خِدْمَتِكَ سَرْمَداً. يا سَيِّدِي يامَنْ عَلَيْهِ مُعَوَّلِي، يامَنْ إِلَيْهِ شَكَوْتُ أَحْوالِي، يا رَبِّ يا رَبِّ يا رَبِّ، قَوِّ عَلى خِدْمَتِكَ جَوارِحِي وَاشْدُدْ عَلى العَزِيمَةِ جَوانِحِي، وَهَبْ لِيَ الجِدَّ فِي خَشْيَتِكَ، وَالدَّوامَ فِي الاِتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ حَتَّى أَسْرَحَ إِلَيْكَ فِي مَيادِينِ السابِقِينَ، وأُسْرِعَ إِلَيْكَ فِي البَارِزِينَ، وَأَشْتاقَ إِلى قُرْبِكَ فِي المُشْتاقِينَ، وَأَدْنُوَ مِنْكَ دُنُوَّ المُخْلِصِينَ، وَأَخافَكَ مَخافَةَ المُوقِنِينَ، وَأَجْتَمِعَ فِي جِوارِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ.

اللّهُمَّ وَمَنْ أَرادَنِي بِسوءٍ فَأَرِدْهُ، وَمَنْ كادَنِي فَكِدْهُ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَحْسَنِ عَبِيدِكَ نَصِيباً عِنْدَكَ، وَأَقْرَبِهِمْ مَنْزِلَةً مِنْكَ، وَأَخَصِّهِمْ زُلْفَةً لَدَيْكَ، فَإِنَّهُ لا يُنالُ ذلِكَ إِلَّا بِفَضْلِكَ، وَجُدْ لِي بِجُودِكَ، وَاعْطِفْ عَلَيَّ بَمَجْدِكَ وَاحْفَظْنِي بِرَحْمَتِكَ، وَاجْعَلْ لِسانِي بِذِكْرِكَ لَهِجاً، وَقَلْبِي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً، وَمُنَّ عَلَيَّ بِحُسْنِ إِجابَتِكَ، وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَاغْفِرْ زَلَّتِي، فَإِنَّكَ قَضَيْتَ عَلَى عِبادِكَ بِعِبادَتِكَ، وَأَمَرْتَهُمْ بِدُعائِكَ، وَضَمِنْتَ لَهُمُ الْإِجابَةَ، فَإِلَيْكَ يا رَبِّ نَصَبْتُ وَجْهِي، وَإِلَيْكَ يا رَبِّ مَدَدْتُ يَدِي، فَبِعِزَّتِكَ اسْتَجِبْ لِي دُعائِي، وَبَلِّغْنِي مُنَايَ، وَلا تَقْطَعْ مِنْ فَضْلِكَ رَجَائِي، وَاكْفِنِي شَرَّ الجِنِّ وَالإِنْسِ مِنْ أعْدائِي. يا سَرِيعَ الرِّضَا اغْفِرْ لِمَنْ لا يَمْلِكُ إِلَّا الدُّعاءَ، فَإِنَّكَ فَعَّالٌ لِما تَشاءُ، يامَنِ اسْمُهُ دَواءٌ، وَذِكْرُهُ شِفاءٌ، وَطاعَتُهُ غِنىً، إِرْحَمْ مَنْ رَأسُ مالِهِ الرَّجاءُ وَسِلاحُهُ البُكاءُ، يا سَابِغَ النِّعَمِ يا دافِعَ النِّقَمِ، يا نُورَ المُسْتَوْحِشِينَ فِي الظُّلَمِ، يا عالِماً لا يُعَلَّمُ، صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَافْعَلْ بِي ما أَنْتَ أَهْلُهُ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَالأَئِمَّةِ المَيامِينَ مِنْ آلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرَاً.

ما ان انتهينا من قراءة دعاء كميل، أتى الشهيد ليقبل رؤسنا فاستوقفناه وقلنا له: “اعتبر هذه الأدعية بمثابة زفافك الى جنان الخلد ياحبيبي ونور عيني”.

عند قراءة دعاء كميل، كانت واحدة من عناصر الأمن المسترقين السمع عند النافذة تجهش بالبكاء، فطلبوا منها مغادرة المكان، فقال أحد الأقارب معلقاً على هذا المشهد: نحن ندعوا لها بالهداية، فإن لم تهتدي، فنحن وأهل البيت خصومها أمام الله.

عندها توجه الشهيد الى اخويه الذين يصغرانه سناً وأشار اليهما قائلاً: “أوصيكم بالصلاة، الله الله بالصلاة”، فأجاباه بأنهم ملتزمان بوصيته.

كان الأخوين يفترشان الأرض ليفسحا المجال له بين الوالدين، الا أنه قفز وافترش  الأرض معهما وأخذ يمازحهم ويداعبهم وهم فرحين. وماهي الا لحظات وفتح الباب وطلب منه الرجوع الى مكانه على الكرسي.

قلنا له: أتعلم ما قاله الحسين (ع) وهو يلفظ آخر أنفاسه الشريفه، فقاطعنا قائلاً: “رضاً بقضائك يا رب، لا معبود سواك”، عندها قلنا له: “أنت لن تسقط عند استشهادك، بل سيتلقفك الحسين وأبي الفضل العباس عليهما السلام وأهل البيت (ع) سيكونون عند حسن ظنك بهم”.

عندها أخذنا جميعا نتبادل الحديث ونسستحضر المواقف المستوحاة من كربلاء، فقال أنا كنت في القارب مع رضا الغسرة والشهداء الآخرين يومها مستنداً بكتفي داخل الكبينة فحدث إطلاق النار بكثافة واخترقت عدة رصاصات الجانب الذي كنت مستنداً عليه الا أنه لم تصبني سوى رصاصتين في معصمي، عندها أدرت صدري ناحية الرصاص كي أرزق الشهادة، الا أنني أرى الرصاص يتطاير من حولي دون أن يصيبني، فحدثت نفسي، يا رب ما الذي فعلته فلم ترض عني وترزقني الشهادة، واليوم أنا مسرور لأنني تأكدت بأن الله يحبني، كنت أتمنى أن أنال الشهادة على طريقة أخرى، لكني اليوم راضٍ بما اختاره الله لي والمهم أنها أتت في النهاية، لأني طالما دعوت الله بحسن الخاتمة، فماهي الارصاصة في القلب وألقى الله شهيداً مضرج بدمي.

وأخذ الشهيد يقص لنا قصصاً لشهداء نالو الشهادة على خطى الحسين عليه السلام، وتشرفوا بحضور أهل البيت (ع) لحظة الإستشهاد، فهنأناه على هذا الإيمان الثابت والعقيدة الراسخة المستوحاة من كربلاء الحسين وأبي الفضل العباس عليهما السلام.

عندها استحضرنا زيارة الحسين (ع) وزرناه بالزيارة المعروفة بزيارة وارث وقرأنا بصورة جماعية، فوفقنا ولله الحمد لزيارة أبي عبدالله الحسين (ع) كاملة بتوجه منقطع النظير وكان الشهيد أكثرنا تفاعلاً وعند الإنتهاء قال مبدياً ارتياحاً شديداً بأنه منذ زمن طويل لم يعش هذا الجو العبادي الروحاني بذكر أهل البيت (ع).

عندها دخل علينا مسئول السجن وقال لنا بأن الزيارة ستنتهي بعد ربع ساعة، فقلنا له بأن أشخاص آخرين من أقاربه ينتظرون في الخارج فغاب لحظات ورجع قائلاً بأن جميع من في الخارج قد انصرفوا، فقال له الشهيد: “أنتم من طردتوهم”، فخرج من الغرفة منزعجاً.

أخذنا نتبادل أطراف الحديث مع الشهيد بالتصبر والتأس ي بأهل البيت (ع) وأخذ كل واحد منا يرفع من معنويات الآخر مستحضراً المواقف البطولية لأبطال كربلاء إلى أن دخل علينا مسئول السجن مرة أخرى وقال انتهت الزيارة.

وقفنا جميعاً وأخذنا نودع الشهيد بالعناق والتقبيل واحد تلو الآخر، تارة نقبل وجنتيه وتارة نقبل رأسه وتارة نقبله على صدره ويده حتى احتشدنا جميعاً حوله وأوصيناه بأن لا ينسانا من الشفاعة يوم المحشر.

آخر المودعين كانا أب الشهيد وأمه، كانا يتبادلان التوديع واحداً  تلو الآخر فاستوقفهما وسألهما قائلاً: من منكم سيكون آخر مودع؟ فودعه الوالدان، الأم على اليمين والأب على الشمال الى أن استلوه منهما وأخرجوه من الباب الذي أدخل منه.

خرجنا من تلك الغرفة مرفوعين الرأس جميعاً ونحن نتلوا نشيد الزمان متخطين من خطفوا وردتنا الحمراء رافعين الصوت عالياً بالدعاء لأمل المستضعفين في الأرض، مزلزلين الأرض تحت أقدام الظالمين، ثابتين الخطى على نهج الحسين (ع) كما أوصانا الشهيد: “اللهم كُن لوليّك الحُجَّة بن الحَسَن صَلواتُكَ عَليه وَعَلى آبائه في هذه السّاعة وفي كُلّ سَاعَة وَليّاً وَحَافِظا وَقائِداً وَ ناصراً ودَليلاً وَ عَينا حَتّى تُسكِنَه أرضَك طَوعاً وَتُمَتِعَه فيها طَوِيلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين”.

مرت الساعتين التان قضيناهما في الزيارة ونحن نشم فيهما رائحة الجنة، وكأن حجابا ضرب بيننا وبين أهل الأرض، وأنواراً  قدسية تصطع من تلك الغرفة الى عنان السماء، لم تكن الساعتين من ساعات الدنيا، بل من ساعات الآخرة، وكأن هاتف يهتف بنا ويقول: “دعوا لهم حبهم، واسروا بحبكم، عند الصباح، هواكم يدرك الغلبا، ستبصرون على حوض النبي غداً، لكم علياً بكأس الحب مرتقبا، ولا ينال الظما من نال شربته، يعود والماء لا يثري به رغبا”.

قد يتسائل البعض، من أين لأهل الشهيد كل هذا الشموخ والصبر وعلىالخصوص أم الشهيد وأبيه؟، أقول لهم أننا طيلة ما ذكر من مجريات الزيارة الأخيرة للشهيد، لم تسقط منا دمعة واحدة، بل خرجنا بشحنة لا أستطيع وصفها، من الشعور بالعزة والكرامة والإباء، مستمدين ذلك من الخط الذي سار عليه الشهيد، والله على ما نقول شهيد.

عائلة الشهيد أحمد الملالي ٢٠١٩/٧/٣٠م

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى