ثقافة

الربانيّة

بسم الله الرحمن الرحيم

{أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} آل عمران: 83

(الربانية) هو الأصل والأساس في هذا الدين.

ومن هذا الأصل يتم اشتقاق سائر الأُصول، وهي ابرز معالم هذا الدين، والصبغة العامّة في الإسلام.

وهذا الأصل يجري في كل شؤون وأبعاد الإسلام، في العقيدة والتشريع والأخلاق.

فإنّ الإنسان المؤمن يؤمن بالله، ويؤمن بأنه من الله والى الله، ويُوحِّد الله في الخلق والتدبير والأمر والنهي والحكم، ويُحكِّم الله في كل شؤون حياته، ويأخذ بما يأمر به الله، ويترك ما ينهاه الله عنه.

ويخلص نيته لله في كل عمل يعمله ويبتغي وجه الله تعالى وحده في كل ما يعمل، ويحب الله، ويحب في الله، ويبغض في الله، ويرضى بقضاء الله، ويثق بالله، ويتوكل على الله، ويفوّض أمره كله إلى الله.

معادلة من ثلاث حلقات

وتختصر (الربانية) هذه الآية المباركة من القرآن: {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}[1]. فإنّ الإنسان من الله والى الله، والله تعالى هو المبدأ والمعاد، والأول والآخر، وهو المهيمن على الإنسان خلال حركة الإنسان من المبدأ إلى المعاد، والإنسان كُلُّهُ في قبضة سلطانه وتدبيره.

هذه هي الحلقة الأُولى من المعادلة، وهي الجانب التكويني من المسألة.

والحلقة الثانية من المعادلة: إنَّ الله تعالى وحده يحق لـه الولاية والحكم في حياة الإنسان، وليس لغيره تعالى ولاية وحاكمية على الإنسان إلاّ بأمره تبارك وتعالى.

وهو الجانب التشريعي من هذه المعادلة.

والحلقة الأُولى (التكوينية) في هذه المعادلة، تستدعي الحلقة الثانية (التشريعية) بالضرورة؛ فإنّ الله تعالى هو الخالق والمهيمن والمدبّر للإنسان، وهو الأول والآخر، والمبدأ والمعاد للإنسان.

وهذا هو البعد التكويني في المسألة، وهو البعد الأول.

وبحكم ذلك فإنّ الله تعالى هو وحده الحاكم الديّان المشرع في حياة الإنسان وهذا هو البعد التشريعي في المسألة، تبعاً للبعد الأول.

والحلقة الثالثة في هذه المعادلة تخصّ علاقة الإنسان بالله تعالى، وهي تتبع بطبيعة الحال البعد الثاني.

وتتلخص هذه الحلقة في الطاعة والإخلاص والعبودية والعبادة، والاستعانة، والخشوع والخوف، والتوكل، والتسليم من قبل العبد لله تعالى، وهذا هو البعد الثالث من هذه المعادلة.

والعلاقة بين الحلقة الثانية والثالثة واضحة كالعلاقة بين الحلقة الأُولى والثانية.

وهذه ثلاث حلقات متواليات تؤدي الأُولى منها إلى الثانية، ويؤديان معاً إلى الثالثة.

وفيما يلي توضيح وبسط لهذه الحلقات من خلال كتاب الله:

الحلقة الأُولى

الحلقة الأُولى من حلقات هذه الحلقات الثلاثة تختص بالتكوين فقط، وبموجب هذه الحلقة نعلم أنّ الله تعالى هو وحده خالق هذا الكون، وهو وحده رب هذا الكون، وهو وحده إله هذا الكون، وليس لهذا الكون من (خالق) و(رب) و(اله) غير الله تعالى.

واليك إيضاح هذه النقاط الثلاثة من القرآن يقول تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}[2].

فلا خالق لهذا الكون غير الله تعالى وهذا هو التوحيد في الخلق، كذلك ليس من رب لهذا الكون غير الله تعالى.

والرب يأتي في القرآن بمعنيين، بمعنى الإصلاح والتدبير والتربية والإنماء والإعداد، وهو قوله تعالى في قصة موسى× وفرعون {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[3].

فالربُّ هو الذي يعطي كل شيء خلقه الذي يحتاجه، ويصلحه، ويؤهلّه للبقاء، والتنازع والتنافس على البقاء، وهو بمعنى التدبير.

والمعنى الآخر للرب هو المالك والصاحب، كما نقول: رب البيت، يعني مالكه، والربوبية خاصة بالله، وليس من رب في هذا الكون كله غير الله.

{قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ}[4].

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}[5].

{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ}[6].

وهذا هو توحيد الربوبيّة.

والإله في القرآن يأتي بمعنى المهيمن الحاكم القاهر وليس في الكون من إله غير الله، ولله تعالى وحده الهيمنة والسلطان المطلق في هذا الكون، وكل شيء في قبضته وتحت سلطانه، وخاضع لأمره.

يقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}[7].

ويقول تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ}[8].

وهذا هو توحيد الإلوهية: (لا إله إلاّ الله).

إذن فإنّ الله تعالى وحده خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومدبّر كل شيء، والحاكم المهيمن على كل شيء، والقاهر على كل شيء، وهذه هي الحلقة الأُولى من الحلقات الثلاثة.

الحلقة الثانية

وإذا كان الخلق، والملك، والتدبير، والسلطان والهيمنة لله تعالى وحده في هذا الكون، فمن الطبيعي ومن المنطقي أن تكون لله الولاية والحاكمية على الإنسان، وان يكون سبحانه هو المشرّع الديّان في حياة الإنسان، وليس لأحد الولاية والحكم والتشريع في حياة الإنسان من دون الله، وبغير إذن الله وأمره.

وهذه هي الحلقة الثانية من هذه المعادلة، والقرآن الكريم يؤكد هذه الحلقة، كما يؤكد على الحلقة الأُولى، ويربط بين الحلقتين.

يقول تعالى في توحيد الله تعالى بالحاكمية والسيادة المطلقة في حياة الإنسان: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}[9].

{لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[10].

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[11].

وفي توحيد الولاية لله يقول تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء}[12]. {وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء}[13].

وفي توحيد الله تعالى في التشريع يقول تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ}[14].

والخلاصة التي ليس وراءها خلاصة: إن كل شي في حياة الإنسان خاضع لحكم الله وأمره، وليس للإنسان من أمره شيء إلاّ ما أذن له الله تعالى: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}[15].

والخلاف والنزاع والصراع بين الجاهلية والإسلام كله حول هذه الكلمة: {هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ}.

والجواب الإلهي الحاسم الذي لا رادَّ لـه: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} وكفى.

هذه هي الحلقة الثانية.

والقرآن يوضح الحلقة الأُولى ويؤكدها كما ذكرنا، ويوضح
الحلقة الثانية ويؤكدها كما وضحنا ذلك، ويربط بين الحلقتين في معادلة منطقية.

المعادلة بين الحلقة الأُولى والثانية

يقول تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[16].

والعلاقة واضحة في هذه الآية بين: (الخلق) و(الأمر) فالخالق هو الآمر والحاكم، والذي لم يخلق لا يأمر. والعلاقة بين الخلق والأمر علاقة منطقية، ليس في وسع أحد التشكيك فيها. فلا محالة: الأمر والحكم في الناس يكون لله تعالى وحده، لأنه هو الخالق المهيمن والمدبّر لهم.

الحلقة الثالثة

وإذا آمنا بالكلمة الأُولى والكلمة الثانية، وآمنا بأن الله تعالى هو وحده الخالق، المالك، المدبر، والمهيمن، والقاهر في هذا الكون، وآمنا بأن الله تعالى هو وحده الولي، الحاكم، والمشرع، والدّيان في حياة الإنسان، فلا محالة نعلم أن على الإنسان أن يوحّد الله تعالى بالطاعة والولاء، وان يوحَّد الله بالدعوة، وان يوحّد الله في الدين، وان يوحّد الله بالعبادة والاستعانة، وان يُخْلِصَ لله في كل عمل ونية، وأَن يخاف الله تعالى ويخشاه ويتوكل عليه وحده.

وهذه هي الحلقة الثالثة، وعلاقة هذه الحلقة بالحلقة الأُولى والثانية (معاً) واضحة، ومنطقية بقدر وضوح علاقة الحلقة الثانية بالأُولى واليك توضيح طائفة من مفردات هذه الحلقة:

1ـ إن الطاعة والتسليم لمن يكون له الحكم والولاية وهذه حقيقة لا يمكن التشكيك فيها، ولما كان الحكم والولاية على الإنسان لله تعالى وحده حقّاً، كما تقدم، فلابُدّ أن تكون طاعة الإنسان لله تعالى وحده، وبحكم هذه الحتميات يقول تعالى: {أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ}[17].

ويقول تعالى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء}[18]، وطاعة الرسول وأولي الأمر من طاعة الله وبأمر الله وإذنه، ومن دون إذن الله لا طاعة على أحد لأحد.

يقول تعالى: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ}[19].

ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}[20].

وخلاصة هذا الدين: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}[21].

2ـ ولما كانت أَزمَّة الأُمور كلها بيد الله فلا يصح أن يَدْعُ الإِنسان في شؤونه وحاجاته غير الله تعالى.

يقول تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ}[22].

3ـ وإذا عرفنا أن الله تعالى وحده هو المشرع والديّان والحاكم في حياة الإنسان، فلا يجوز للإنسان أن يدين بغير دين الله.

يقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ}[23].

4ـ وإذا عرفنا أن السلطان المطلق لله تعالى وحده في الكون وفي حياة الإنسان، وإن الكون والإنسان في قبضة سلطانه وحكمه تعالى، وهو القاهر على كل شيء، والمهيمن على كل شيء، وهو إله كل شيء، ورب كل شيء، فلا محالة يجب أن يكون خشوع الإنسان وعبادته لله تعالى وحده، يسلّم إليه أمره، ويرضى بقضائه وقدره، ويحمده، ويذكره وحده.

وهذا هو معنى حصر العبادة في الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

5 ـ وإذا عرفنا أن أَزِمَّة الأمور كلها بيد الله من دون استثناء، لم يجز أن يستعين الإنسان في حياته بغير الله، إلاّ إذا كان في امتداد دعاء الله والتوكل على الله. ولا يجوز أن يثق بغير الله في حاجاته وشؤونه، إلاّ أن يكون بإذن الله ويعرف أنه في امتداد سلطان الله، وهذا هو معنى حصر الإستعانة بالله تعالى {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وعلاقة الإنسان بالله تعالى أحد أمرين:

فإمّا أن تكون علاقة صاعدة، وهي العبادة، كالذكر والشكر والخشوع والصلاة والتسليم والرضا، وكل ذلك من العبادة بمعناها العام، والعبادة لله تعالى وحده {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}.

وإمّا أن تكون علاقة الإنسان بالله في استنزال الرحمة من عند الله في حاجاته وشؤونه والاستعانة به تعالى، كالدعاء والاستغفار والاستعاذة والتوكل والاستشفاء وطلب الرحمة والرزق. وكل ذلك من الاستعانة، والاستعانة بـ الله تعالى وحده {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وهذا وذاك معنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ * وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

وهو من رقائق مفاهيم القرآن وأفكاره، ومن رقائق التوحيد والمعرفة.

6ـ وإذا عرف الإنسان أنَّ الأمر كله بيد الله والسلطان كله لله، وله الدنيا والآخرة وهو مالك يوم الدين، فإنّ هذه المعرفة تستدعي لامحالة الخشية والخوف من الله تعالى وحده.

يقول تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}[24].

ويقول تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}[25].

وفي كلتا الآيتين تقع الخشية موقع الحصر، وأداة الحصر في الآية الأُولى (إنّما) وأداة الحصر في الآية الثانية النفي والاستثناء، وكلاهما حصر، والفرق بين الحصرين: أن الحصر في الآية الأُولى في العلماء، وفي الآية الثانية في الخشية.

فالآية الأُولى تقرّر أنّ العلماء فقط يخشون الله وليس غيرهم، وكل إنسان يخشى الله تعالى بقدر معرفته بالله تعالى.

والحصر في الآية الثانية في حصر الخشية في الله تعالى فقط {وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاّ اللَّهَ}، يعني أن العلماء يخشون الله تعالى فقط، ولايخشون غيره. وهذا الحصر غير ذلك الحصر.

7 ـ وإذا عرف الإنسان رحمة الله به وحبّه له وإِحسانه إليه، وأنّ الله تعالى أرحم الراحمين، أحب الله تعالى، وكان حبه لله اشد ما يكون الحب وأبلغه: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}[26].

8 ـ وإذا عرف الإنسان أنّ أزمّة الأمور كلها بيد الله تعالى، وأنّ الله خبير بصير بعباده، توكل على الله، ووضع ثقته كلها في الله، ومعنى التوكل على الله أن يتخذ الله وكيلا عن نفسه في كل شأن يهمّه، كمن يغيب عن تجارته وعمله فيتخذ وكيلا يقوم مقامه في إدارة عمله… ومن أولى من الله تعالى ليتخّذه الإنسان وكيلا عنه في حضوره وغيابه وحضره وسفره وسرائه وضرائه.

{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}[27].

وإذا اتخذ الكانسان ربه سبحانه وكيلا عنه أغناه وكفاه عن كل وكيل: {وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً}[28].

وإذا أنعم الإنسان النظر وجد أن الإنسان إذا اتخذ غير الله وكيلا فقد أشرك بالله، فإنّ الإنسان لا يوكل أمره إلاّ لمن يملك الأمر، وليس هناك من يملك الأمور كلها إلاّ الله تعالى، ولذلك فإنّ التوكّل على الله من مقولة التوحيد.

{وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً}[29].

9ـ وإذا عرف الإنسان أن الأمر كله لله تعالى وليس لأحد من الأمر شيء:

{يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ}[30].

{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ}[31].

{لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ}[32].

أقول، إذا عرف الإنسان ذلك فإِنّه لا محالة يُسَلّم أمره كله لله تعالى ويفوِّضه إليه تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}[33].

10ـ وإذا عرف (أنَ الله بصير بالعباد)، وأنه (ارحم الراحمين)، فلا محالة يرضى بقسم الله تعالى وقضائه وتقديره له.

وهذه هي مرحلة (الرضا)، وهي فوق مرحلة (التسليم) و(التفويض) {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[34].

العلاقة بين الحلقة الأُولى والثالثة في القرآن

والقرآن يشير إلى المعادلة القائمة بين الحلقة الأُولى والحلقة الثالثة.

يقول تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[35].

والعلاقة بين طرفي المعادلة واضحة؛ فإنّ على الإنسان أن يدين للذي أسلم له من في السماوات والأرض فقط، وليس يجوز أن يبغي الدين من غير الذي أسلم له من في السماوات والأرض.

ويقول تعالى: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[36].

إِن على الإنسان أن يعبد الذي خلقة وفطره وركبّه كما يشاء، فأحسن تركيبه، وليس له أن يعبد من دون ذلك أحدا.

والعلاقة بين العبادة والخلق والفطرة علاقة منطقية.

ويقول تعالى: {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[37].

وهذه هي نفس المعادلة بصيغة اُخرى، في الطرف الأول من المعادلة الربوبية، والإلوهية، والخلق {ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وفي الطرف الثاني من المعادلة العبادة {فَاعْبُدُوهُ}، والعلاقة بين الطرف الأول والطرف الثاني منطقية عقلية، لا مندوحة عنها.

الإخلاص

وإذا توثقت للإنسان معرفة الحلقة الأولى والحلقة الثانية، وعرف الخالق، والرب، والإله، وعرف استحقاقات الخلق والربوبية والإلوهية في حياة الإنسان، فهو لامحالة لايشرك بالله أحداً أو شيئاً، في نيته، وعمله، ويخلص عمله لله تعالى، ويصفّي عمله ونيته وقلبه من الشرك الخفي الذي يخالج نفسه ونيته، ويخصّ الله تعالى وحده بعمله وعبادته ونيته فيكون كل عمله لله.

يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[38].

وليس فقط (صلاتي ونسكي)، بل (ومحياي ومماتي) أيضا وهذه قمة في الإخلاص أن يجعل الإنسان محياه ومماته كلها لله، ولايدع من حياته ومماته شيئا لغير الله.

ويقول تعالى: {لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[39] وإخلاص الدين هو إخلاص العمل والنيّة لله تعالى، فإنّ الدين عمل ونيّة.

الخلوص

 إن إخلاص العمل والنية يؤدي في النتيجة إلى خلوص النفس ونقاءها؛ وذلك أن عمل الإنسان ونيته من صادرات النفس ووارداتها في وقت واحد.

فإنّ النفس مرآة لعمل الإنسان فإذا اخلص الإنسان في نيته وعمله صفت نفسه وخَلُصت، وانعكس عمله على نفسه، وإذا كانت أعماله مشوبة بالشرك والرياء انعكست على نفسه بصورة سلبيّة، والنفس دائما مرآة لعمل الإنسان، تكسب منه الصفاء والنور، إذا أحسن الإنسان عمله، وأخلص لله، كما يعكّرها سوء العمل وما يشوب عمله من الشرك.

إذن الإخلاص في العمل يستتبع الخلوص في النفس.

يقول تعالى: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[40].

والمخلَصون (بالفتح) هم المخلِصون (بالكسر) الذين رزقهم الله تعالى بإِخلاص العمل خلوص النفس فصفت نفوسهم، وخلصت من شوب كل شرك، ومن سلطان الأهواء والفتن.

وهذه هي الغاية في صفاء النفس وخلوصها.

آثار الخلوص

وإذا بلغ الإنسان هذه المرحلة من صفاء النفس وخلوصها رزقه الله تعالى أربعاً، وهذه الأربعة للمخلَصين (بالفتح):

1ـ إعفاء من الله لعبده من الحضور في مواقف الحساب يوم الفزع الأكبر، يقول تعالى: {فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[41].

2ـ ويعطي الله تعالى يوم القيامة كل أحد بنسبة عمله (ولا أقول بمقدار عمله) إلاّ المخلَصين (بالفتح)، فإنّ الله تعالى يعطيهم بغير نسبة ولا حساب: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.

3ـ والمخلَصون (بالفتح) هم الذين يتمكنون من حمد الله تعالى بشكره وثنائه وتسبيحه، وهذه القدرة نابعة من المعرفة، وكلما كان الإنسان أكثر معرفة بالله كان اقدر على تسبيح الله وحمده، إذن خلوص النفس يمنح الإنسان المعرفة بالله، والمعرفة بالله تُمكّن الإنسان من التسبيح والحمد.

يقول تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون * إِلاّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}[42]، ومعنى ذلك: إن الله تعالى يتنزّه عما يصفه الناس، إلاّ المخلصون فإنّهم يصفون الله تعالى بما يليق بجلاله وجماله وعن معرفة.

4ـ والخلوص يُحَصِّن الإنسان من الشيطان، والمخلَصون في حمى الله تعالى من نفوذ الشيطان وأعوانه.

{لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[43].

وإذا أخلصت نفس الإنسان لله تعالى ونقت، كانت طيّبة، والنفس الطيّبة لايصدر منها إلاّ الطيّب، فيحبّ الله، ويشتاقه، ويأنس به، ويرجوه، ويخافه، ويذكره، ويحمده ويشكره، ويُخْلِصُ له في كل شيء، ويكون الله معه في الدنيا، ويكون عند الله في الآخرة، لان الله تعالى مع المحسنين في الدنيا {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[44] والصادقون عند الله في الآخرة {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ}[45].

أقرأ ايضاً:


المصادر والمراجع

  • [1] ـ البقرة: 156.
  • [2] ـ فاطر: 3.
  • [3] ـ طه: 49 ـ50.
  • [4] ـ الأنعام: 164.
  • [5] ـ المزّمّل: 9.
  • [6] ـ الصافات: 5.
  • [7] ـ الزخرف: 84 .
  • [8] ـ القصص: 88.
  • [9] ـ الأنعام: 57.
  • [10] ـ القصص: 70.
  • [11] ـ المائدة: 50.
  • [12] ـ الأعراف: 3.
  • [13] ـ هود: 20.
  • [14] ـ الشورى: 21.
  • [15] ـ البقرة: 154.
  • [16] ـ الأعراف: 54.
  • [17] ـ النساء: 59.
  • [18] ـ الأعراف: 3.
  • [19] ـ النساء: 80.
  • [20] ـ النساء: 64.
  • [21] ـ التغابن: 16.
  • [22] ـ القصص: 88 .
  • [23] ـ آل عمران: 19.
  • [24] ـ فاطر: 28.
  • [25] ـ الأحزاب: 39.
  • [26] ـ البقرة: 165.
  • [27] ـ المزمل: 9.
  • [28] ـ النساء: 81 و132 و171، الأحزاب: 3 و48.
  • [29] ـ الإسراء: 2.
  • [30] ـ آل عمران: 154.
  • [31] ـ هود: 123.
  • [32] ـ الروم: 4.
  • [33] ـ غافر: 44.
  • [34] ـ المائدة: 119.
  • [35] ـ آل عمران: 83.
  • [36] ـ يس: 22.
  • [37] ـ الأنفال: 102.
  • [38] ـ الأنعام: 162.
  • [39] ـ البينة: 5.
  • [40] ـ الصافات: 39 ـ 40.
  • [41] ـ الصافات: 127 ـ 128.
  • [42] ـ الصافات:159ـ160.
  • [43] ـ الحجر: 39 ـ 40، سورة ص: 82 ـ 83.
  • [44] ـ العنكبوت: 69.
  • [45] ـ القمر: 55.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى