ثقافة

استخراج الكلمات الإبراهيمية من القرآن

الكلمات الإبراهيمية العشرة في القرآن

استخراج الكلمات الإبراهيمية من القرآن

والقرآن نفسه خير مصدر، نستخرج منه هذه الكلمات. وقد أولى القرآن الكريم حياة إبراهيم (ع) عناية كبيرة.

وشرح لنا أدوارا عديدة من حياة أبي الأنبياء (ع) وما ابتلاه الله تعالى به من ابتلاءات صعبة في مقاطع مختلفة من حياته، وبإمكاننا نحن أن نستخرج من كتاب الله طائفة من هذه الكلمات التي ابتلى الله تعالى بها رسوله وخليله من غير عناء وجهد.

ونحن فيما يلي نستخرج من كتاب الله ابتلاءات عشرة، ابتلى به تعالى إبراهيم. وهذه الابتلاءات العشرة تنظمها محاور ثلاثة. ولسنا نقول: إنها هي التي ابتلاه الله تعالى بها من الكلمات، وإنما نقول إن بعض هذه الكلمات منها، وإنها مما ابتلاه الله تعالى بها وهي ابتلاءات صعبة والمحاور الثلاثة هي:

1 ـ محور الإيمان بالله

2 ـ محور الدعوة إلى الله

3 ـ محور الفتنة والابتلاء

واليك تفصيل هذه الكلمات على هذه المحاور الثلاثة من كتاب الله.

أ ـ كلمات الإيمان بالله

وعلى هذا المحور نجد في القرآن ثلاث كلمات ابتلى الله تعالى بها إبراهيم (ع) وهذه الكلمات الثلاث هي:

انتزاع النفس من الباطل.

التوجه إلى الله (الحق).

والولاء لله والبراءة من أعداء الله.

فهذه ثلاث كلمات أتمهن إبراهيم (ع) في المرحلة الاولى من حياته.

والكلمة الاولى التي أتمها إبراهيم (ع) انه انتزع نفسه من سلطان الأصنام، وسلطان الوسط الاجتماعي، وثقافة الشرك بالله، وكانت هذه الخطوة هي بداية انطلاق إبراهيم (ع) في رحلته الشاقة إلى الله.

والخطوة الثانية هي الإقبال على الله بعد أن انتزع نفسه من سلطان الأصنام حيث قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ}[1].

ولا تتم الخطوة الثانية إلا بعد أن تتم الاولى، ولا يتم التوحيد في الإيمان بالله، إلا بعد الكفر بالأصنام والطاغوت.

والخطوة الثالثة هي الولاء لله والبراءة من أعداء الله، وهي نتيجة طبيعية للخطوتين الاولى والثانية، فإذا أعرض الإنسان عن الباطل وأقبل على الله فلابد أن ينظم علاقاته مع الناس على أساس هذا الإعراض والإقبال، فيوالي الله تعالى، ويوالي كل من يوالي الله، ويتبرأ من الأصنام والطاغوت، ويتبرأ ممن يوالي الطاغوت.

وهذا الإقبال، والإدبار، والوصل، والفصل من متطلبات الإيمان بالله والكفر بالطاغوت.

واليك تفصيل هذه الكلمات الثلاثة في حياة إبراهيم (ع) من القرآن.

1 ـ انتزاع النفس من الباطل

إن للباطل سلطاناً على نفس الإنسان، ومصادر هذا السلطان متعددة.

فان للباطل ثقافة، وإعلام، وتاريخ، وإغراء، وإرهاب، ومواقع في المجتمع، وفن. وينفذ الباطل إلى نفس الإنسان وعقله بكل هذه الأدوات ومن منافذ مختلفة في النفس، فيحكم الإنسان، ويرسخ في نفسه، ويتمكن منه، وعندئذ يحتاج الإنسان لكي ينتزع نفسه من سلطان الباطل إلى قوة نفسية هائلة. ولقد أتانا الله تعالى هذه القوة الهائلة من دون ريب، ولكن القليل من الناس من يستخدم هذا العزم في مقاومة سلطان الهوى والباطل على النفس، ويتحرر من الباطل وسلطان الهوى.

وليس تنشأ دائماً مشقة التحرر من الباطل من التباس الحق بالباطل، فقد يكون جزء من هذه المشقة في انتزاع النفس من سلطان الباطل، ولكن شطراً كبيراً من محنة الإنسان وابتلائه في صعوبة انتزاع النفس من الباطل حتى بعد أن يعرف الإنسان الحق والباطل من دون لبس.

وقد يأخذ الإنسان العزة بالباطل، فيدفع نفسه ثمناً للباطل. وهذا هو سر سلطان الباطل على النفس، وصعوبة انتزاع النفس من الباطل.

وإبراهيم (ع) نبيّ معصوم عصمه الله تعالى من الباطل والشرك، قبل النبوّة وبعدها، ولكن ذلك لا ينفي انه (ع) كان يعيش في أجواء هذا السلطان الذي كان للباطل على عقول الناس ونفوسهم وأنّه انتزع نفسه من سلطان الباطل.

ويقصّ علينا القرآن قصة إبراهيم (ع) في مكافحة سلطان الباطل على نفسه وكيف انتزع نفسه من عبادة النجوم، وكيف رفضها وأعرض عنها.

يقول تعالى:

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً

قَالَ: هذَا رَبِّي

فَلَمَّا أَفَلَ

قَالَ: لاَأُحِبُّ الآفِلِينَ

فَلَمَّا رَأى الْقَمَرَ بَازِغاً

قَالَ: هذَا رَبِّي

فَلَمَّا أَفَلَ

قَالَ: لَئِن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ

فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً

قَالَ: هذَا رَبِّي هذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}[2].

ويبدو لي أن الحوار الذاتي الذي تذكره الآية الكريمة لإبراهيم (ع) مع نفسه حوار رمزي يرمز إلى الطريقة التي انتزع إبراهيم (ع) نفسه من سلطان النجوم والقمر والشمس، وهذا الأسلوب من الحوار الرمزي شائع في القرآن الكريم لمن يألف اسلوب القرآن نحو قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَزِيد}[3].

فلم يقل إبراهيم (ع) للقمر لما رآه بازغاً: هذا ربي، ولكنَّ هذا الحوار يرسم الجهد النفسي الذي مارسه إبراهيم (ع) على نفسه، وبينه وبين نفسه لانتزاع من سلطان الشرك في مجتمعه ووسطه.

والذي يلفت النظر في هذا الحوار التدرج والتسلسل الذي تشير إليه الآية الكريمة من «الحسّ» إلى «العقل» ومن العقل إلى «القلب».

فان المحطة الاولى في هذه الرحلة التي تشير إليها الآية الكريمة هي «الحس» حيث يتلقف «أُفول» النجم والقمر والشمس، وهو بالتأكيد حالة محسوسة.

و«العقل» المحطة الثانية في هذه الرحلة، حيث يحكم ببطلان الأُفول، ويجزم بأن الآفل الزائل لا يمكن أن يكون خالق هذا الكون.

و«القلب» المحطة الثالثة، في هذه الرحلة، ومهمة القلب أن يحب ولا يحب. (فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَأُحِبُّ الآفِلِينَ) ومع الحب كره وبراءة (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

وحيث يجزم العقل ببطلان شيء يرفض القلب أن يحبه، وإذا جزم العقل بالحق أحبه القلب، فالقلب يستلم من العقل والعقل يستلم اصول حكمه من الحس… وهذه هي مدارج المعرفة يصورها القرآن ـ في هذا الحوار الذاتي الذي يغلب عليه جانب الرمز. ولا يعتمد إبراهيم (ع) عقله ـ بشكل مطلق في هذه الرحلة، فما اكثر ما تزل العقول والقلوب وإنما يستعين بالله تعالى واثقاً أن الله تعالى إذا لم يعنه في تجاوز هذه المرحلة، فلا يستطيع أن يقطع هذه الرحلة الشاقة إلى نهايتها وغايتها:

(لَئِن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لاََكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).

2 ـ التوجّه إلى الله

وهذه هي الكلمة الثانية في الرحلة الإبراهيمية،

فقد أعطى إبراهيم (ع) وجهه لله تعالى، بعد أن انتزع وجهه وقلبه من الباطل، وأعلن براءته مما يشركون.

فقال (ع)، بعد أن أعلن براءته مما يشركون.

(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)… أقول: بعد انتزع وجهه وقلبه مما كانوا يشركون أعطى وجهه لله تعالى فقال:

(وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وكما أن الإنسان ليس لـه إلا قلب واحد {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُل مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}[4] فاما أن يكون قلبه للحق أو للباطل…

كذلك ليس للإنسان إلا وجه واحد، فأما أن يكون وجهه للحق أو للباطل، فإذا انتزع وجهه من الباطل كان لـه أن يعطي وجهه لله، ولا يتمكن أن يشطر وجهه شطرين، فيعطي شطراً من وجهه لله، ويعطي شطراً من وجهه لما يشركون من دون الله، كما لا يمكن أن يشطر قلبه شطرين، فيعطي شطراً منه لله، ويعطي الشطر الآخر لما يشركون. والقرآن يرفض الشرك في القلوب والوجوه معاً.

وإبراهيم (ع) إذ ينتزع وجهه وقلبه من الباطل، يعطي وجهه وقلبه لله.

وحيث انتزع إبراهيم (ع) قلبه ووجهه مما يشركون وأعطاهما لله تعالى وحده… رفعه الله درجات وآتاه الحجة على قومه، وجعل النبوة في ذريته.

{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَات مَن نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[5].

وهذه سُنة وقانون، وليس استثناء يختص به إبراهيم (ع) (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ).

3 ـ الولاء والبراءة

وهذه هي الكلمة الثالثة في الرحلة الإبراهيمية. فلا يقتصر الأمر في هذه الرحلة على الأيمان بالله والكفر بالطاغوت «على الصعيد العقلي»، وعلى حب الله ورفض الطاغوت، «على صعيد القلب والعاطفة»، وإنما يستتبع هذا الإيمان والكفر موقعاً عملياً من الولاء والبراءة.

الولاء لله ولأوليائه والبراءة من الطاغوت وحزب الطاغوت.

إن الإيمان بالله والكفر بالطاغوت قضية نظرية تستتبع حباً وبغضاً أولا، ومنهجاً في السلوك والتحرك ثانياً، وتنظم علاقات الإنسان ثالثاً.

فينتزع الإنسان من شبكة من العلاقات الاجتماعية والسياسية، ويدخله في شبكة اخرى من العلاقات الاجتماعية والسياسية وهذه هي شبكة الولاء.

والى جنب كل ولاء براءة، فالإيمان بالله والكفر بالطاغوت إذن ينظّمان علاقات الإنسان على أساس وتصوّر جديدين يرتبطان بهذا المحور، وقد أعلن إبراهيم (ع) لأبيه (عمّه) وقومه انفصاله عنهم ومقاطعته لهم وبراءته مما يعبدون، وجعل هذه البراءة والمفاصلة كلمة باقية في أعقابه، كما جعل التوحيد كلمة باقية في عقبه من بعده.

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[6].

ولما أصر عمّه على الشرك، ورفض الإيمان بالله لم يتردد إبراهيم (ع) أن يعلن براءته منه.

{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَوْعِدَة وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لاََوَّاهٌ حَلِيمٌ}[7].

وإن من أشق الامور على الإنسان أن ينتزع نفسه مرة واحدة من وسط علاقاته الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، فيعتزلهم، ويهجرهم عند ما يستدعي الأمر الاعتزال والهجرة.

ولما أعلن الفتية من أصحاب الكهف الدعوة إلى الله في أجواء البلاط {إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً}[8]. لم يجدوا بُدّاً من أن يبتروا علاقاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بتراً، ويعتزلوا قومهم، وما يعبدون من دون الله، ويأووا إلى الكهف.

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ}[9].

يقول أميرالمؤمنين (ع):

«ولقد كنا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلاّ إيمانا وتسليماً ومضياً على اللقم وصبراً على مضض الألم»[10].

هذه ثلاث كلمات في الإيمان بالله، وننتقل الآن إلى كلمات الدعوة إلى الله.

ب ـ كلمات الدعوة

وعلى محور الدعوة نجد في القرآن الكريم، لإبراهيم (ع) أربع كلمات.

1 ـ الدعوة إلى الله.

2 ـ التحدّي والمبادرة.

3 ـ العزلة والهجرة.

4 ـ إعلان الحجّ.

واليك تفصيل هذه الكلمات من القرآن.

4 ـ الدعوة إلى الله

ليس «الشرك» فكراً أو نظراً أو ثقافة فقط، ولو كان الأمر كذلك لم يجد الدعاة إلى الله عناءً كبيراً في الدعوة إلى الله، وإنما «الشرك» مواقع للنفوذ والسلطان في المجتمع، ولذلك فان أئمة الشرك سوف يوظفون كل الوسائل الممكنة لترسيخ أعمدة الشرك في المجتمع، ومحاربة الدعوة إلى الله، وتحويل الشرك إلى تيّار من الرأي العام. وعندئذ تكون الدعوة إلى الله اختراقاً لهذا التيار، ومواجهة ضارية للشرك في مواقع نفوذه وسلطانه، ومن هنا تنشأ معاناة الدعاة إلى الله تعالى وصعوبة الدعوة إلى الله، فيأمر الله تعالى أنبيائه بالدعوة إليه ويدعوهم إلى ذلك.

تأمّلوا في آيات الدعوة في القرآن:

{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[11].

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[12].

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ}[13].

ويعد الله أنبياءه أن يعصمهم من الناس:

{فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}[14].

ويدعو تعالى نبيه أن يصدع بالدعوة:

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}[15]

ومن عجب أن الدعوة صدع، وفي نفس الوقت إعراض وإغضاء عن جدال المشركين: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).

فان «الجدال» الذي لا يقصد به صاحبه الوصول إلى الحق من أسباب تعطيل دعوة الحق، وليس من منهج الأنبياء مواجهة هذا الجدل وافضل أنواع المواجهة الإعراض عنه والإغضاء منه.

ويأمر الله نبيه (ص)أن يدعو إليه ويستقيم، فلا يستقيم أمر هذه الدعوة من دون الاستقامة والثبات: (فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ).

ويأمر الله تعالى أنبيائه باللين في الدعوة والحكمة والموعظة الحسنة لئلا ينفر الناس من الدعوة. يقول تعالى:

{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}[16].

ويقول تعالى:

{اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}[17].

ويدعو الله تعالى أنبيائه إلى الحزم والشجاعة في الدعوة، فلا يخشون أحدا إلا الله.

{فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}[18].

{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}[19].

{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}[20].

وقد وعدهم الله تعالى أن يعصمهم من الناس.

{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}[21].

إذن الدعوة إلى الله صدع، وإعراض عن المشركين واختراق التيار، ومواجهة، ويحتاج إلى قوة، وشجاعة، وحزم، والى لين، وسعة صدر، والى إغضاء، وإعراض، والى حكمة، وقد حمل إبراهيم (ع) لوحده رسالة الدعوة إلى الله على وجه الأرض، في مواجهة الشرك، كلِّه فكان (ع) لوحده أمة ينهض بالدعوة ويجاهد الشرك.

{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً}[22].

فكان إبراهيم (ع) يدعو قومه إلى الله بالمنطق والحكمة، واللين والأدب، والحزم، والشجاعة.

فهو حازم وشجاع، لا يخاف أن يفتنه قومه. وهو لين ورقيق معهم لا يريد أن ينفّر عنه قومه.

وهو في نفس الوقت يحاورهم بالمنطق والعلم والمعرفة فلا يجد له قومه جواباً إلا بالإرعاب والتخويف.

ونسمع نماذج من هذه الدعوة في كتاب الله:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُم لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُم وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَل مُبِين * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ * قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذلِكُم مِنَ الشَّاهِدِينَ}[23].

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَل مُبِين}[24].

{وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[25].

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَبِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيّاً * يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لاََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}[26].

وفي هذا الحوار الذي ينقله القرآن بين إبراهيم وأبيه (عمه) نقرأ من طرف المنطق والمعرفة والإشفاق والرأفة ثم أدب الحوار.

ومن طرف آخر نقرأ انعدام المنطق والإرهاب والتعسف، وكل إناء بالذي فيه ينضح.

5 ـ التحدي والمبادرة

تعيش الدعوة بالتحدي والمبادرة، فإذا فقدت التحدي والمبادرة فقدت ساحة عملها، ولم يعدلها دور في حياة الناس.

إن طبيعة عمل الداعية تطلب منه أن يلتزم دائماً جانب المبادرة والفعل، ويلجئ الطاغية إلى موقع رد الفعل والانفعال.

ولولا ذلك لا يتمكن الداعية من مواجهة الطاغوت، فليس من تكافؤ بين الداعية والطاغوت في إمكانات العمل وفرص الحركة.

فإذا تمسك الداعية بالمبادرة والتحدي، يضطر الطاغوت إلى موقع الانفعال والدفاع، وموقع المدافع دائماً موقع ضعيف، في مقابل موقع المبادرة والمهاجم.

ورغم الإمكانات الكثيرة التي يملكها الطاغية من حيث القوة والمال والإعلام لا يترك له الداعية فرصة للفعل والحركة، فلا يكاد يخرج من موقع انفعال، إلا ليدخل في موقع انفعالي آخر.

والسبب في اختلاف الموقعين بين الداعية والطاغية كامن في مهمة كل منهما. فان قضية الداعية دعوة الناس إلى الله، وتحرير الناس من الطاغوت، وهم الطاغية الاحتفاظ بنفوذه وسلطانه، واختلاف الموقع بينهما يجعل الداعية دائماً في موقع الفعل والمبادرة، الطاغية في موقع رد الفعل، وهو موقع ضعيف دائماً.

ولا يضرّ بالداعية أن يكون قليلا، فقد كان إبراهيم (ع) لوحده (أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ).

ولنقرأ مبادرة إبراهيم (ع) في تكسير الأصنام في القرآن.

فقد وجد إبراهيم (ع) أن قومه بحاجة إلى «صعقة» قوية منبّهة لينتبهوا، ويعودوا إلى رشدهم من ضلالتهم، فعزم على أن يكيد لأصنامهم فيجعلها جذاذاً، عندما يجد إلى ذلك سبيلا، فجعل يترقب الفرصة ليدخل معبد الأصنام وحده، ويجعل الأصنام جذاذاً.

حتى إذا خرجوا يوم عيد لهم خارج المدينة… أسرع الفتى الشجاع إلى أصنامهم والقصة في القرآن.

{وَتَاللَّهِ لاََكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}[27].

ولم يفته أن يسخر منهم، وهو يريد أن ينهال عليهم ضرباً وتكسيرا، فيقدم لهم الطعام، ويقول لهم: (ألا تأكلون؟ ما لكم لا تنطقون؟).

ولنقرأ القصة في مشاهد اُخرى من سورة الصافات:

{وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لاَِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْب سَلِيم * إِذْ قَالَ لاَِِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ}[28].

{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ * مَالَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ}[29].

6 ـ العزلة والهجرة

إن إعلان الدعوة لا ينفك عن العزلة والهجرة، إنه إعلان للمواجهة والحرب بوجه الطاغوت والمؤسسات التابعة له.

لان دعوة التوحيد تدعو الناس إلى توحيد الله تعالى بالولاية والسيادة والحكم في حياة الإنسان.

والبعد الآخر لهذه الدعوة رفض كل ولاية وحاكمية اُخرى غير حاكمية الله تعالى وولايته، وولاية كل من لم يأمر الله تعالى بولايته، وهذه هي بالذات إعلان للحرب والمواجهة، وهو أشرس أنواع الحروب لأنها حرب على القدرة والسلطان والنفوذ، وهي صلب دعوة التوحيد.

وفي هذه المعركة يستخدم الطاغوت كل إمكاناته وقدراته لاستئصال حملة الدعوة وأبادتهم واضطهادهم لتعطيل دورهم في المجتمع.

وخير ما يمكن أن يواجه به الدعاة هذه الحملة الشرسة هو الاعتزال والهجرة.

والاعتزال غير الهجرة، في الاعتزال يخرج الدعاة عن دائرة النفوذ السياسي والحصار الإعلامي للعدو.

وفي الهجرة يخرج عن قبضة الإرهاب، ويسلمون من أشرس حملة يقوم بها الطاغوت لاستئصال الدعوة.

يخرجون عن قبضة إرهاب العدو، ويسلمون، وتسلم بسلامتهم الدعوة من أشرس حملة يقوم بها الطاغوت لاستئصال الدعوة.

ففي قضية الفتية أصحاب الكهف، الذين آمنوا بالله، وخرجوا على قومهم وأعلنوا دعوة التوحيد في أجواء البلاط نلتقي نحن بنفس الظاهرتين (الاعتزال والهجرة).

فلم يجد هؤلاء الفتية لأنفسهم من سبيل، بعد أن أعلنوا الدعوة إلى التوحيد في أجواء القصر غير أن يعتزلوا أقوامهم وما يعبدون من دون الله ليأووا إلى الكهف.

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِن أَمْرِكُم مِرْفَقاً}.

والاعتزال والهجرة عملية بتر واسعة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والوطنية والاسرية، وتبديلها بنسيج آخر من العلاقات، ولذلك فهما من اشق الأعمال على نفس الإنسان.

وقلما يشق على الإنسان شيء، كما يشق عليه أن يبتر علاقاته الأسرية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ويستبدلها بأخرى من نسيج آخر ونوع آخر.

ولذلك فقد أجزل الله تعالى ثواب الاعتزال والهجرة، إذا كانتا لله، وجعلهما من منازل رحمته في حياة الإنسان.

ففي قصة الفتية من أهل الكهف يقول تعالى:

{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِن أَمْرِكُم مِرْفَقاً}[30].

ولما تجهم قوم إبراهيم (ع) وفيهم عمه، بوجهه، وهددوه بالرجم لئن لم ينته من دعوته هذه، وأمروه بان يهجرهم ويبتعد عنهم عزم إبراهيم (ع) على أن يعتزلهم، ويقاطعهم، ويعزل حياته عن حياتهم.

{قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لاََرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً * قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً}[31].

ويذكر القرآن أن إبراهيم (ع) عندما اعتزل قومه وما يعبدون من دون الله، رزقه الله تعالى إسحاق ويعقوب وجعلهما نبيين، ووهبهم من رحمته ما يشاء، وجعل لهم لسان صدق في الصادقين.

{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً * وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْق عَلِيّاً}[32].

7 ـ إعلان الحج في الناس

وأخطر عمل قام به إبراهيم (ع) بعد الدعوة إلى التوحيد هو الدعوة إلى الحج، وإعلان الحج في الناس، كما أمره الله تعالى:

{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق}[33].

لقد أعلن إبراهيم (ع) التوحيد في الناس أولاً، وكانت هذه هي المرحلة الاولى من عمل إبراهيم، وهي أشقها واصعبها بالتأكيد، وفي المرحلة الثانية، بعد أن استقر التوحيد في قلوب أمة من الناس أعلن إبراهيم (ع) عن إقامة قاعدة صلبة للتوحيد على وجه الأرض في المسجد الحرام، وهي الكعبة التي جعلها الله تعالى قياماً للناس.

{جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ}[34].

وقد أقام خليل الرحمن إبراهيم (ع) بذلك للتوحيد أساسا صلباً على وجه الأرض، وجعل من الحج إلى البيت تجمعاً بشرياً للمؤمنين على وجه الأرض يتجمع إليه الناس من بقاع شتى من الأرض كما وعده الله تعالى بذلك.

{يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِر يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق}[35].

وحقق إبراهيم الخليل (ع) بإقامة الكعبة وإعلان الحج استقرار التوحيد على وجه الأرض وفي التاريخ.

فكان الحج منذ أن شرعه الله تعالى على لسان إبراهيم، ودعى إليه حصناً للتوحيد، ومثابة وأمناً لحملة التوحيد، يجمع الموحدين من بقاع شتى من الأرض، ويجعل منهم قوة تردع العدوان عن حركة التوحيد، ومن البيت الحرام، وحصناً وأمنا يثوب إليه المؤمنون في كل عام.

{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً}.

وعهد الله تعالى إلى إبراهيم تطهير البيت وإعداده للطائفين والعاكفين الركع السجود.

{وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[36].

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لاِِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[37].

فكان إبراهيم (ع) هو الرائد الأول للتوحيد، بالمعنى الحركي السياسي الذي استقر على وجه الأرض، منذ أن جعله الله إماما للتوحيد على وجه الأرض. قال:

{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}[38].

وكان إبراهيم (ع) أول من وضع للتوحيد أساساً بشرياً، يجمع الموحّدين، ويجعل منهم كتلة قوية، مرصوصة، تواجه تحديات الشرك، بكفاءة، وقوة، فكان هو بحق أب الموحدين وأول من سمانا مسلمين.

{مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ}[39].

ج ـ كلمات الفتنة والابتلاء

تعرّض إبراهيم (ع) لفتن وابتلاءات صعبة وعسيرة في مسيرة الدعوة، وثبت في هذه الفتن حتى شهد الله تعالى لـه بأنه أتمَّهن وتلك شهادة من الله تعالى لإبراهيم، لا تضاهيه شهادة. ويسجل لـه القرآن ثلاث كلمات في هذه الفتن والابتلاءات هي:

1 ـ الصبر

2 ـ التوكل

3 ـ التسلم

وفيما يلي توضيح لهذه الكلمات الثلاثة التي اتمهن إبراهيم (ع) في خضم الفتن والمحن التي تعرض لها.

8 ـ كلمة الصبر

تعرض إبراهيم (ع) لواحدة من اعظم المحن التي يتعرض لها الأنبياء (ع) فقد اجمع قومه أمرهم على أن يلقوه في النار على مشهد من الناس فجمعوا لذلك حطباً كثيراً، وبالغوا في جمع الحطب، وطلبوا من الناس أن يشترك كل واحد منهم بحسبه في جمع الحطب، ويبدو أنهم كانوا يريدون بذلك إرهاب إبراهيم (ع) ليتراجع عن دعوة التوحيد، وإرهاب الناس لئلا يميل إليه أحد من قومه. فجمعوا حطباً كثيراً وأشعلوا النار في هذا الحطب فكان جحيماً كبيراً، وشدوا وثاق إبراهيم (ع) ليلقوه في هذه النار بمرأى ومسمع من الناس، وإبراهيم (ع) يلقي نظره في هذا الجحيم الذي يريدون أن يلقوه فيه، وينظر في هذا المشهد الحافل من الناس الذين وقفوا ليشهدوا كيف تبتلعه النيران وهو ثابت كالجبال، لم يهتز، ولم يتردد لحظة واحدة، ولم يجزع، حتى إذا القوه في وسط هذا الجحيم جعله الله عليه برداً وسلاماً.

ولنقرأ هذه القصة المثيرة في القرآن:

{قَالُوا حِرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[40].

ووردت القصة في سورة الصافات:

{قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ}[41].

ويشير القرآن إلى ما رزق الله تعالى إبراهيم من رزق، وما انزل عليه وعلى ذريته من رحمة وبركة، بما صبر في هذه المحنة العظيمة، ونعيد قراءة آيات سورة الأنبياء لننظر في المواهب التي آتاه الله تعالى في هذه المحنة:

1 ـ {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.

2 ـ {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ}.

3 ـ {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}.

4 ـ {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً}.

5 ـ {وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ}.

6 ـ {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}.

7 ـ {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ}.

8 ـ {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.


أقرأ ايضاً:

الهوامش والمصادر

  • [1] ـ الأنعام: 79.
  • [2] ـ الأنعام: 76 ـ 78.
  • [3] ـ ق: 30.
  • [4] ـ الأحزاب: 4.
  • [5] ـ الأنعام: 83 ـ 84 .
  • [6] ـ الزخرف: 26 ـ 28.
  • [7] ـ التوبة: 114.
  • [8] ـ الكهف: 14.
  • [9] ـ الكهف: 16.
  • [10] ـ نهج البلاغة خطبة رقم 56، اللقم بالتحريك معظم الطريق أو حادثه، ومضض الألم لذعته.
  • [11] ـ طه: 43.
  • [12] ـ العلق 1.
  • [13] ـ المدثر: 1.
  • [14] ـ الشورى: 15.
  • [15] ـ المائدة: 67.
  • [16] ـ النحل: 125.
  • [17] ـ طه: 43 ـ 44.
  • [18] ـ البقرة: 150.
  • [19] ـ الأحزاب: 39.
  • [20] ـ آل عمران: 173.
  • [21] ـ المائدة: 67.
  • [22] ـ النحل: 120.
  • [23] ـ الأنبياء: 51 ـ 56.
  • [24] ـ الأنعام: 74.
  • [25] ـ العنكبوت: 16 ـ 17.
  • [26] ـ مريم: 41 ـ 47.
  • [27] ـ الأنبياء: 57 ـ 60.
  • [28] ـ الصافات: 83 ـ 85 .
  • [29] ـ الصافات: 88 ـ 98.
  • [30] ـ الكهف: 16.
  • [31] ـ مريم: 47 ـ 48.
  • [32] ـ مريم: 49 ـ 50.
  • [33] ـ الحج: 27.
  • [34] ـ المائدة: 97.
  • [35] ـ الحج: 27.
  • [36] ـ البقرة: 125.
  • [37] ـ الحج: 26.
  • [38] ـ البقرة: 125.
  • [39] ـ الحج: 78.
  • [40] ـ الأنبياء: 68 ـ 73.
  • [41] ـ الصافات: 98 ـ 97.
تحميل الفيديو
الشيخ محمد مهدي الآصفي
المصدر
كتاب في رحاب القرآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى