ثقافة

البعد العرفاني في شخصيّة آية الله قاسم

مناجاة العارفين «إِلَهِي قَصُرَتِ الأَلْسُنُ عَنْ بُلُوغِ ثَنَائِكَ كَمَا يَلِيقُ بِجَلالِكَ، وَعَجَزَتِ الْعُقُولُ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِ جَمَالِكَ، وَانْحَسَرَتِ الأَبْصَارُ دُونَ النَّظَرِ إِلَى سُبُحَاتِ وَجْهِكَ، وَلَمْ تَجْعَلْ لِلْخَلْقِ طَرِيقاً إِلَى مَعْرِفَتِكَ إِلا بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِكَ.

 إِلَهِي فَاجْعَلْنَا مِنَ الَّذِينَ تَوَشَّحَتْ [تَرَسَّخَتْ‏] أَشْجَارُ الشَّوْقِ إِلَيْكَ فِي حَدَائِقِ صُدُورِهِمْ، وَأَخَذَتْ لَوْعَةُ مَحَبَّتِكَ بِمَجَامِعِ قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ إِلَى أَوْكَارِ الأَفْكَارِ يَأْوُونَ، وَفِي رِيَاضِ الْقُرْبِ وَالْمُكَاشَفَةِ يَرْتَعُونَ، وَمِنْ حِيَاضِ الْمَحَبَّةِ بِكَأْسِ الْمُلاطَفَةِ يَكْرَعُونَ، وَشَرَائِعِ الْمُصَافَاةِ يَرِدُونَ، قَدْ كُشِفَ الْغِطَاءُ عَنْ أَبْصَارِهِمْ، وَانْجَلَتْ ظُلْمَةُ الرَّيْبِ عَنْ عَقَائِدِهِمْ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ، وَانْتَفَتْ مُـخَـالَجَــةُ الشَّــكِّ عَــنْ قُلُـوبِـهِـمْ وَسَـرَائِرِهِمْ، وَانْشَـرَحَتْ بِتَحْقِيقِ‏ الْمَـعْرِفَةِ صُدُورُهُمْ ..

وَاجْعَلْنَا مِنْ أَخَصِّ عَارِفِيكَ، وَأَصْلَحِ عِبَادِكَ، وَأَصْدَقِ طَائِعِيكَ، وَأَخْلَصِ عُبَّادِكَ، يَا عَظِيمُ يَا جَلِيلُ».

 توطئة وجّه أحد الشباب سؤالاً إلى سماحة الشيخ ضمَّنه بعض ما يراه في سماحته من مستوى تهذيب ومعرفة وسلوك ومما قال: “كما نعلم أنّ سماحتكم قد مررتم بفترة صعبة وشاقة جداً في سبيل وصولكم إلى المنـزلة التي أنتم عليها الآن” ومما أجابه به سماحته متواضعًا: “لا أملك لغة أهل العرفان، ولا أعرف لنفسي منـزلة من منازل الصادقين منهم”، وهكذا نجد مما أبّن به سماحتُه العارفَ آية الله بهجت من كلمات واصفًا إياه بقوله: “هذا النوع من الرجال جذّابون للأفئدة والأرواح الباحثة عن جمال المعنى الخالد، وهذه الأفئدة والأرواح هي التي تعرف لذلك المستوى من الناس عظمتهم المتمثلة في درجة عبوديتهم الصادقة للعظيم الأعظم تبارك وتعالى لما لها من صفاء روحي، وذائقة إيمانية، ونصيب مما لأولئك من نور مفاضٍ على أرواحهم من الكريم الأكرم، نراهم دائمًا يعدون أنفسهم لاستقباله بمجاهدة صادقة دؤوب، ومواجهة للنفس لا هوادة فيها.       

ولذلك يكون لأهل المجاهدة، والسير الصادق إلى الله عز وجل بالتزام طريق العبودية إليه سبحانه في مختلف أبعاد الذات ما يشعر الآخرون من أهل الاستعداد على اختلاف مراتبهم بالحاجة إلى التهافت عليه، والاستضاءة به”(1)؛ وإني لا أرى بهذه الكلمات-الأخيرة- إلا أنه يحكي حاله وحال أمثاله ممن تهفو أنفسهم لهذه المقامات وبلوغ الدرجات العالية؛ وذلك لما يعيشه من صفاء نفسي وطهر باطني وروح شفافة.

مقدمة إن اختيار عنوان هذا البحث ليس منطلقه العاطفة ولا المبالغة، وإنما هو مقصود مراد بالإرادة الجدية، فلست في مقام الإطراء أو المدح -ولست في واردهما وهو ما لا يُنتظر من مثلي، بل ولا يحتاجه سماحة الشيخ حتى من غيري- بقدر ما أنا في مقام توصيف واقع ونقل كلمات لشخصية قلّ أن يجود بمثلها الزمن خُلُقاً وصفاء معنوياً وفكراً نقياً، وليس نقلاً حدسياً أو عبر وسائط بل أكثره عشناه وعاصرناه وشهدناه عن قرب.

وليس بالضرورة أن يشتهر عنه ذلك -وهو الذي قد يلعب المحيط الخاص والعام فيه دوراً-، لكن يبقى أن عدم الشهرة ليست دليلاً لنفي ذلك عمن لم يُعرف عنه ذلك، بل قد يكون الدليل على الخلاف أقوى؛ إذ ليس للعارف هيئة خارجية خاصة يمكن اكتشافها وبالتالي إثبات ذلك من خلالها فهناك -كما يقول الشهيد المطهري-: “عرفاء لا يتميزون بالظاهر عن الآخرين في شيءٍ، وهم في نفس الوقت من أعمق أهل السير والسلوك العرفاني، وفي الحقيقة إن العرفاء الحقيقيين هم من أهل هذه الطبقة، لا أولئك الذين اخترعوا من تلقاء أنفسهم مئات الآداب، وابتدعوا ما شاؤوا من البدع”(2).

تمهيد(3) إن أمراً فوق الأمور كلّها ما رُزِقه إنسان وشقي وهو معرفة الله تبارك وتعالى وذكرُه(4)، وإنَّ قيمة الإنسان بمعناه لا بمادته، وبروحه لا ببدنه، وبقلبه لا بقالبه، ولا قيمة حقيقة له إلا بمقدار معرفته بالله(5)، والطريق إلى معرفة الله هي التقوى وتهذيب النفس؛ فلا يكون الإنسان عارفاً إلا إذا تزيّن بالتقوى، وكلما تزوّد بها أكثر انفتحت له أبواب جديدة من معرفة الله، وأكسبته تقواه أنوارًا تزيد بها معرفته، فما من عارف غير تقي، ولا تقيّ بحق غير عارف(6).

وما التقوى إلا تطهير القلب الذي يتحقق بتطبيق أحكام الله: الواجبات والمحرمات، وكلما راعى أحدنا أحكام الله، وراقب في داخله عظمة الله، وجلال الله، وجمال الله، وكمال الله، كلما اهتدى أكثر(7) وكلما عرف الله (عزَّ وجلَّ) أكثر لم يبارحه الخوف، لماذا؟ لأنه من عرف الله (عزَّ وجلَّ) عرف جلالاً لا يُحد، وكمالاً لا يُتصوّر، وعرف قدرة لا يعيش هذا العارف بدون مددها (8) فحقّ أن «الخوف جلباب العارفين»(9).

وما كان الله (عزَّ وجلَّ) ليحتجّ على العباد بما لم يعرّفهم به من نفسه، فلولا أن ألهمهم معرفته، وفتح لهم أبواب العقل والقلب على مزيد من تلك المعرفة، وبثّ الآيات الكونية التي تملأ كل زاوية من هذا الكون، وتظهر في كل ذرّة من ذرّاته لما كان يحتجّ على أحد، ولا يطالب أحداً بمعرفته وعبادته.

ومعرفة الله حقّ معرفته تُنتج تلك الروح التي تنسجم مع الحديث المروي عنه: «أقول للشيء كن فيكون وأنت تقول للشيء كن فيكون»، أي أنَّه بطاعتك لي أرفع منـزلتك إلى المستوى الذي تريد معه الشيء فيكون لخالص طاعتك، وصدق عبوديتك، وهو إنّما يكون بإذن الله وقدرته(10)؛ فإنَّ النفس التي تأهّلت للعبادة حقّ التأهّل، وانفتحت على موائدها، وسمت إلى أفق معناها ترى فيها لذّة لا تعدلها لذّة(11)، وحاجة لا تستطيع أن تنفصل عنها، وغذاء عقل وقلب وروح ونفس لا يهنأ عيش بدونه(12)، ومردود العبادة اليوم نعم كبرى جليلة عظيمة في الآخرة، وأعظمها لذّة القلب بمعرفة الله، ومعاينته له، وامتلاؤه شعوراً برضاه، وغناه بتوحيده(13).

 معنى العرفان لغة واصطلاحاً: أما لغة: من عَرَفَ معرفةً وعرفاناً: أدرك بحاسة من حواسّه، أعاد إلى ذهنه أو استخرج من ذاكرته صورة شخص أو شيء رآه أو سمعه ثانية .. عرف طريقه: أدرك وفهم وعلم(14).

وأما اصطلاحاً: يقول الراغب في مادة «عرف»: “المعرفة والعرفان: إدراك الشيء بتفكّر وتدبّر لأثره، وهو أخص من العلم، ويضاده الإنكار، ويقال: فلا يعرف الله ولا يقال: يعلم الله، متعدّيًا إلى مفعول واحد، لما كان معرفة البشر لله هي بتدبّر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال: الله يعلم كذا، ولا يقال: يعرف كذا، لمّا كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصَّل به بتفكر، وأصله من: عَرَفْتُ، أي: أصبتُ عرْفه، أي: رائحته، أو من أصبتُ عُرْفه، أي: خده .. العارف في تعارف قوم: هو المختص بمعرفة الله، ومعرفة ملكوته، وحسن معاملته تعالى”(15).

 والعرفان اليوم أصبح علمًا له تاريخه ورواده ومدارسه ومناهجه وأقسامه، وبيانها التفصيلي يخرجنا عن غرضنا الأساس؛ لذلك نحيل إلى غيره، لكن لا بد من ذكر مقدمات مهمة لنؤسس لهذه المقالة وبسط ما تَمثَّل في شخصية سماحة آية الله المجاهد الشيخ عيسى أحمد قاسم (حفظه الله) تعالى من أبعاد عرفانية.

العرفان: مقبول وغير مقبول: إن العرفان بمعناه الصحيح هو علم شريف حتى قال فيه العارف السيد عبد الأعلى السبزواري: “العرفان علم جليل ليس له مثيل في سائر العلوم مطلقاً في الشمولية والسعة والآثار، والسالك والمسلوك فيه والمقصد والغاية، وكلها جلائل عظام، والبحث في كل واحدة منها يقصر عنه الأفهام، إلا لمن كان ذا حظ من العلم والمعرفة، وهم الأنبياء العظام والأوصياء الكرام، فهم الأصل في هذا العلم الجليل، والقدوة في هذا الطريق”(16).

 لكنه وللأسف الشديد أصبح في بعض المقاطع الزمنية -ومنها زماننا- لقمة سائغة لبعض الجهلة والمتنفعين، حتى ذمّه الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) ورفضه بشكل قاطع حتى قال: “يعمدون بخبث وشيطنة إلى الدفاع عن قداسة الإسلام فيقولون إن الإسلام وسائر الأديان الإلهية يهتمون بالمعنويات وتهذيب النفوس والتحذير من المراتب الدنيوية والدعوة إلى ترك الدنيا والاشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرب الإنسان من الله، والحكومة والسياسة وفن الإدارة أمور مناقضة لتلك الغاية وذلك الهدف الكبير والمعنوي . حيث إن هذه جميعًا لبناء الدنيا وذلك مناقض لسيرة جميع الأنبياء العظام”.

 لذا فما يذكره العرفاء حقاً أمثال الإمام الخميني (قدِّس سرُّه) والسيد السبزواري والشيخ بهجت من معنىً للعرفان هو ما نقبله ونراه اليوم في أمثال شيخنا المعظّم، وهو امتداد منهج الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) فهم العرفاء الحقيقيين بالله تعالى؛ وقد صرّح بهذه الحقيقة السيد الحائري في كتابه تزكية النفس: “لا شكّ أنّ عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو سيّد العارفين وكهفهم وملاذهم وإمامهم وإمام المؤمنين، وأقصد بذلك العرفان بالمعنى الوارد في قوله (عليه السلام) في دعاء كميل: «يا غاية آمال العارفين» .. ومن نقاط القوّة في أئمّتنا (عليهم السلام) الجاذبة للنفوس الطيّبة كان هو العرفان الإلهيّ الشامخ المضيء الذي يشعّ شيء يسير منه فيما وصلنا من اليسير من أدعيتهم وكلماتهم المضيئة”(17).

حقيقة العرفان كعلم: وقع البحث حول العرفان من أبعاد مختلفة وبأفهام متعددة تخرجه في أكثرها عن معناه الحقيقي؛ ولذلك كان له فهم سلبي وآخر ايجابي -كما أسلفنا-، فقد بحثه بعضهم من جهة اجتماعية فاعتبروه (تصوّفاً)، ودرسه آخرون من جهة سياسية فاعتبروه (مخدّراً) ومبعداً عن الحياة العامة، وفهمه قسم ثالث من جهة أخلاقية فوجدوه (مؤنساً) ومهذّباً وما سواه سراب، ودرسه قسم رابع بوصفه (علماً) له بُعدان؛ وهذا هو ما عليه جمع من علمائنا حيث قسّموا علم العرفان إلى قسمين:

 1. علم العرفان النظري.

 2. علم العرفان العملي.

والقسم الأول يشبه (علم الفلسفة الإلهية) والثاني يشبه (علم الأخلاق)، فالأول هو: العلم الذي يختص بدراسة الوجود وتحليله وتفسيره والتعرف على الله تعالى والكون والإنسان، فهو نظريٌ بحت، والثاني هو: ما يسمّى بـ(علم السير والسلوك) وهو الذي يعتمد على تهذيب النفس وتنظيم وضبط علاقة الإنسان وواجباته تجاه نفسه والكون وخالقه للسير إلى الله تعالى والوصول إلى حقيقة (التوحيد)، فهو يهتم بالجانب العملي(18).

رأي سماحة الشيخ في العرفان: عبارات سماحة الشيخ المنثورة بين نضيد نثره مكتوباً ومقروءاً ومسموعاً ليست مباشرة في بيان موقفه ورأيه من العرفان كعلم قائم برأسه إلا أنها في نفس الوقت واضحة في قبول العرفان -بمعناه الإيجابي- بل التجليل لبعض معانيه ومستوياته -وهو ما يساوق عدم الرفض التام والكلي-؛ فقوله: “لا أملك لغة أهل العرفان، ولا أعرف لنفسي منـزلة من منازل الصادقين منهم” يدل دلالة واضحة على أمور منها: أولاً: قبوله بالعرفان.

 ثانيًا: بل تجليله لأهله فإنه يرى أن لأهل العرفان منازل ومراتب عالية ومقامات رفيعة لا يرى نفسه نائلاً لها.

 ثالثًا: أن العرفاء منهم صادقون ومنهم غير ذلك.

 وإذا أردنا أن نقترب أكثر لنتعرّف على معنى العرفان وحقيقة العارف في فكر سماحة الشيخ نجده تحت عنوان «حياة العارفين» حيث يقول: “أتريد أن تعرف الله: التـزم، اتقِ، افعل ما أمر الله، تحذر مما نهى الله (عزَّ وجلَّ)، هذا طريقك الكبير إلى معرفة الله، قبل أن تقرأ اصطلاحات العرفان، وبعد أن تقرأ اصطلاحات العرفان .. نعم أولئك هم العارفون بالله يعيشون الأنس لا تقرص قلبهم وحشة .. يجدون دائماً صاحباً مؤنساً، ورفيقاً وفيّاً هو الله (سبحانه وتعالى)”(19).

وهو ما يظهر أيضاً من نصّه التأبيني للعارف الشيخ بهجت، وما سيأتي من مجموعة من كلماته.

 أهمية العرفان بقسميه كما يراها سماحة الشيخ – النظري والعملي: البعد النظري هو الأساس في البناء الروحي وفي السير العملي، ولا ينبغي أن ينفكا عن بعضهما في حياة الإنسان فـ “ليس عقلاً ذاك الذي يعمى عن الله (عزَّ وجلَّ)، وليس العاقل والحكيم من عرف الله ولم تأخذ به معرفته إلى طاعته سبحانه.

 تُختبر العقول في تجارب الحياة ومختبراتها على مستويات، إلا أن الاختبار الأكبر للعقل في هذه الحياة هو أن يطيع العبد ربّه أو لا يطيعه.

فالأعمى أعمى البصر الذي لا يرى الشمس كيف أقول عنه بأنه مبصرٌ؟! والأعمى عن نور الله الذي لا ذرّة في الأرض ولا في السماء إلا وهي قائمة به ومن عطائه كيف أقول عن العقل الذي لا يراه وهو النور العام الذي يملأ الكون كلّه ولا نور إلا منه بأن صاحبه عاقل!”(20).

ويظهر جلياً عمق سماحة الشيخ في معرفته النظرية وعظمته في تربيته الروحية ولذا يقول “وإنما تطلب تقوى الله بمعرفته، وكلما تزيّنت النفس بالتقوى انفتحت لها أبواب جديدة من معرفة الله، وأكسبها تقواها أنواراً تزيد بها معرفتها، وما من عارف غير تقي، ولا تقيّ بحق غير عارف”(21).

 وهكذا يوصي دائماً بتوطيد العلاقة بينهما “أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله وأن نقرن العلم بالعمل، والعمل بالتقوى؛ فالعلمُ على من لا يعمل حجّةٌ ملزِمة، والعمل بلا تقوى عاقبة مؤلمة، ومن حمل علماً بلا تقوى كان علمه سيفاً بلا رادع، وقوة بلا وازع، وكان شرّه أقرب من خيره، وجهله أهون على الناس من علمه”(22).

– العلاقة بين المعرفة والطاعة والجهل والمعصية: إذن العلاقة بين الطاعة والمعرفة والمعصية والجهل مطردة؛ إذ “لا تستثقل نفسٌ من طاعة الله شيئاً إلا جهلاً بحقه، ولتفريطٍ في ترويضها على طريق الكمال.

ولا تتعلق بشيءٍ من معصيته إلا سفهًا منها، ولتهاونٍ في تأديبها عن الحرام فلنأخذ بالنفس على طريق معرفة الله واستشعار عظمته، وجميل منه وإحسانه، وجليل مثوبته، وكبير عقوبته.

ولنجدَّ في تهذيبها من الرذائل، وترويضها على اكتساب المآثر والفضائل، فالنفس كلما نقت وكملت اتجهت إلى الله وطابت لها طاعته، وكلما خبثت ودخلها النقص انحرفت عنه جلّ وعلا، وهانت عليه معصيته”(23).

صلب البحث المقام الأول:- العرفان النظري في فكر وكلمات سماحة الشيخ الجهة الأولى:- الطريق إلى العرفان النظري مقدمة: التفكّر طريق الوصول دائماً وأبداً تجد سماحة الشيخ متفكّراً في نفسه وفيما حوله وباعثاً لتفكّر الآخرين، يجعل من كل شيء سبيلاً للتعلق والارتباط والتقرب إلى الله، فتجده دائم التفريق بين صنفي الناس على هذا الأساس فيقول في بعض كلماته:

 1- “هناك قوم يتفكّرون فيصلون إلى الحقيقة التي لا بد لسعادتهم من الوصول إليها، والأخذ بها، وبذلك يقيمون حياتهم على هدى ونور، وتأخذ بهم هذه الحياة من خلال هذا الهدى والنور إلى شاطئ الأمان، وإلى سعادة أبدية لا انقضاء لها.

 وهناك قوم لا يتفكّرون، لا لأنهم حُرموا من قدرة التفكير أساساً، فالناس خُلقوا قادرين على التفكير، ولكن هناك من يقيم حياته ابتداءً اختياراً على الهوى فيغلب الهوى قابليّة التفكّر عنده، ولا يعود يقبل فكره ما كانت تخالف الهوى، فلذلك هم لا يتفكّرون، وإنّما هم مغمورون دائمًا فيما اشتهت النفس وما سوّل به الشيطان”(24)، فالمنجي للأوُل هو التفكّر والمهلك للثاني هو عدم تفعيل نعمة العقل والتفكير.

 النقطة الأولى:- العرفان يبدأ بمعرفة هدف الخلقة: قيمة كل امرئ بقيمة ومستوى هدفه وغايته، “وأي أفق رؤية أوسع من أفق رؤية تجاوز بسعته القلبُ كل غيب وشهادة ليعرف الكثير من عظمة الله التي هي فوق كل حدّ، وأبعد من كل محدود”(25).

 – معرفة الهدف تبدأ من معرفة حقيقة الإنسان: “هل أنا بدن؟ هل أنا روح؟ والإنسان حسب الآية نفخة من روح الله في جسد من قبضة من طين .. لي وجدان يميّز أني لست بدنا خالصًا، ولست روحًا خالصة في هذا الوجود، ولكني في معناي الذي يمكن أن يكون محترمًا، في معناي الذي يمكن أن يكون أكبر من الجبال الشوامخ، ويمكن أن يكون مستحقًا لأن تسخّر له السماوات والأرض، لست هذا اللحم والدم والعصب، إنما أنا روح إذا كانت تلك الروح موصولة بالله.

 هذا الإنسان الكريم هو الروح إذا كانت تلك الروح موصولة بالله، هو القلب إذا كان ذلك القلب عارفا بالله، هو القلب إذا كان ذلك القلب ذاكرا لله.

والطين لا يستمد الإنسان إشراقته وسموّه منه، وإنما يستمد ذلك من نفخة الروح، والروح هي التي تزداد سموا وتقبل الخلود، وتترقى في سيرها تجاه الله (سبحانه وتعالى).

والبدن بعد اشتداده ينحدر وينهك، وتنهد قواه وتتبعثر بنيته، وتتشتت ذراته.

 ويحتفظ المضمون الروحي عند الإنسان بما تحقق له من نضج ورشد وتبلور مع كل تحولات البدن، ويبقى الإنسان يعرف ثبات ذاته الإنسانية، ووحدة شخصيته العائدة للروح في كل أدوار حياته حتى لو تلف من البدن ما تلف، ورضاه عن هذه الذات لو وجدها نقية مشعة عارفة مهتدية، واعتزازه بها لا يتأثر بما يعانيه من نقص في بدنه”(26).

 – ما هو هدف الخلقة؟ “الآيات الكريمة تُركّز على هدف الخلق للإنسان والتربية الإلهية المتجهة به إلى ذلك الهدف، والهدف هو الرحمة بالإنسان، وتدفق الفيض الإلهي عليه، وهو فيض أول ما يتعلق بالذات الإنسانية للإنسان بما يقوِّمها من عقل متطلع إلى الحق، باحث عن مصدر الوجود والحياة والنور والجمال، ومن قلب لا يعطيه الطمأنينة غير الإيمان، وروح لا تسعد إلا بمعرفة الله وعبادته والانشداد إليه”(27).

هدف الخلق: “{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}(28)، خلق الله الجنّ والإنس ليسعدوا لا ليشقوا، وليتكاملوا لا ليهبطوا، ولا مصدر لخير ماديّ أو معنوي في بدن أو عقل أو قلب أو روح إلا الله، وكما لا تجد حياة الأجساد خيرها ورزقها وقوامها إلا منه سبحانه، فكذلك العقول والقلوب والأرواح.

والأرض لا تنفصل في حياتها عن عطاءات السماء، وكل شيء في الأرض مسترفد لفضل الله دائمًا حتّى يبقى، وهو في تعلّق دائم وعبادة مستمرة له سبحانه من أجل خيره وبقائه.

والعقول والقلوب والأرواح في وجودها التكويني على حدّ كل الأشياء الأخرى في استعطاء الوجود والحركة والتأثّر والتأثير من الله الذي لا تجد مصدر عطاء غيره”. “والعبادة الخضوع وإقامة الذّات في مقام العبودية فكرًا وشعورًا وعملاً، والحقّ منها ما كان لعلاقة المالكيّة والمملوكية الحقيقية.

 والمالك الحقّ لكلّ الذوات والأشياء إنما هو الله تبارك وتعالى الذي منه الوجود ابتداءً واستمرارًا، ولا يملك شيء استقلالاً عنه في وجوده طرفة عين أبدًا ولا أقلّ من ذلك، فكان هو الحقيقَ لعبادة العباد دون كلّ من سواه”(29).

التوحيد الأفعالي في وجدان وسلوك سماحة الشيخ: من الصفات المتجذرة والبارزة في كل أفعال وحركات وسكنات سماحة الشيخ هي صفات التوكل والتسليم وعقيدة القدرة المطلقة والفاعلية المحضة لله تعالى وهو بحث مستقل يطول ذيله، ننقل بعض نفحات كلماته في ذلك: “انظر إلى الإنسان في كل وجوده، إنه يتجه دائمًا في كلّ وجوده وحياته إلى الاستعطاء من مصدر واحد، مصدر يملك العطاء. الإنسان مستقطب إلى الله (عزَّ وجلَّ) ومتمحور حول الله (عزَّ وجلَّ) ومنشد إلى الله (عزَّ وجلَّ) في كل خلية من خلاياه وفي كل ذرّة من ذرّاته، تطلب الخلية والذرة الوجود، وتطلب النظام، وتطلب الحركة، وتطلب الغاية، وتطلب المسار إلى الغاية، وليس من معطٍ لأيّ شيء من ذلك إلا الله (سبحانه وتعالى)”(30).

ويقول أيضاً في أوائل بعض خطبه مع الوصية بالتقوى: “أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، والاستعانة عليها بالله، والاستعانة بها -كما هو مفاد الكلمة عن أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ ذلك أنه لا خير إلا بالله، ولا توفيق لكمال إلا منه، فليس لنفس أن تكون على تقوى إلا بإذنه، وتقوى المرء حجة من الله له يوم الحساب يستعين بها على ما يلقاه من عدل الله، وما أعدّه سبحانه من أليم العقاب لأهل معصيته.

التقوى التقوى فلا نجاة غدًا بلا تقوى، ولا خوف على من اتقى فالطريق الوحيد لنيل التقوى -التي هي أهم شيء في حياة الإنسان- إلا بطلب العون والمدد من الله تعالى وحده”(31).

النقطة الثانية:- معرفة النفس: – ضرورة معرفة مرتبة الحقيقة الوجودية الفقرية للإنسان: وردت الروايات الكثيرة في أنَّ طريقاً مهمّاً من طرق معرفة الله هي النفس التي بين جنبي الإنسان، ولكن السؤال المهم هو كيف السبيل لمعرفة النفس؟ يجيب سماحة الشيخ بجواب دقيق وعلمي: “الإنسان له مرتبة وجودية محدودة، وعند حدِّه تقف قواه، وينتهي تصرفه، ولا يمكن لنموه أن يتقدم أبدًا، وحال كل شيء ممكن هو حال الإنسان في ذلك على اختلاف في المراتب والحدود، واتحاد بني الانسان وجِدُّهم وأخذهم بأسباب العلم والقوة يتقدم بمستواهم عمّا هم عليه من واقع مما كان صنعه بدرجة أقل من الوحدة والجِدِّ والاهتمام بأسباب الرفعة والنمو إلى واقع جديد أكثر غنى وتطوراً ورقيّاً، ولكن لا يمكن أن يتجاوز جدار الإمكان بالنسبة للإنسان، وواقع محدوديته، أو مرتبته من سلم الوجود.

هذا من ناحية الواقع، أما من ناحية الوهم ومجرد الخيال فيسع الصغير أن يكون في نفسه مخطئاً كبيرًا، والمحدود أن يكون متخيِّلا مطلقا، لكن هذا الوهم الذي ينفصل بصاحبه عن الواقع لا يبني إلا أوهامًا ولا يشيد حقائق، والوهم أوهن من أن يقاوم الحقيقة، والواهم لا بدّ أن تعلِّمه حقائق الحياة والوجود ولو أخيرًا بأنه واهم، وبأنه صغير، ومحدود، ومقهور.

 وفي تأخر هذا الدرس حتى اللحظة الأخيرة من الحياة، وبعد أن يقضي مأسورُ الوهم كل حياته في السراب مصيبة كبرى، وخسارة فادحة ليس مثلها خسارة”(32).

 – شرح رواية «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»: يقف سماحة الشيخ ليعرّف طرق معرفة النفس الموصلة إلى معرف الرب سبحانه فيقول: “ماذا ستعرف من نفسك؟ ستعرف شيئين:

 1- لا بد أن تعثر في ذاتك على نقص أصليٍّ من منشأ فقر الذات.

 2- ولا بد أن تعثر في ذاتك على كمال.

 بيانه: ذلك النقص تجد أنك لا تستطيع أن تسدّه، فتكتشف بذلك فقرك وإمكانك، والكمال الذي تجده في ذاتك تبحث فتجد أنه ليس من ذاتك.

كمال ذاتك لم تعطه ذاتك، كمال ذاتك لم ينبع من ذاتك، إنّما كمال ذاتك من ذاتٍ فوق ذاتك، وكلّ الذوات بذلك تعرف الله، فأنت حين تعرف نقصك وإمكانك، تعرف كمال الله ووجوبه.

 – زيادة في الإيضاح: من خلال الوقوف مع روايات أخرى يمكن أن يتضح معنى أنّ معرفة النفس طريق مهم لمعرفة الله تعالى: الرواية الأولى: «أكثر الناس معرفة بنفسه أخوفهم لربه»، وإذا ما عرفنا أنفسنا عرفناها فقيرة، عرفناها محدودة، عرفناها مقطوعةً إلا من رحمةٍ من الله، عرفناها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضرّاً، عرفناها معلّقةً بعطاء الله، وإن ينقطع عطاء الله عنها تتحول إلى عدم، وبذلك يخاف من عرف نفسه ربه.

الرواية الثانية: «معرفة الله سبحانه أعلى المعارف» نعم، معرفتنا بالنفس مهمةٌ جداً جداً، ولكن تعلوها معرفة الله، ومعرفتك نفسك مقدّمة موصلة إلى معرفة الله سبحانه”.

(33) النقطة الثالثة:- معرفة الله في فكر سماحة الشيخ: كلمات سماحة الشيخ زاخرة بالتأكيد على أهمية معرفة الله تعالى فلا تجد خطابًا تربويًا ولا أخلاقيًا إلا وفيه إشارة من قريب أو بعيد في ذلك، فهو يقول: “ما من معرفة تبلغ شرفاً ورفعةً وأهميَّة وعلوّاً مبلغ ما عليه معرفة العباد لله سبحانه، وإنما تشرف المعارف بمقدار ما تساعد على معرفته سبحانه وتثبِّتها وترسّخها، وهي سرّ القوّة والاستقامة والسعادة عند الإنسان”(34)، “وكل العلم دون معرفة الله لا يخلق تقوى، ولا يقيم وضعاً إنسانياً كريماً، ولا يُشيد حياةً آمنةً رشيدةً راقيةً سعيدة، ولا ينتهي بحَمَلَتِه إلى الخير”(35).

 – ماذا هي معرفة الله؟ “أن يرى العقل، ويتيقن القلب بوحدانية الله وأحديّته، وأسمائه الحسنى، ويملأ ذلك وجدان الإنسان، ويملك عليه مشاعره، ولا تغيب عنه هذه المعرفة ولا تغيم في شعوره، ولا يغلب عليها ظرف من الظروف، ولا يُلهي عنها شيء، ولا يحول بينها وبين القلب حائل من دون الله وأن تحكم الحركة والسكون من صاحبها أمر ممكن(36) بل ومتحقّق بدرجته العالية في واقع فئة من الناس كالرسل والأئمة (عليهم السلام)”.

 – مقام معرفة الله: “إن العلوم والمعارف على كثرتها وتنوعها وتفاوت درجاتها إنما تطلب من أجل غيرها، والمعرفة الوحيدة التي تطلب لنفسها وتمثل غاية الغايات بلا غاية وراءها هي معرفة الله معرفة حقة، وإن تكن المعرفة المحدودة لغير محدود، فغاية السعي أن ينعم القلب برؤية ربه، وتنتهي به المعرفة إلى معرفته، فحينئذ ينتهي الطلب إلا من مزيد معرفة، وجديد رؤية له سبحانه، وترضى النفس، وتقر العين، وتهنأ الحياة، ويطيب الوجود.

إذا كان المطلوب للإنسان أن تغنى نفسه، ويبلغ أعلى رقيّه، ويخرج من الخوف المحطّم، والوحشة القاتمة، والشعور بالفناء، إلى غزارة الشعور بالأمن، والأنس والبقاء، فإن معرفته لربه توفر له كل ذلك، وتتجاوز في عطائها حدود ما يتصوّر”(37).

 – مراحل معرفة الله: “أولاً: ممن المعرفة؟ لا وجود لشيء، ولا حياة، ولا علم، ولا أثر إلاَّ بالله (عزَّ وجلَّ)، فلا يُتوهّم أن أحدًا يملك من ذاته أن يعرف الله (عزَّ وجلَّ) بأي مستوى من المعرفة؛ فإنّه لا معرفة بالله سبحانه إلا من الله، وبفضله ورحمته.

وفي هذا المعنى توجد بإزاء دلالة العقل، ونور الفطرة، والأدلة النقلية العامة، نصوص كثيرة خاصة منها ما يأتي:

 1- عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) في الدعاء: «بك عرفتك، وأنت دللتني عليك، ودعوتني إليك، ولولا أنت لم أدر ما أنت»(38).

2- وعن الصادق (عليه السلام): «ألا إنه قد احتجَّ عليكم بما قد عرّفكم من نفسه»(39).

 وما كان الله (عزَّ وجلَّ) أن يحتجّ على العباد بما لم يعرّفهم به من نفسه، فلولا أن ألهمهم معرفته، وفتح لهم أبواب العقل والقلب على مزيد من تلك المعرفة، وبثّ الآيات الكونية التي تملأ كل زاوية من هذا الكون، وتظهر في كل ذرّة من ذرّاته لما كان يحتجّ على أحد، ولا يطالب أحداً بمعرفته وعبادته”.

 – “بمن المعرفة؟ بي أعرف ربي؟ بالسماء أعرف ربي؟ بما أنبت؟ بما خلق؟ بما أحيا؟ .. «بك عرفتك، وأنت دللتني عليك، ودعوتني إليك، ولو لا أنت لم أدر ما أنت» الخلق والنظام والعلم والعطاء والكمالات المحدودة المتفاوتة انعكاسات لنور الوجود الإلهي المطلق، لا بالصورة المطلقة التي لا يطيقها المحدود.

أنت ترى انعكاساً لنور الله، أنت ترى في عظمة الجبال، في جمال الوردة، في دقة الصنع، في إحكام التدبير، انعكاساً، شعاعاً، من إشعاع الوجود الإلهي المطلق . فأنت به تراه”(40).

 “ثانياً: طريقان: طريق معرفة وطريق ضلال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}.

هذا هو طريق معرفة الله، هناك طريقٌ نسلكه فيأخذ بيدنا إلى معرفة الله تعالى، وهناك طريقٌ آخر نسلكه فيتيه بنا ويزيغ وينحدر بنا عن الصراط، ويقطعنا عن رحلة الكمال، والله لا نجده إلا من خلال رحلتنا إلى الكمال.

 {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ ..} التقوى طريق معرفة الله، التقوى معناها أن يطهر القلب، أن تراعي أحكام الله: الواجبات والمحرمات، وكلما راعى أحدنا أحكام الله، وراقب في داخله عظمة الله، وجلال الله، وجمال الله، وكمال الله، كلما اهتدى أكثر.       

 لا تقوى إلا بالإيمان بالرسول، ولا إيمان لمن لم يعمل بأوامر الرسول ونواهيه، سواءٌ كانت هذه الأوامر والنواهي من الأحكام الإلهية، أم من الأحكام الولائية أي من الأحكام التي تصدر من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، من خلال موقع الحكومة لا من خلال موقع التبليغ.

الأخذ بالدقة، بأوامر ونواهي القيادة الشرعية، المتمثلة في قمتها العليا في رسول الله الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، طريق إلى أن يكتسب الإنسان نورًا من رحمة الله (عزَّ وجلَّ)، إلى أن تتنـزل عليه فيوضات معرفة الله (سبحانه وتعالى).

 أتريد أن تعرف الله: التزم، اِتقِ، افعل ما أمر الله، تحذر مما نهى الله (عزَّ وجلَّ)، هذا طريقك الكبير إلى معرفة الله، قبل أن تقرأ الفلسفة، وبعد أن تقرأ الفلسفة، قبل أن تقرأ اصطلاحات العرفان، وبعد أن تقرأ اصطلاحات العرفان.

 ثالثاً: حياة العارفين:  – «إن معرفة الله أنسٌ من كل وحشة ..» نحن نطلب الأنس في الأهل، في الأصدقاء، في أن نجمع حولنا من الرأي العام أكبر قدر ممكن، ولكن ما يؤنس من الوحشة هو غير ذلك، القلب الذي يفقد الرؤية لله، معرفته بربه، لا يمكن أن يأنس الأنس الكامل بعيداً عن معرفة الله (سبحانه وتعالى): كن في الظلمة الظلماء، كن الوحيد الشريد، كن في السجن المطبق، كن في ظرف الفقر المدقع، وقلبك مفتوحٌ على معرفة الله، ستشعر بالأنس، ستشعر بالعزة، ستشعر بالفخار، ستشعر بالثقة التامة.

وافقد معرفتك بالله، واسكن القصور، وكن من تكون في رغدك، فإنك لن تكون الإنسان الذي يعيش قلبه الأنس الحقيقي وعلى أتمه.

«إن معرفة الله أنسٌ من كل وحشة، وصاحب من كل وحدة، ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف، وشفاءٌ من كل سقم» سقم الأرواح، سقم القلوب، سقم الصدور.

نعم أولئك هم العارفون بالله يعيشون الأنس لا تقرص قلبهم وحشة(41) .. يجدون دائماً صاحباً مؤنساً، ورفيقاً وفيّاً هو الله (سبحانه وتعالى)، لا يعيشون وحشة الظلمة، لأن معرفة الله لهم نور من كل ظلمة، لا يعيشون حالة الضعف، لا في حال الهزيمة ولا في حال النصر، وللنصر ضربٌ من الضعف، وللهزيمة نوع آخر من الضعف، وللغنى ضعف، وللفقر ضعف، يدخل به هذا الظرف أو ذلك الظرف على النفس، والنفس الناجية من الضعف في كل الظروف وفي كل الحالات، هي نفسٌ آمنت بالله، عرفته، عاشت الأنس به « ..وقوة من كل ضعف، وشفاءٌ من كل سقم» من حالات الحقد، حالات الحسد، حالات التذمر . الخ، قلبٌ غسله نور الإيمان، وطهر المعرفة، فلم يبق يعاني من سقم ولا مرض.

«من صحتّ معرفته، انصرفت عن العالم الفاني نفسه وهمته» لم يعد يقتتل اقتتال الحشرات على النفايات.

«يا من لا يبعد عن قلوب العارفين» الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. ما له من قلب لا يبعد عنه الله، وكان من تلك القلوب، قلب الحسين (عليه السلام)”(42). – ثمار معرفة الله:

 1- السعادة الكبرى: “السعادة كلّها في معرفة الله، وتفاوتُ درجاتها بالتفاوت في معرفته، فما عَظُمَ منها شيء إلا بعظم المعرفة، وما صدق منها شيء إلاّ بصِدقها. ومن طلب أن يكون من خير البريَّة فلا سبيل له إلا أن يؤمن بالله، ويتحلّى بمعرفته، ويسلك السبيل إليه.

 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}(43). وما أعظمه من جزاءٍ أعدّه الله لعباده من خير بريّته، وأهل خشيته {جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}(44)”(45).

2- طهارة الباطن: “ولا يتمّ للسريرة صلاحها إلا بمعرفة الله، والتعلق به والاشتغال بذكره والانصراف إليه والاستغناء به، والتوكل عليه، والرضا به، وإلا تعرّض القلبُ لمختلف الأمراض وألوان السوء، وكدّرته الأخباث وأثقلته الأوزار وكان مصدر الشر، ومنطلق المتاعب، ومبعث الرعب والوحشة لصاحبه وللآخرين، وساءت به الحياة”(46).

 3- التقوى: “التقوى هي استقامةُ الذّات على طريق الله، وتقديمه على كلِّ من سواه في جميع الأمور.

 ولا تبقى إنسانيّة الإنسان، ولا تظهرُ في حياته، ولا يَسلَم قلبٌ، ولا يطهر ضمير، ولا تصحو روح، ولا تصحُّ إرادة، ولا تستقيمُ نفس، ولا تطمئنُّ حياة، ولا ينصلح مجتمع كما يكون كلُّ ذلك في ظلّ التقوى القائمةِ على معرفة الله، ودينه الصِّدْق معرفةً لا زيف فيها.

 وأبلغ ما يُحقِّق ذلك معرفة الله (عزَّ وجلَّ) المعرفة التي نالها أنبياؤه ورسله، والأئمّة الذين اصطفاهم من المخلَصين من عباده(47)”(48).

 4- الحياء من الله: “عن الإمام الكاظم (عليه السلام): «استحيوا من الله في سرائركم كما تستحيون من النّاس في علانيتكم»(49).

 “النّاس عامّة وخاصّة من حيث الإيمان ومعرفة الله سبحانه، وهذا خطاب للعامة منهم فيما يظهر، فلا أقل للإنسان المسلم من الشعور في خلواته برقابة لله مثيرة للحياء في النفس منه سبحانه ولو على حدّ ما تثيره رقابة النّاس في العلن من ذلك ممّا يردع عن ارتكاب القبيح عند النفوس غير الساقطة بصورة نهائية.

 أما أهل الإيمان الحقّ والمعرفة الجليلة فلا يعدل حياءهم من الله العظيم حياء، ولا تقاس هيبتهم أمامهم بهيبة، ولا توقيرهم لجلاله وجماله بتوقير.

 فهل ترى أن الإمام الكاظم (عليه السلام) يكون حياؤه من الله في سرّه على حدّ حيائه من الناس في علانيته فحسب؟! إن له حياء من الله في علانيته وسرّه بما لا يعدله حياء من أحد أبداً”(50).

 5- الخوف من الله تعالى: “من عرف الله (عزَّ وجلَّ) لم يبارحه الخوف، لماذا؟ من عرف الله (عزَّ وجلَّ) عرف جلالاً لا يحد، وكمالاً لا يُتصوّر، وعرف قدرة لا يعيش هذا العارف بدون مددها.

 عرف مصدر خير لا خير له من دونه، عرف من بيده نَفَسُه، من بيده نبض قلبه، من بيده شره، ولا يدفع عمن أراد به شرّاً كلّ الخلق وكيف يُخاف من غضب مَنْ هذا شأنه؟! لو كان هناك مريض وفرضنا أنه لا يعرف الله، ويتصوّر أن مصيره بيد الطبيب الذي يجري له عملية القلب، وأن الطبيب حرّ في إرادته بصورة مطلقة بحيث يملك مشاعر قلبه وتوجهاته، وأن مصير هذا العبد متروك لإرادة ذلك الطبيب فكم يبلغ خوف هذا المريض من إغضاب ذلك الطبيب، وإلى أيّ مدىً يكون تعلّقه به؟ فمن عرف الله (عزَّ وجلَّ) بيده وجوده، بيده حياته، بيده كل شيء من ذاته كيف لا يخافه (سبحانه وتعالى)! من عرف أن إرادة الله لا تردّها إرادة، وأن الله (عزَّ وجلَّ) لا يُغش في علمه، ولا يحول بينه وبين ما يريد سبحانه وتعالى أي حاجة، فكيف لا يخافه؟ فحقّ أن «الخوف جلباب العارفين»(51)”(52).

 6- الولاية على التكوين: “معرفة الله حقّ معرفته تُنتج تلك الروح التي تنسجم مع الحديث المروي عنه: “أقول للشيء كن فيكون وأنت تقول للشيء كن فيكون”، أي أنَّه بطاعتك لي أرفع منـزلتك إلى المستوى الذي تريد معه الشيء فيكون لخالص طاعتك، وصدق عبوديتك، وهو إنّما يكون بإذن الله وقدرته”(53).

“فلنأخذ بالنفس على طريق معرفة الله واستشعار عظمته، وجميل منّه وإحسانه، وجليل مثوبته، وكبير عقوبته.

ولنجدَّ في تهذيبها من الرذائل، وترويضها على اكتساب المآثر والفضائل، فالنفس كلما نقت وكملت اتجهت إلى الله وطابت لها طاعته، وكلما خبثت ودخلها النقص انحرفت عنه جلّ وعلا، وهانت عليه معصيته”(54).

موانع معرفة الله: “أنوار الحقّ ساطعة، وأبواب معرفة الله مشرَّعة، وطرق طاعته سالكة، ودعوته إلى الجنّة قائمة، وشريعته واضحة ولكنّ المشكلة في القلوب التي أمرضها حبّ الدنيا، وأفسدها الإقبال المجنون على شهواتها، والبصائر المزاحمة بالهوى، المدخولة لغشوات العمى بما اجتمع من ذنب، وتراكم من معصية، وتوالى من عناد”(55).

المقام الثاني:- العرفان العملي في فكر وسلوك سماحة الشيخ العملي المحطة الأولى:- معايير السير والسلوك إلى الله: لكي يجتاز الإنسان مراحل السير والسلوك ويعبر محطات تهذيب النفس وحتى يصل إلى الهدف السامي لخلقته، ويرتقي بروحه إلى مدارج كمالها لا بدّ أن يوفّر شروط ذلك وهي كما في كلمات سماحة الشيخ كثيرة منها: الخطوة الأولى:- الحب والشوق إلى الله: “ليس أجلى ولا أسمى في علائم الإيمان بالله (عزَّ وجلَّ) ومعرفته من أن يملأ القلبَ حبُّه، فمن وجد من حبِّ الله ما يملأ قلبه كان قلبه مليئاً بالإيمان، والمعرفة العالية.

والحبّ الصادق لله تبارك وتعالى يأخذ بقلب العبد في اتجاهه، وبكلِّ خطاه على طريق مرضاته، ويحميه من الانحدار، ويقي مشاعره من أن تسخف، أو تميل لباطل، أو تستذوق الفساد.

حبُّ العبد ربَّه الجليلَ العظيم يصوغه في ضوء أسماء الله الحسنى، ويتنـزّه بشخصيته عن كلّ ما فيه انحطاط من جهل، وخلقٍ لئيم، ويزينه بما هو رائع وجميل مما فيه كمال الإنسان”(56).

“حبّ الله إذا صدق، وصبغ شخصية العبد في تفكيره وشعوره وعمله وعلاقاته وكلّ شؤونه لم يأت شيء من كل ذلك عند هذا العبد إلا طاهراً جميلاً كريماً محبوباً لله سبحانه، ولم يُتصوّر في هذا المحبّ أن يتخلّف عن طاعة الله وعبادته في لحظة من لحظات حياته”(57).

“كلّ شيء ينتهي الشوق إليه بالوصول إليه، أما الله (سبحانه وتعالى) فهو الكمال المطلق فلا ينقطع الشوقُ إليه .. نجوع ونشتاق إلى ما يسدُّ حاجة الجوع، ونرى في الأكل كمالاً، فنتوفّر على ما يشبع، فتنقطع اللذة، ويحترق الشوق، وتنتهي عملية الانشداد، وربّما آلت إلى نفرة.

إذا كان الشخص ممن يتحمّل مع المضايقة ثلاث عشرة لُقمة فإنّ الرابعة عشرة تُحدث له نفرة.

أيّ شيء تتصوّره كمالاً وتنسدّ حاجتك منه فيقف طلبك إليه هو كمالٌ كاذب، وهو مطلب غير المطلب الحقيقي الأصل لكل إنسان، ولكل شيء وهو الكمال المطلق؛ والكمال المطلق هو الله.

حتى الذين يطلبون فوق البلايين بلايين من المال إنما بتصور أن المال كمال، ولكن لو التفتوا فإنّ المال محدود، وهم يطلبون كمالاً مطلقاً وليس من كمالٍ مطلق إلا الله (عزَّ وجلَّ).

نعم، السعي إلى الله يرفع صاحبه ويضيف كمالاً دون أن يقطع الطريق إليه”(58).

الخطوة الثانية:- تجسيد أسماء الله الحسنى: “المؤمن إنما يصوغ نفسه ليأتي صورة مرضية عند الله (سبحانه وتعالى) والصورة الإنسانية التي يرضاها الله (سبحانه وتعالى) هي التي تصنع على ضوء أسمائه الحسنى فتأتي كاملة، تأتي كاملة الكمال الإنساني لتكون مرضية لله (سبحانه وتعالى)”(59).

الخطوة الثالثة:- السير والسلوك الالتزام الدقيق بأحكام الشرع: “أحكام الشريعة، مقررات العقيدة الحقة هي ميزان الذوات الإنسانية، انظر كم لك من شعور بالله، بعظمة الله، بجمال الله، بجلال الله، انظر ما مدى تحليق نفسك تحليقاً إيمانياً بعيداً عن الأوهام، لا يتهافت مع فطر العقول ومع أوليات العلم، هذه المقاييس هي المقاييس التي توزن لها الذات الإنسانية”(60).

الخطوة الرابعة:- الخشية من الله تعالى: “الخوف من غير الله منقصة والخوف من الله كمال.

خوفك من الله يفصلك عن الرذيلة، ويشيع فيك رغبة الفضيلة، وينشّط فيك روح التسامي، ويردعك عن التمادي في الانحدار، ويزهّدك في ما سخف، ويوجّه همتك إلى ما شرف، ويعالج فيك علل الوهن، ويستأصل من نفسك عوامل الكسل والخمول، ويكبح فيها جموح الهوى، ونزوات الشر، ودوافع البغي والعدوان.

فمن خاف الله أُمن شره، وكان الخير منه مأمولاً.

 ومن فارقته مخافة الله تردّى وطغى، وأسرف على نفسه وبغى، وكان شره مرتقباً، والخير منه ميؤساً.

 لأنّ من خاف الله فرّ من سخطه، وسخط الله في ما أفسد، وطلب رضاه، ورضى الله في ما أصلح.

 فمن الفرار من سخط الله، ومن طلب مرضاته تغنى النفس بالهدى والفضيلة والاستقامة، وتبرأ من الضلال والرذيلة والانحطاط”(61).

المحطة الثانية:- عوامل تُعين السالك: “أولاً: أن يعتمد جدول أعمال نافعة ومربّية ومنمّية لذاته حسيّاً وعلمياً وروحيّاً بحيث تستوعب وقته، في نشاطات متنوعة، وبينها فترات استراحة موجّهة، لأنّ الفراغ نافذة الخيال الضار والأماني الهابطة، وفيضان الطاقة مدخل من مداخل المعصية، والسكون ليس صفة الحي الذي يملك القدرة والنشاط، فإذا لم يملأ الوقت بالنافع الراقي مُلأ بالضار الهابط.

 ثانياً: تعشّق الشخصيات العملاقة علمياً وروحيّاً وعلى رأسهم الرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، والتصميم على الارتفاع بالشخصية ما أمكن على خطّهم، والجدّ العملي في ذلك، يعين الشخص على بناء نفسه.

ثالثاً: مراقبة النفس في مشتهياتها، وهل هذا الاشتهاء منها منطلقه صحيح أو لا، نافع أو لا، قائم على النباهة أو الغفلة، وتأديبها عن المشتهيات غير المدروسة، معلم على طريق البناء للذات.

 رابعاً: وعلى تخليص الذات من ملكات السوء، وصفات الرذيلة، لا بدّ لنا من مراقبة عاداتنا التي أنبتت فينا حين الغفلة، والتساهل لنواجهها بقوة، ونقاومها بصمود، وقد تحوّلت وكأنها شيء من طبيعتنا لنحل محلها البديل الصالح، ونغرس مكانها غراس الإيمان والتقوى والفضيلة.

 وكلما تخلينا بالنفس عن رذائلها، ووفقنا في تحليتها بالفضائل، كلما ارتفعت قابليتها للطاعة الخالصة، والقرب الإلهي، وامتصاص درجات أعلى من الإيمان والتنور بها.

ومن استطاع أن يحل الرضا الإلهي محل الرضا الذاتي، مقياساً لسلوكه، ومواقفه، ونيّاته، ومشاعره، فقد وضع نفسه بتوفيق الله على الطريق الواصل”(62).

 المحطة الثالثة:- المنازل العملية لتهذيب النفس والسير والسلوك إلى الله تعالى:

“1- من التفكّر والتدبُّر، والنظر المركّز، وفحص الحقائق ومقارنتها يبدأ جهاد النفس.

 وجهاد النفس هو بداية كلّ جهاد، وركيزته، ومنطلقه. البداية الجادّة لجهاد النفس ونجاحه التفكّر في حقائق طبيعية كبرى هي:

 ‌أ- عظمة الخالق، قدرته، مالكيته، سلطانه، هيمنته، رحمته، لطفه، كرمه، فيضه، إنعامه، حلمه، أخذه، بطشه، وقوّته، حقّه الثابت قبل كل حق، والذي لا حقّ لأحد على أحد إلا مما قام عليه، وعاد إليه، ولا حرمة لحقّ إلا من حرمة حقّ الله.

 ‌ب- عبودية الذات، وكل ذات أخرى وإن تفاوتت مراتب الذوات بعد الاشتراك في وصف الإمكان والفقر الذاتيّ، حتى نصل إلى رسول الله الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، وأقرب المقرّبين من الملائكة الكرام.

 ‌ج- قيمة الذات الإنسانية الموهوبة من الله (عزَّ وجلَّ)، وطاقاتها وقابلياتها التي منحها إياها بمنّه وكرمه.

‌د- ما يتناسب مع واقع الذات الإنسانية المتميّزة في مواهبها وقابلياتها وطاقاتها من وظيفة، وما يتلاءم معها من غاية.

 شتّان بين وظيفة حجر وبين وظيفة إنسان، من يساوي بين جماد ونبات، أو نبات وحيوان، أو حيوان وإنسان، بين جاهل وعالم، ضعيف وقوي، فقير وغني، إلا ساقط غافل؟! ‌هـ- قيمة الدنيا والآخرة: لا تقاس دنيا بآخرة، لا يقاس عَالَمٌ فانٍ بعَالَمٍ لا يفنى، ولا تقاس حياة مختلطة من الآلام والآمال، وكثير من آمالها كاذب، حياة فيها غصص الظّلم، وغصص الفقر والمرض، والخوف والقلق، والتسقيط، والاعتداء على الأعراض، على الشرف، وبين آخرة خالصة في لذّة بدن وفي لذّة روح، ولا يتهدد وضعها الآمن أي شيء. ‌

وفي تقلّبات الأحوال، وما جرى للماضين، وما يجري للحاضرين، وما ينتهي إليه طلاب الدنيا وطلاب الآخرة، وما يصير إليه الخلق وما يبنون ويشيدون من عواقب.

 دنيا وكون ماديّ ينتهي إلى تفكّك، وإلى تبعثر، ويفقد الإنسان أرضيّته التي يطلبها صلبه من كل هذا الكون إلا من التعلّق بربّ الكون تبارك وتعالى.

 والتفكر في هذا كلّه ليس ليوم دون يوم، ولا لساعة دون ساعة.

 وكلما دام الإنسان على هذا التفكير، وكان له منه نصيب ملحوظ تركّزت عنده البصيرة، وصحّت وجهة نظره، ورشدت خياراته، واهتدى إلى الغاية، وقويت مجاهدته للنفس على طريقها، وقرب من الوصول.

 – التفكُّر في الملكوت والآلاء: عن الإمام علي (عليه السلام): «التفكّر في ملكوت السماوات والأرض عبادة المخلصين»(63). فإذا أخلص العبدُ العبادةَ لله، والتوجُّه إليه شغله التفكّر والتدبُّر في فيض العلم الإلهي، والقدرة الإلهيَّة، والرحمة والإتقان والحكمة المتدفِّقة من عطاء الله على هذا الكون الرَّائع البديع المنسجم المتكامل، السّائر في خطٍّ واحدٍ مرسوم، وغايةٍ واحدة مشتركة.

وهو تفكّر يقود إلى مزيد من المعرفة لعظمة الخالق، والإخلاص لوجهه الكريم.

وهذا هو أكبر عطاء للعبادة، وأعظم ما يرتفع بمستوى الإنسان، ويُصلحه، ويُسعده، ويزيد من شأنه، ويُعلي من قدره. وشبيهٌ بذلك ما يعطيه التفكّر في نعم الله، ولذلك جاء عن الإمام نفسه (عليه السلام): «التفكّر في آلاء الله نعمَ العبادة»(64)”(65).

 2- ومع التفكّر التذكّر: “والتذكر للحقائق النافعة لاستضاءة النفس بها فعلا عند خوضها لمعركة الموقف الصعب: موقف الفعل أو الترك مما فيه خيرها أو شرّها، رفعتها أو سقوطها لتأخذ بهذا أو ذاك هو المكمّل للتفكّر ونتائجه المخزونة في النفس، والمفعِّل لدورها في الأخذ بالخيارات الكريمة والرشيدة، وتحمّل النفس لكلفة هذه الخيارات الحقّة وإن ثقلت كلفتها.

 حين تكون النفس على حضور قويّ كافٍ لهذه الحقائق في جوِّها تتحمل الكثير، ويكون الثقيل عليها خفيفاً، وتهون على طريق طلبها لله (عزَّ وجلَّ) كل التحديات.

 ومن علم وأَنْسَتْهُ ضغوط المواقف وإغراءاتُها علمه فهو جاهل”(66).

 “ولنعلم بأنّه ما من علم أهمّ بعد معرفة الله وأُسس دينه من تعلّم الحلال والحرام؛ فإنّه لا تُطلب طاعة الله (عزَّ وجلَّ) بالجهل، ولا تُعرف مواطن الطاعة من المعصية، وما يُصلِح وما يُفسد، وما يُقرِّب إلى الجنّة، ويبعّد منها إلا بمعرفة ما حلَّ، وحرُم.

والزّاهد في العلم بهما زاهد في طاعة الله، متساهل في دينه، متخبِّطٌ في حياته، كثير الكبوة، شديدُ العثرة، بالغ الحسرة”(67).

المحطة الرابعة:- السيرة العملية لسماحة الشيخ في التهذيب والسير والسلوك: خصال علماء الآخرة: التقوى: أهمّ صفة وأبرز صفة في سماحة الشيخ هي شدّة تقواه وورعه، وهو ما تعرفه في أبسط معاملة وموقف تقفه معه، ولننقل هنا بعض من تلك المواقف: – هذه القمامة مخصصة للتوعية: كان سماحته رئيساً لجمعية التوعية بعد تأسيسها لثلاث دورات متتالية (1972-1983)، وكانت تصل إليه رسائل من أفراد وجهات متعددة بعضها بصفته كرئيس للجمعية، وبعضها باسمه الشخصي، وقد رآه بعضهم بعد أن قرأ رسالة أو ورقة وكأنه انتهى منها مزّقها ووضع قطعها الممزقة في جيبه وإلى جانبه سطل القمامة، فقال له: شيخنا . لِم وضعتها في جيبك والسطل قريب منك؟ فقال: هذا السطل مخصص لشؤون الجمعية وهذه الورقة خاصة بي.

– إطفاء المكيّف بعد الاجتماع: كان سماحة الشيخ بعد الانتهاء من اجتماع مجلس الإدارة في جمعية التوعية في غرفة الاجتماعات يأمر بإطفاء المكيّف، لأن تشغيل المكيفات من أجل الاجتماع، فإذا انتهى يعني انتهى الحديث حول الجمعية، وقد وُضع لحاجة الجمعية في هذه الغرفة وهي الاجتماعات.

– نهيه للطاقم عن أكل طعام الضيوف: كان سماحة الشيخ ينهى العاملين في جمعية التوعية والمرافقين للضيوف الذين تستضيفهم جمعية التوعية في الموسم الثقافي كالشيخ الوائلي والآصفي والكوراني والسيد القزيني وفضل الله ينهاهم عن الأكل من الفاكهة التي توضع لزوار الضيوف الذين مدّة أبناء القرى والمدن للسلام على العلماء الضيوف في البيت الذي ينزلونه فترة إقامتهم في البحرين، وقد لاحظ هؤلاء العلماء ذلك، وقالوا لهم: لماذا لا تأكلوا من «القدوع»(68)؟ فقالوا: الشيخ نهانا؛ لأنّ هذا الأكل مخصصٌ لكم ولضيوفكم، فقام الشيخ الكوراني ملاطفاً لهم وأخذ بعض الفاكهة وقال: هذا سهمي وأعطاهم إياه! – الخط بالقلم زيادة على المأذون: نقل لي أبو أحمد (حسن مكي) قال: كنتُ في شبابي –ولا زلت- ممن يحرصون على الصلاة خلف سماحة الشيخ وقد رأيت منه الكثير مما أذهلني وأعجبني في نفس الوقت من إيمان هذا العالم وورعه وتقواه، وكنت أبحث عن السؤال في خلدي حتى أحصل على طريق ونافذة أنفذ من خلالها للحديث مع سماحة الشيخ والتزوّد منه، وإلا اضطر للوقوف قريباً منه لأستفيد مما يسأله عنه الآخرون، وفي يوم من أيام أواخر عام 89 أو بداية 90 جاءه بعضهم للسؤال والتحدّث معه-وحيث لم يكن السؤال والحديث خاصّاً أخذت أسترقّ السمع- وفي الأثناء أراد الشيخ قلماً يكتب به للسائل مسألة أو رقماً ولم يكن بحوزته فبادر السائل وأعطى الشيخ قلماً -وأنا أنظر لذلك المشهد- فأخذ سماحته يكتب لذلك السائل وهنا فاجئني سماحته بما يكشف عن دقة شديدة وورع نادر حيث قال لصاحب القلم وهو السائل: اسمح لي فقد كتبت بالقلم حرفاً زيادة على المطلوب حيث لمّا كتبت حرف الألف وكان صغيراً فعدت عليه مرة ثانية حتى يتضح ويكون أكبر فكان زيادة على المأذون بهذا المقدار؛ لأنّه طلبه لكتابة ما يريده ذاك ولكن سبقه القلم وكتب الحرف مرتين.

 – صحّة الصلاة تمنعها ورقة: نقل لنا بعض المؤمنين: أنه عندما كان يصلي خلف سماحة الشيخ في يومٍ من الأيام في تلك السنوات عندما كان يصلي بالعاصمة في مسجد الخواجة بعد أن انفتل من صلاته قال: سنعيد الصلاة، فسئل بعدها: ما هو سبب الإعادة؟ قال: كانت في جيبي ورقة لشخص ولا أعلم أهو يجيزني في الصلاة بها أو لا؟ – خدشة في الفاكهة قبل شرائها: ينقل أحد السادة من أصحاب محلات بيع الخضروات والفواكه في فترة السبعينات والثمانينات: إن سماحة الشيخ متميّزٌ جداً في دقته من بداياته في شؤونه كلها ومنها أثناء معاملة البيع والشراء، ومما شدّني إليه كثيراً ما رأيته منه: عندما أراد أن يشتري بعض الفاكهة، وكان كغيره يرى الفاكهة ويضع لنفسه حتى يزنها، إلا أنه في يوم من الأيام أخذ يطلب مني براءة ذمته والمعذرة فقلت: وما الأمر شيخنا؟ ما سبب ذلك؟ قال: أصاب ظفر يدي تفاحة -أو غيرها- أثناء أخذها فتسبب فيها بخدشة بسيطة وهي بعدُ لم تدخل في ملكي بل لا زالت في ملكك، فأرجو براءة ذمتي؟! – حرمة المرور على الأراضي المشبوهة ومحتملة الملكية: لسماحة الشيخ ملاحظات غاية في الدقة، يقول ابنه الشيخ محمد علي: صار إيصال سماحة الوالد ونقله وانتقاله بسيارته الخاصة بعهدتي لفترة من الزمن وقد لاحظتُ بعضاً من دقته واحتياطه في أمور تغيب عن أذهان الكثير مثلاً: عندما نريد العبور أو المرور من زقاق ما أو شارعٍ ما في القرية يقول لي: تجنّب هذا الطريق، ولا تمرّ من هذا الشارع، وإياك والدخول في هذا الزقاق، فسألته: لماذا؟ فقال: هذه أرض أخذت من صاحبها من دون رضاه، وهذه أرض وقف وو.

بالإضافة إلى أنه ينهاني عن الوقوف أو حتى الدخول القليل حتى أغيّر اتجاه السيارة إلى الوجهة الأخرى في أرض يحتمل ملكيتها كما إذا كانت أرض خالية بين بيتين فكأنها أرض لبيت لم يُبنَ بعد.

– الاحتياط في كل شيء: في بداية السنة الدراسية 2005م كان سماحة الشيخ في قم المقدسة، كان مدعواً لمؤتمر يقيمه «المجمع العالمي لأهل البيت (عليهم السلام)» وكان يسكن في فندق «قصر» من قبل الجهة المستضيفة -المجمع-، وقد تشرفنا بزيارته والاستفادة من أنفاسه هناك مع ابنه الأخ العزيز الشيخ محمد علي، وبعد انتهاء المؤتمر وانقضاء فترته في الفندق وحين الخروج أعطى سماحة الشيخ مبلغاً لولده يعطيه قسم الاستقبال في الفندق براءة للذمة، وعندما أوصل الشيخ محمد علي المبلغ للموظفين هناك تعجّبوا وقالوا: لا، دُفعت قيمة الغرفة من قِبل الجهة المستضافة، فقال لهم: لا هذا من باب الاحتياط، فسماحته يقول: يحتمل أني استعملت الماء أو الكهرباء أو غيرها من شؤون الفندق أكثر من المخصص لي.

وأمثلة هذا كثيرة جداً نقلها لنا عددٌ من المؤمنين في حوادث مشابهة . – الحرص في العدل بين الزوجات، الدقة في توزيع العسل: أحد الإخوة يخبرني: بأنَّه أهدى سماحة الشيخ عسلاً، بعد حين قال له: لا تهديني عسلاً مرة ثانية، قال له: كيف؟!، فأجاب: كيف أفصل العسل وأوزعه بين أهلي(69)؟!، كيف أفصله .. هذا فصله دقيق!، ولا بد من فصله بالدقة، كيف أزنه، كيف أضع له مقداراً، العسل مادة لزجة لاصقة في كل شيء، فيقول: أتعبني هذا في المرة الأولى، في المرة الثانية لا تحضر لي عسلاً، فأنا أتعب في توزيعه.

– حتى لا أكون متجرّياً: في طيات الحديث الشيّق الذي تمتعنا به مع سماحة الشيخ في زيارتنا تلك له في فندق «قصر» مرّ الحديث عن أمرٍ يتعلق بحكم شرعي، وكان الشيخ مسترسلاً في الكلام، وحيث لم يكن متأكّداً من حكمه الشرعي ولكنّه كان قريباً إلى الحرمة قال: لا أستحضر آراء الفقهاء في هذا الموضوع، وحتى لا أكون متجرّياً.

فتجنّب النطق بغير علم قطعي لأجل الاحتياط الشديد.

 – لا يتكلّم في المسجد في أمورٍ دنيوية: في مواقف متعددة إذا كان الأمر دنيوياً لا يقبل الحديث عنه في المسجد، وإنما يخرج خارجه، وفي أيام الإعداد لعقد قران ابنه الشيخ محمد علي جاء إليه والد البنت المسمّاة يتحدّث إليه في الجامع، فتوقّف سماحة الشيخ برهةً وقال مستدركاً: إن هذا له ارتباط شرعي، إشارة إلى أن الزواج وشؤونه الأساسية من الدين.

 – الأخذ قدر الحاجة: سماحة الشيخ دقيق جداً في التعاملات المالية وغيرها، فهو لا يأخذ من شيء إلا قدر حاجته، ولا يجعل أهل بيته يشترون شيئاً إلا وهم في حاجة إليه، وبعبارة مختصرة: لا يفعل شيئاً ترفياً ولو بمقدار 1% ولهذا مواقف كثيرة وشواهد منها: وهذا يعدّ درساً عامّاً لمن كان موجوداً، وهو دليل على الدقّة والسجية غير المتكلفة، كان لسماحة الشيخ لقاء في مأتم الإمام علي (عليه السلام) المعروف بـ«سنككي» بالعاصمة المنامة وبعد نزوله من السيارة كان الجو رطباً جداً فتلبّدت عدستا نظارته منه فأصبحتا ضبابيتين فعند دخوله قام المسؤول بأخذ ورقتين من محارم الورقية «منديلين» وأعطاهم سماحة الشيخ ليمسح نظارته، فأرجع سماحته إحدى الورقتين إلى علبتها ومسح بالثانية.

 فأي مقدار كان لهذا الموقف من تأثير، حتى رسخ في الأذهان وكلما أردتُ شخصياً أن آخذ ورقة منديل تذكرت الموقف وأخذت قدر حاجتي.

ومنها: عندما افتتح مكتب البيان للمراجعات الدينية بعد عودته المباركة إلى البحرين في مارس 2001م وعيّن رئيساً، قام الطاقم بشراء جلسة (كراسي: كنفات)، ولم يكن في تلك الفترة متعارف ذلك، فأمر بإرجاعها فأرجعت.

ومنها: إلحاح بعضهم أن يبدل سيارته، ويشتري سيارة أخرى، وقد زادت عللها حتى توقّفت عاطلة في بعض المناطق البعيدة كجامع مدينة عيسى في إحدى ليالي السبت، لكنه يقول إنها جيّدة نسبياً ولسنا بحاجة إلى غيرها، فهي تؤدّي الغرض.

– صرف البنزين والطريق الأطول: نقل لي الشيخ محمد علي ابن سماحة الشيخ: أني تشرفت فترة من الزمن بتكفّل إيصال والدي من وإلى الجامع وغيره، وحيث يوجد أكثر من طريق للجامع كان يأمرني بسلوك أقصر الطرق، وأكثر من ذلك وأشدّ: أني في يومٍ من الأيام أردت أن أغيّر اتّجاه السيارة فكان أمامي خياران: إما أن أرجع إلى الخلف أو أدور بشكل دائري وهذا أطول فقال لي: لا تفعل هكذا يا ولدي، الخيار الأول أفضل لأنّ الثاني أطول وبالتالي سيستهلك (بنزيناً) أكثر، وهذا البنزين من أموال صاحب الزمان (عجَّل الله تعالى فرجه الشريف)، وأضاف أيضاً: حتى لو لم يكن من أموال الإمام (عليه السلام)، فهذا صرف أكثر من الحاجة، الذي يعدّ إسرافاً.

– لن أجامل حتى لا أقع في الكذب: في يومٍ من الأيام تشرفتُ بإيصال سماحة الشيخ بعد صلاة الظهر من الجامع إلى شقّته، بعد نزوله قال: “لن أقول لك تفضل! لأنّ الشقة ليس فيها مجلس للضيوف، وأنا مدعو اليوم، فلا أكون كاذباً بقولي: تفضل، وأنا أعلم أنّك لو قبلت لما ضيّفتك”، فكم ننسى بعض الأحكام في حينها وكم نجامل كذباً في حياتنا اليومية؟ فالفقهاء يفتون بحرمة الكذب، والدعوة اللسانية مع علمي بعدم مطابقتها للواقع تعدّ كذباً! – غبار التيمم: نقل لي مجتبى ابن سماحة الشيخ يقول: في مرض والدي الأخير (الجلطة المتوسّطة) بعد أن أفاق واستقرت صحّته صلّى أياماً من جلوس، وحيث كانت الأجهزة كالمغذي وغيره في يده كان يجمع بين الطهارة المائية والترابية -الوضوء والتيمم- ولكن الملفت جدّاً أنّه بعد إفاقته قال لي: “يا ولدي إذا ذهبت إلى البيت فأتني بغبار منه، فكنت آتيه به حتى يتيمم”.

 ومما زادني دهشة: كثرة صلواته بعد عودته إلى البيت بعد انتهاء العلاج، بل ووجدتُ على طاولته في غرفته ورقةً كتب فيها: صليت مقدار هذه الأيام وبقي عليَّ هذا المقدار، فعرفت أنّه يعيد الصلوات التي صلاَّها فترة مرضه.

– احترام الآيات وأسماء المعصومين (عليه السلام): من المسائل الفقهية التي يذكرها الفقهاء حرمة تنجيس أو هتك القرآن الكريم وأسماء المعصومين (عليهم السلام)، ومما يبيّن دقة سماحة الشيخ في ذلك ما ينقله مَن درس على يديه المباركتين أيام جمعية التوعية سابقاً حيث كان بعد كتابته للآيات على اللوح (السبورة) بـ(الطبشور) لا يمسحه بالممحاة كأي كلام آخر، بل كان يمسحه بمحارم ورقية يجمع فيها رذاذ الطبشور الذي كتبت به، ويحمله معه .. ومما عاينه عن قرب هو احترام لأسماء أهل البيت (عليه السلام)، فقد شارك في بدايات العام الدراسي في قم المقدسة عام 1426-1427هـ في مؤتمر أقامه (المجمع العالمي لأهل البيت (عليه السلام)) وبعد انتهائه أعطى سماحته لولده الأخ العزيز الشيخ محمد علي مجموعة قصاصات صغيرة كتب فيها لفظ الجلال (الله)، واسم النبي (صلَّى الله عليه وآله) وأسماء أهل البيت (عليهم السلام) وكذلك كلمة (أهل البيت عليهم السلام)، وقد أخذتها من ولده ولا زلت أحتفظ بها! – أرش الخدش: نقل لنا أحد مشايخ قم المقدسة أنه في فترة وجود سماحة الشيخ في قم المقدسة قام بدعوته مع بقية الطلبة والفضلاء إلى منزله، وعندما انتهوا من الطعام وتغسيل أيديهم، جاء سماحته إلى هذا الشيخ -صاحب الدعوة- طالباً منه براءة الذمة، ما السبب؟: السبب هو تعلّق عباءة الشيخ بأخشاب أطراف باب الحمام المتآكلة مما أدى إلى تساقط بعض الشظايا الصغيرة من الباب! – تصرّف في مال الغير بغير إذنه من دون مقصود: ينقل أحد طلبة العلوم الدينية أن سماحة الشيخ إذا أراد أن يخرج من الحسينية البحرانية في قم المقدسة وأراد لبس نعليه وارتطمت رجله خطأً بفردة نعل أحد الحاضرين يبقى الشيخ واقفاً منتظراً أمام باب الخروج إلى أن يخرج صاحب فردة النعل لكي يسأله براءة الذمة.

وللتقوى شروط وآثار، ولنقف معها متجلية في سماحة الشيخ .

 الإخلاص الإخلاص في العمل: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} هذه الآية الكريمة تبيّن ركنين أساسيين بهما يكون نجاح العمل والاهتداء إلى سبل الحق (سبحانه وتعالى) وهما: {جَاهَدُوا فِينَا} أي: أولاً أن يعمل الإنسان ويجاهد ويكدح، وثانياً: أن يكون هذا الكدح وهذا العمل وهذا الجهاد في الله ولله وبالله وإلى الله وهذا معنى خلوص النية، فرمز النجاح والموفقية هو الإخلاص لله (سبحانه وتعالى)، ولا ينقضي عجبنا من النجاحات الباهرة التي يحققها هذا «العبد الصالح» في الساحة البحرينية ومنذ خمسين عامًا فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «وفي إخلاص النيّات نجاح الأمور»، «من أخلص بلغ الآمال» فكل مشروع-ولله الحمد والمنّة- أسسه سماحته نرى النماء حليفه والهداية فيه لا لشيء إلا لأنّ شرائط نجاح العمل وقبوله من الإخلاص (ما كان لله ينمو) والتقوى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} والتخطيط والتنفيذ والتي بمجموعها تحقق {جَاهَدُوا فِينَا} قد توفرت .

فما نماء الحركة الإسلامية التي تتفيّأ ظلاله وتوسّعها إلا شهادة صريحة على ما أُسست عليه من تقوى وإخلاص وكذلك ما تسير فيه .

وما حبّ المؤمنين والوهج العاطفي لأبناء الشعب كباراً وصغاراً شيباً وشبّاناً والتفافهم التلقائي حوله وإعلانهم الولاء له في يوم الجمعة من كل أسبوع وكذلك في المنعطفات والمواقف إلا شهادة أخرى أصرح على إخلاص هذا الإنسان الورع لله سبحانه .

 وهو دائماً وأبداً لا يرى إلا الله سبحانه في كل كلمة وكل موقف فتراه لا يعبأ برضا الناس كل الناس إذا خالف رضا الله ويشدد على هذا المعنى دائماً سيما إذا اختلف رأي الكثير عن رأيه فإنّه يقدّم ما يرى فيه رضا الله ولا يلتفت إلى ما يراه الكثير من الناس .

وهو الذي يقول بعد استقبالٍ شعبي جماهيري ضخم استُقبل به ليلة عودته إلى البحرين، استقبال قلّ نظيره حيث لم تشهد البحرين مثله قطّ، بعد هذا الاستقبال الفريد يقول للجماهير: “أتدرون أخوتي الكرام أن ليس التفاف عشرات الألوف أو مئات الألوف بل التفاف الملايين والبلاين من البشر لا يمثل شيئاً في النفس للإنسان المؤمن حيث العزة التي تسكن النفس ..

أقول لَنَفْس آمنت بالله رأت ربها انبهرت بجماله وجلاله وبقوته ودعمه نفس من هذا الطراز لا تغذّيها كثرة التصفيق ولا انتقاد ولا الأموال اللازمة للحياة، كان أولياء الله في الأرض ولا زالوا يستوحشون من المظاهر الدنيوية التي يفرح بها الآخرون أولئك يستوحشون منها يخافون منها يتركونها والله ليتركونها إذا كانت لا يأمنون على أنفسهم من أن تلامس مشاعرهم بشيء”.

 ولا يقتصر الإخلاص على جانب دون آخر ولا على فعلٍ دون آخر فصحيح أن العبادات هي المشروطة بالنية والإخلاص لله والإتيان بها بقصد قربي .

 إلا أن صعود الكلم الطيب ورِفعة كل عمل صالح متوقفة على نيته فإن كانت مخلصة لله فبها ونعمت وإلا فلا .

ومن خلال العشرة مع سماحة الشيخ تراه دقيقاً في هذه المسألة غاية الدقة وفي جميع جوانبه، وما أكثر الخير الذي فعله ويفعله ومع هذا كله لا أحد يعرف عنه ذلك حتى أقرب المقربين منه، ولم يسمع عنه في يوم من الأيام أنه قال إني فعلت كذا أو قمت بالعمل الفلاني أو ما شاكل ذلك .

 وهذا مما أتعبنا في هذا المكتوب كثيراً فإننا نبحث عن المعلومة الصغيرة فضلاً عن غيرها حتى من أقرب المقربين ولا نجدها لأننا نجاب دائماً: أنه لا يقول لأحدٍ شؤونه وأحواله سيما ما يرتبط بجانب فعل الخيرات أو علاقته الخاصة بالله .

وإذا كانت هناك أمارات للإخلاص يذكرها علماء الأخلاق فإنّك تجدها متجلية بوضوح في هذا الأخلاقي الكبير ..

 الإخلاص في القول: وفي رشحة بسيطة قالها لأحدهم تُبيّن دقة ملاحظته من أجل إخلاص أي حركة وفعل وكلمة، يقول: “إن إلقاء المحاضرة بالنسبة إليّ أمرٌ سهل ولكن إخلاصها لوجه الله هو الأمر الصعب” وهي كلمة في غاية الدقة والروعة فما أكثر مَن يُلقون المحاضرات والكلمات والمجالس الحسينية ولكن هل يخطر في بال أحدهم أن يسعى في جعل كل كلمة من كلمات المحاضرة خالصة مخلصة لله (سبحانه وتعالى).

 وما الأثر الذي تؤثّره خطب سماحة الشيخ ومحاضراته إلا كاشف لما تتمتع به من إخلاص لله(سبحتن) وأن (ما يخرج من القلب يقع في القلب) وهو مصداق بارز لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}(70).

 ومن ناحية أخرى فإنَّ سعيه لإخلاص الكلمة والعبادة والموقف نتيجته الحتمية كما في الرواية عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) «مَن أخلص لله أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» هي جريان الحكمة من القلب على اللسان وتحلّي القلب بالبصيرة فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «وعند تحقق الإخلاص تستنير البصائر» وهذا ما يتجلى في سماحته بشكل واضح (سدده الله وزاد في تأييده)، فلنتوقف هنيئة مع هاتين الروايتين، فالإخلاص يعني: تخليص الشيء من الشوائب والقاذورات، وذلك الشيء يشمل العمل أو النية أو الفكر أو الرأي أو العقيدة أو الخُلق، وأما الحِكمة فهي: المعرفة الدقيقة وفي الرواية عن حماد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن لقمان وحكمته التي ذكرها الله (عزَّ وجلَّ) فقال: «أما والله ما أوتي لقمان الحكمة بحسَب، ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال ولكنه كان رجلاً قوياً في أمر الله، متورّعاً في الله، ساكتاً سكّيتاً، عميق النَظر، طويل الفكر، حديد النظر ..»، ومن شروطها: طهارة القلب وصفائه، وتزكيته، وتهذيبه .

 وما مِن أحدٍ عُرِفَ سماحة الشيخ عن قُرب إلا ورأى فيه ذلك فطهارة قلبه وصفاؤه ونقاؤه النابع من إيمانه وتقواه هو سمته الدائمة في كل فعل وقول، وهكذا صفات الحكماء من الصمت والفكر ودقة النظر مجتمعة فيه .

إذاً فالحكمة والعلم الإلهيان اللَذان يكونان سبباً لهداية البشر لا يتلقيان من خلال الدرس ولا يحصل عليهما الإنسان بالقراءة أو غيرها -وإن كانت هذه طرق ممهّدة أحياناً- وإنما هي أنوار يقذفها الله في قلب من يشاء حين يوفّر الشروط ويهيئ الأسباب وأهمها الإخلاص والتقوى فقد ورد في الآية الكريمة قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(71) والحديث الشريف عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ليس العلم بكثرة التعلّم وإنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء»(72) ما يدلل على ذلك .

 البصيرة وبُعد النظر قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله»(73) الفراسة بالكسر الاسم من قولك (تفرّست فيه خيرًا)، وهي نوعان: أحدهما – ما يوقعه الله في قلوب أوليائه فيعلمون بعض أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الحدس والظن، وهو ما دل عليه ظاهر الحديث «اتّقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور الله».

وثانيهما – نوع يعلم بالدلائل والتجارب والأخلاق.

و(الفَراسة) بالفتح مصدر قولك رجل بين الفراسة والفروسة والفروسية.

وفرُس بالضم يفرس فروسة وفراسة: حذق في أمر الخيل(74).

 وقال بعضهم: الفِراسة مهارة التعرُّف على بواطن الأمور من ملاحظة ظواهرها(75) ونعني هنا بالبصيرة المعنى الأول للفراسة لكن لا بالسعة التي عرّفها صاحب مجمع البحرين وإنما بمعنى التسديد في القول والفعل وتوفيق الله عبده المؤمن حين يرى منه الصدق والإخلاص والتقوى.

والفراسة هي عبارة أخرى عن البصيرة، وقوله في الرواية: «المؤمن» يستبطن -بملاحظة الخارج من كون المؤمنين كُثر- بيان أنّ الإيمان درجات منها ما يكون أثره التكويني البصيرة -كما أنّ هناك آثارًا تكوينية لبعض درجات الإيمان كالشفاء من سؤره، فقد ورد: «سؤر المؤمن شفاء»: فهذا أثر تكويني للمؤمن- فالبصيرة أثر تكويني لدرجة متقدمة من الإيمان، ويمكن تخمين أهمّ عناصر هذه الدرجة العالية من الإيمان: صفاء القلب وطهارته، ورجاحة اللب ونباهته، والعبودية الصادقة لله، والتوفّر على العلم الحقيقي المستقاة من كتاب الله (عزَّ وجلَّ) وسنة نبيِّه (صلَّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) فهذه أسباب لنزول الفيوضات الرحيمية على الإنسان المؤمن .

 وقد ورد في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي المؤمن يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ..»(76) فليس بدعاً من القول أن يكون الإنسان مسددًا في فعله وقوله من الله سبحانه بل ورد أكثر من ذلك حتى يصل إلى درجة تكون له ولاية تكوينية فقد جاء في الحديث القدسي الآخر: «عبدي أطعني تكن مثلي، أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون».

الزهد في الدنيا ورد في الأثر عن الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: «إنّ الفقيه: الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المتمسّك بسنّة النبي (صلَّى الله عليه وآله)»(77)، وكذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «لا يكون الرجل فقيهًا حتى لا يبالي أي ثوبيه ابتذل وبما سد فورة الجوع»(78)، وعنه أيضًا (عليه السلام): «ليس الزهد أن لا تملك شيء وإنما الزهد أن لا يملكك شيء»(79).

لو تأمّلنا في هذه الروايات الشريفة وطبّقناها على سيرة سماحة الشيخ بأمانة ودقّة لما شككنا أنّه مصداق بارز لمضمونها الراقي، ولأنّ الزهد معناه: قطع العلقة القلبية بكل ما هو دنيوي إلا في حدود ما يكون طريقاً وموصلاً إلى الآخرة وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {ولا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «لا تنس صحّتك وقوّتك وفراغك وشبابك ونشاطك أن تطلب به الآخرة»(80) فهذه الأمور من صحّة وقوّة وفراغ وشباب ونشاط كله من شؤون الدنيا ولكن على الإنسان أن يوظّفها من أجل بناء الآخرة .. ولو لاحظنا سماحة الشيخ قولاً وفعلاً لوجدناه كم يحقّر الدنيا وكيف يراها لا شيء وأنها حطام لا قيمة له، وكيف يرى أن ليس عاقلاً مَن أمّل منها خيراً أو رجا فيها خيراً، فماذا ترى في إنسان يصله من الحقوق ما لا يصل إلى غيره ويكون بين يديه ما بإمكانه أن يسكن أفخم الدور ويركب أرفه المراكب، ولكنه لا يعبأ بشيء منها ويعلم أنّه مجرد أمين عليها، وينقل بعضهم أنه علم في وقت من الأوقات أنه لا يملك شيئاً .. يضاف إلى أنّه يرى أن الدنيا والآخرة ضرّتان لا يمكن الجمع بينهما متمثّلاَ قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ الدنيا والآخرة عدوّان متفاوتان وسبيلان مختلفان فمن أحبّ الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب والماشي بينهما كلّما قرُب من واحد بعُد من الآخر، وهما بعد ضرّتان»(81).

 ومن مظاهر زهده في هذه الدنيّه: ماله، ملبسه، مأكله، مسكنه ..

أمّا من ناحية مالية فليس له دخل غير حق الإمام (عليه السلام) فلا يقبل الهدايا، ولا يدّخر من إرثٍ ولا تجارة ولا غيرها وإنك لا تجد له نظراً تأمينياً للمستقبل المادي، فليس له حساب في بنك من البنوك وهو الأمر الذي يعدّ اليوم من ضروريات كل فرد من أفراد العائلة صغيرهم وكبيرهم، ومَن عرفه جيّداً يرى أن ليس له سعي وراء جمع مال من حطام الدنيا من هنا أو هناك بل المال يأتيه وهو يبعده عن نفسه ..

أمّا لباسه فلست تراه يلبس أفخرها ولا أردءها كذلك بل بين وبين وتجد العباءة “البشت” عليه طوال السنة مع مراعاة نظافتها ونصاعة مجمل ثيابه، أو واحدة للصيف وأخرى للشتاء، ولو لاحظت أكثر فإنّك لا تجد في تعدد ثيابه أكثر من لباسين أو ثلاثة من الثوب والصاية (القباء) .

وما شأن مسكنه بغير ما ينبيك عنه وضعه بشكل عام فبيته لا يمكن لأحدٍ أن يميّزه عن غيره فهو ذلك البيت الذي لطالما رأينا البنائيين يرممون جدرانه ويسدون شقوقها . وإذا دخلت لم تجد في مثل مجلسه إلا مساند على مداره وتجلس إذا أردت أن تجلس على الأرض.

 وقد أجلس سماحته هذا المجلس مَن لم يجلس مثله من قبل! تصديق فعلُه قولَه ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} قال (عليه السلام): «يعني بالعلماء مَن صدق فعلُه قولَه ومَن لم يصدق فعلُهُ قولَه فليس بعالم»(82).

هذا الميدان من السبعينات يشهد أنّه لم يقل ما لا يفعل، وإذا وقف الموقف لا يتراجع عنه قيد أنملة، فلا المجلس التأسيسي هزّ كيانه في الدفاع عن الدين والوطن وكان القرار يحلّ ولا تراجع، ولا الاستجوابات المتكررة في الثمانينات ولا بعد عودته في التسعينات في جميع المحطات؛ لا الموقف من كل ما يمسّ الدين والمذهب، ولا الموقف من السياسة القائمة في البحرين لا من مواجهة التجنيس السياسي ولا البطالة ولا التمييز الطائفي ولا غيرها .

وإذا قال فعل، فأي موقف اتّخذه ضد أي ملف من الملفات لم نرَ أنّه تراجع عنه، ولا يمكن ذلك -لما جرّبناه- لا تحت وطأة الترهيب ولا تحت طائلة الترغيب .

التذكير بالله عن الإمام الصادق (عليه السلام) -لمّا سئل عن قول النبي (صلَّى الله عليه وآله): النظر في وجوه العلماء عبادة- قال (عليه السلام): «هو العالم الذي إذا نظرت إليه ذكّرك الآخرة، ومَن كان خلاف ذلك فالنظر إليه فتنة»(83).

حسن الخلق قال تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ ..} هذه الآية الكريمة تبيّن قاعدة فطرية مسلّمة عند العقلاء أنَّ (النفوس تميل إلى حسن الخلق وتنفر من سيء الخلق) وهي مفاد الرواية الشريفة عنهم (عليهم السلام): «جُبل الناس على حبّ مَن أحسن إليهم» وبالمفهوم فإنّ الناس ينفرون بل يبغضون مَن أساء إليهم، وفي الحديث المشهور عن النبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فالفطرة مع الإسلام يتّجهان نحو حسن الأخلاق ووجوب التحلّي بها، بل الإسلام هو الفطرة التي فطر اللهُ الناسَ عليها، ومن هنا إذا وقفنا على أيّ إنسان يدّعي الإسلام فلا بدّ من أن نقف معه على الأخلاق الفاضلة والصفات الحسنة التي جُبلت الأنفس وفُطرت القلوب عليها، هذا في الإنسان المسلم العادي فما بالنا بعالم من علماء الإسلام، بمن هو في مقدّمة المسلمين وقيادتهم فهو من باب أولى يكون كذلك، لأنّه كذلك من ورثة الأنبياء وقد مرّ قوله (صلَّى الله عليه وآله): «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

وإننا لنشهد بحق لسماحة الشيخ أبي سامي (حفظه الله) أنّه ممن سار على نهج الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) فدعا إلى الله بأخلاقه وعمله قبل أن يدعو بلسانه وقلمه، وإنَّ الآية الكريمة لتثبت حقيقة بمفهومها يمكن جعلها معياراً وعلامةً على حسن أخلاق الإنسان من عدمه، والحقيقة هي أنّه (مَن كان فظّاً خشن الأخلاق فردة الفعل التلقائية هي نفور القلوب عنه) وبالمفهوم (مَن كان ليِّنًا حسن الأخلاق فحبّ القلوب له نتيجة حتمية)، وما حبّ المؤمنين وودّهم وانجذابهم إليه إلا دليل على حسن أخلاقه ورقيّها .

 1- مع العائلة: أخلاق سماحة الشيخ التي قلّ نظيرها والتي منها مقابلة الإساءة بالإحسان وحبّ الصغير والضعيف وغيرها من الصفات التي لا تجدها في كثير من الآباء والأزواج تجدها في سماحة الشيخ، فهو في المسجد والمأتم عالم جليل القدر، وهو في البيت كذلك لكنه بالإضافة إلى ذلك أبٌ وزوجٌ فسماحة الشيخ في الخارج يختلف عنه في الداخل من هذه الجهة، ويترتّب على هذا الاختلاف أن يكون فيه ما لست تراه في الخارج، فهو في الداخل المرح الذي يلاعب أولاده وأحفاده ويغدق عليهم الحب والحنان والتربية وتراه إذا دخل المنزل تعلّق الأحفاد بأذياله منادين: “بابا عيسى بابا عيسى” . وهو مع زوجاته كذلك .

 2- مع الأصحاب والأصدقاء: لا يمكن أن يكون التقييم لكل أبناء المجتمع تقييماً واحداً، بمعنى أنّه لا يمكن أن يكون حسن أخلاق أصغر إنسان وعدالته مثلاً تقيّم بمعيار واحد بحسن أخلاق عالم وعدالته، فلكل إنسان تقييم بحسب موقعه ومستواه، فالطفل الصغير تغفر له بعض هفواته إلا أنّ العالم قد لا تغفر، فمن يكون في مثل هذا الموقع الحساس الذي قد يصاب بجَهَلَةِ قومه حتى يطعن من أقرب الناس بكلمات جارحة لا تليق كما قوبل بذلك الأئمة (عليهم السلام)، فلا بد من أن يكون أشد حرصاً على أخلاقه وسعة صدره و ..، وهذا ما عليه سماحة الشيخ فقد قوبل بمثل ما قوبل به أئمته (عليهم السلام) كلّ ذلك في طريق حفظ الإسلام والمسلمين وحينئذٍ ليس ببعيد أن يصاب هو بذلك، ومَن هو في قبالهم (عليهم السلام)، ولكنه أثبت أنه تلميذ لهم بحقّ فلا يقابل السيئة بالسيئة وإنما يقابلها بالحسنة وبالعفو عند المقدرة على الرد الشديد فضلاً عن الرد لفظياً فقط . وقد تكرر لسماحته مثل ذلك الموقف . وإذا كانت أخلاقه مع المحبين والأصحاب والأصدقاء الذين يقابلونه بأسوء الخلق فماذا عسانا أن نقول عن أخلاقه مع كافة أبناء الشعب، فمن عرفه عن قرب عرَف شيئاً من صفاته الأخلاقية العالية التي تذكر بالله سبحانه وبأهل البيت (عليهم السلام) . التواضع وإنكار الذات كثيرة مواقف تواضعه وإنكاره لذاته، وكل مَن عاش مع سماحته أو زامله أو صاحبه أو جلس معه يلمس ذلك بوضوح، والأكثر وضوحاً هو عدم تكلّفه ذلك أصلاً، حيث تراه يفعل الفعل أو ينطق بالقول الذي فيه إنكار لذاته بسجية وطيب لا تصنّع فيه ولا تكلّف، فلم يذكر في يومٍ من الأيام اسمه بلقب «شيخ» فضلاً عن غيره، ولم يذكر لنفسه فضيلة أو حادثة يمكن أن يفهم منها ولو بالقرائن البعيدة مدحة له أو منقبة.

 – هذا المكتوب مثال واضح: عندما أردت أن أكتب حاولت أن أحصل على معلومات مباشرة من سماحته من خلال أقرب المقربين منه -كأفراد عائلته والعلماء والمشايخ المحيطين به- لأنّ كثيراً من المعلومات لا يعلم بها إلا صاحبها، ولكنني لم أحصل إلا على النزر اليسير جداً؛ لأنّه لا يتكلّم إلى أحدٍ عن نفسه أصلاً، ولا يصرّح لأحدٍ عن خصوصياته، ولا عن شيء يتعلّق به لا من قريبٍ ولا من بعيد، ولكنّ الله (سبحانه وتعالى) يرفع عبده لعلمه بباطنه وسريرته، ولذلك يجعل الأفئدة تهوي إليه، ويقذف حبّه في قلوب المؤمنين، وهكذا فإنّ الله سبحانه هو الذي يُظهر مع كل هذا التكتّم والعصامية النادرة للشيخ فضائله ومحاسنه ومكانته عنده وعند الناس، فالمعلومات التي حصلت عليها لم تكن كلّها بطرق عادية وإنما أحسسنا بأنّ يد الغيب واللطف الإلهي كانت تهيّئ لنا بعض السُبُل للوصول إلى مصادر بعض المعلومات التي لم نكن نتوقعها ولم يكن أحد يعلم بها من المقربين جدًّا فضلاً عن غيرهم.

 ومما يبيّن عظمة هذا الإنسان هو ما يردِّده إذا سأله بعض أبنائه خصوصاً الشيخ محمد علي عن بعض خصوصياته أو شيء من حياته أثناء دراسته في النجف أو علاقته حينذاك بالمراجع وحبهم له وو .، كان يقول دائمًا: “هذا لا ينفعك يا ولدي، عيسى لا يمثّل شيئاً، اسأل عن شيء تستفيد منه، هذا لا يفيدك”.

 – لقب: آية الله: مما نعتقد به على أنّ سماحة الشيخ أهل للقب: «آية الله»؛ حيث قطعنا باجتهاده، ولكنه رغم ذاك لا يقبل به تواضعاً.

نقول: «تواضعاً» من واقع معرفة به؛ فإنّه لا يرضى بالمدح والإطراء القليل منه والكثير، ولا يقبل بأن يلقّب بأي لقب حتى «شيخ» فضلاً عن غيره، فلم يقبل أن يكتب على مكتبه -مكتب البيان- اسمه بإضافة «شيخ» بل مكتوب عليه –ولا زالت اللوحة موضوعة- «عيسى أحمد قاسم»، فكيف بلقب «آيةلله»؟! والحوادث التي أنكر فيها ذكر هذا اللقب له كثيرة جداً في المحافل الكبيرة فضلاً عن الصغيرة: ففي الحفل التأبيني المركزي للشهيد السيد الحكيم الذي حضره كبار علماء البحرين وكثيرٌ من مشايخها وأبناء الحكيم (سماحة السيد حسين، وسماحة السيد صالح)، وكان عريف الحفل أحد المشايخ من طلبة العلوم «معمم» وقال: أما الآن فمع كلمة لسماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم، فقام وقال قبل إلقاء الكلمة: أخوكم عيسى أحمد قاسم يتحدّث إليكم ببعض كلمات.

 وهكذا في الخطاب السنوي ليلة عاشوراء في العاصمة المنامة حين قال المقدّم ذلك رفض القيام لإلقاء الكلمة حتى عادها من دون اللقب فقام وألقى خطابه.

والموارد كثيرة، حتى قال -في ليلة في احتفال بمأتم أنصار العدالة بالدراز بعد تقديم العريف له بذكر «آية الله»- ما مضمونه: لا ينبغي توزيع الألقاب والأوصاف من دون علم، فقد لا يستحقّ المقول فيه ما قيل فيه.

– لا يقبل المدح والإطراء: في ليلة 22 من شهر رمضان 1423 في إحياء شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) في قرية أبو قوة كانت لسماحة الشيخ كلمة بتلك المناسبة بعنوان «الشهادة»، وكان المقدّم أحد طلبة العلوم الدينية «معمماً» وهو من الخطباء وبعد قراءة القرآن بصوت قارئ معروف وقد بكى سماحة الشيخ حينها كعادته عند قراءة القرآن(84)، قام المقدّم ليدعو الشيخ لإلقاء الكلمة، وما إن بدأ بذكر صفات المدح والإطراء للعالم الذي سيشارك بالكلمة ومما قاله: معنا هذه الليلة عَلَمٌ من الأعلام وأستاذٌ من الأساتذة -وكان متعيّناً في سماحة الشيخ- قام الشيخ مسرعاً وأراد البدء في الكلمة حتى لا يكمل كلمات التبجيل والمدح.

 – المدح في محضر الممدوح يبكيه ولا يضحكه: في حفل من الاحتفالات التي كان لسماحة الشيخ كلمة فيها، كان من فقرات الحفل شعرٌ لأحد الشعراء المعروفين، وعند إلقائه لشعره – وقد ضمّنه مدحاً لسماحة الشيخ- أخذ الشيخ بالبكاء وهو واضع يده على جبهته ويهزّ رأسه كالمتحسّر النادم وقد احمرّ وجهه.

وفي يوم عودته من مشهد المشرّفة في يوم الأحد 13- 9- 2010م وبعد صلاة الظهرين حيث الجموع الغفيرة في جامع الإمام الصادق (عليه السلام) بالدراز قرأ أحد السادة الدعاء (التعقيب) وذيّلها بأبيات شعرية يمدح فيها سماحة الشيخ وما إن ذكر اسمه فيها بادر بالقيام والسير الحثيث إلى خارج الجامع.

 وكانت الأبيات هي:

 لك الحمد والشكر يا مستجار                         فأنت الكبير ونحن الصغار 

 دعوناك طرّاً يا مجيب الدعاء                         فأعطيتنا واقتطفنا الثمار  

أعدت لنا شيخنا سالماً                          قويّاً معافىً واستقرّ القرار 

 لعيسى بن أحمد شيخ التقى                          ورود المحبة منّا نثار  

ففرحتنا ما لها من نظير                         به نرفع الدين حقّاً شعار  

فألف الصلاة وألف السلام                         على المصطفين ومَن هم منار  

وقد حدث موقف مشابه لهذا -يعني الخروج عند مدحه- في احتفال مولد النبي (صلَّى الله عليه وآله) عام 1430هـ في الجامع عندما ألقى أحد الشعراء المعروفين قصيدة وذكر فيها أوصافاً ثم ذكر اسم سماحة الشيخ وحيث لم تكن له كلمة قام سماحته وخرج.

– لا تذكروا اسمي في العزاء: العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام) يمثل رسالة وموقفاً حيث يمثّل صوت الحق ومنبر الحقيقة، وجزء من القضية هي شؤون الأمّة الفكرية والعقائدية والسياسية وغيرها، والارتباط بالإسلام قناته وبوابته العلماء والفقهاء ومراجع الأمّة، فقد يلزم من الظرف الإشارة إلى مَن يمثّل خندق الحق ومعسكر الحسين (عليه السلام) ومَن يمثّل معكسر يزيد والباطل، وممن يمثّل الحق ومنهج الأئمة (عليهم السلام) هو سماحة الشيخ، فلذلك يذكره رواديدنا في البحرين في بعض لطمياتهم.

 ينقل الرادود الشيخ حسين الأكرف مواقف كثيرة في هذا المضمار مع سماحة الشيخ منها: أنّ سماحة الشيخ سمع أنّي أذكره في بعض اللطميات تصريحاً أو تلميحاً، بالذات أو الصفات، فرآني في يومٍ من الأيام فقال لي: لا تذكر عني شيئاً في مواكب العزاء، فقلت: في هذا لا أطيعك، فقال: أنا أقول لك لا تذكرني، فقلت: لأنّك تقول: لا تذكرني فإنّنا سنذكرك، ولكن لو قلت: اذكروني فلن نذكرك.

 وفي حادثة أخرى قال له سماحة الشيخ: “لا يغرّنك المظهر، فيمكن أن أكون خلاف ما تتصورون، يمكن عيسى يخدعكم!” محاولة منه لإثناء الشيخ الأكرف وغيره من ذكره في المواكب والمحافل.

– موقع اسمه في العرائض: التواضع بل كل صفة أخلاقية لا تكون حقيقية إلا إذا كانت ملكة راسخة، والملكة حالة نفسية ثابتة تزول ببطء . هكذا يجسّد سماحة الشيخ الصفات الأخلاقية، فلا تراه في حين متواضعاً وفي آخر غير ذلك، أو كما عليه البعض في الظاهر وأمام الناس متواضع لكن في الامتحان وفي الدوائر الخاصة غير ذلك! ينقل لنا بعض المشايخ -هنا- في قم: عندما كنّا نكتب العرائض الاحتجاجية والمعارضة لسياسات النظام في البحرين سواء ما كان منها سياسياً بحتاً أو ما يتعلّق منها بمسائل الدين كنّا نذهب بها لكبار العلماء البحرانيين أولاً ثم لبقية المشايخ والطلبة، أوّل مَن نبدأ به عادة سماحة الشيخ ولكن ما يلفتنا أنّه لا يكتب اسمه في أول الجدول وإنما يختار الخانة الأخيرة أو ما قاربها، ويتعمّد أن يكتب اسمه في بداية السطر حافاً من دون أي لقب حتى (شيخ) وحتى لا يكون هناك فراغ يمكن لأحد أن يكتب أمام اسمه (شيخ)، وكان بعض الطلبة مما يعملون على العرائض يصرّ على سماحته أن يكتب اسمه أول الاسماء وبلقب ولو (شيخ)، ولكنه لا يقبل ويكتبه متأخّراً وبلا ألقاب، وهذا واضح لمن تتبّع كل العرائض السياسية والدينية كـ(عريضة السفارة في الثمانينات وعريضة الأحوال الشخصية في 2006م).

 الطهارة والصفاء: من الصفات الواضحة لمن يقترب -ولو قليلاً- من سماحة الشيخ هو حالة النقاء الباطني التي يعيشها مع كل أحد دون استثناء وهنا ننقل بعض المواقف: – لكي لا أحرق البلد: قال أحد طلبة العلم في قم المقدسة ذهبت يوماً لسماحة الشيخ معاتباً: إننا طلبة قم نعتب عليك يا شيخ؛ لأنّك لا تدافع عن نفسك، فأجابه سماحة الشيخ بسؤال استنكاري: “أتريدني أن أحرق البلد؟”، وأضاف: “إذا دافعت عن نفسي فستُجرح كرامة أخي المؤمن”.

وكأن لسان حال سماحته -وهو المضحي بكل شيء من أجل الإسلام- دعني أحترق ولا يحترق البلد، ولعمري فإن الشيخ كالشمعة التي تحترق لتضيء درب الآخرين فنجده دائماً وأبداً يغض الطرف مجروحاً عن كل ما يقال في حقه وما ذلك إلا لتقواه وورعه في ظلال حكمةٍ وسعة صدرٍ وبُعد نظر قل لها نظير.

– إنّ الله يجتبي لدينه مَن يشاء: سأل أحد العلماء في قم المقدسة سماحة الشيخ: إذا اختار الله أمانته (يعني توفيت) مَن الذي ترونه مناسباً لقيادة الأمة من بعدك؟ فقال سماحته: “إنّ الله يجتبي لدينه مَن يشاء”.

 – لا أحب أن أحمل على أخي المؤمن: في فترة إقامته في قم المقدسة في التسعينات أصدر أحد الطلبة بياناً يتعرض فيه لسماحة الشيخ، فأخذه أحد الطلبة وجاء به إلى سماحة الشيخ وقال له: هذا بيان أصدره أحد الطلبة ضدّكم شيخنا، اطلعوا عليه وسأراجعكم بعد نصف ساعة.

 جاء هذا الطالب بعد نصف ساعة فقال للشيخ: ما هو تعليقكم على مضمون البيان؟ فقال سماحته: “لم أقرأه! حتى لا أحمل في قلبي شيئاً على أخي المؤمن”.

 – فلان رجل عالم ورع تقي: في الفترة الماضية اختلف بعض العلماء المحترمين مع سماحة الشيخ في وجهات نظر في العمل السياسي، والمعروف عن سماحته أنّه لا يذكر أحداً سيما مَن يخالفه ويناكفه بالسوء، وفي تلك الفترة في إحدى خطب أو لقاءات عالم ممن اختلف مع سماحة الشيخ سياسياً -وكان في يوم من الأيام من المقربين منه- عرّض منتقدًا سماحة الشيخ بشدة في ملأ عام، وعلى إثر ذلك قام أحد الشباب المؤمن بسؤال سماحة الشيخ عن ذلك العالم باسمه وما رأيك فيه، فأجاب سماحة الشيخ مباشرة: سماحة الشيخ فلان رجل عالم في الفقه والأصول ورع تقي.

 فما تمالك هذا الشاب نفسه فبكى أمام سماحة الشيخ .

 لأنّه يرى كلاًّ من الطرفين وكيفية كلامه، وأنّ سماحة الشيخ كان بإمكانه أن يقول كلمة مجملة عامة كمثل (زين) أو (متديّن) أو ما شابه ذلك، لكنّه دلالةً على طهارة قلبه وصفاء باطنه قال كل هذه الصفات.

الهوامش والمصادر

  • (1) خطبة الجمعة (370) 26 جمادي الأولى 1430هـ 22 مايو 2009م.
  • (2) علم العرفان: 12.
  • (3) هذا التمهيد هو عبارة عن عبارات متناثرة في مجموعة كبيرة من خطب سماحة الشيخ تختزل –هذه العبارات- حقيقة وأقسام وأسباب ووسائل العرفان والمعرفة الالهية الحقة.
  • (4) خطبة الجمعة (402) 23 ربيع الثاني9 أبريل 2010م.
  • (5) خطبة الجمعة (161) 13 جمادى الأولى 1425هـ 2 يوليو 2004م.
  • (6) خطبة الجمعة (197) 20 ربيع الأول 1426هـ 29 ابريل 2005م.
  • (7) خطبة الجمعة (50) الأول من المحرم 1423هـ الموافق 15-3-2002م.
  • (8) خطبة الجمعة (312) 7 صفر 1429هـ 15 فبراير 2008م.
  • (9) عيون الحكم والمواعظ: ص24.
  • (10) خطبة الجمعة (312) 7 صفر 1429هـ 15 فبراير 2008م.
  • (11) هذا في الحياة.
  • (12) المؤمنون الحقّ لا تهنأ لهم حياة من دون العبادة.
  • (13) خطبة الجمعة (429) 12 ذو الحجة 1431هـ 19 نوفمبر 2010م.
  • (14) المنجد: 967.
  • (15) مفردات الفاظ الفرآن: 560.
  • (16) مواهب الرحمن.
  • (17) ص157.
  • (18) لاحظ: العرفان للمطهري: 60.
  • (19) خطبة الجمعة (50) الأول من المحرم 1423هـ الموافق 15-3-2002م.
  • (20) خطبة الجمعة (343) 1 والقعدة 1429هـ 31 أكتوبر 2008م.
  • (21) خطبة الجمعة (197) 20 ربيع الأول 1426هـ 29 ابريل 2005م.
  • (22) خطبة الجمعة (159) 29ربيع الثاني 1425هـ 18يونيو 2004م.
  • (23) خطبة عيد الأضحى المبارك 10/ذو الحجة 1425هـ.
  • (24) خطبة الجمعة (350) 5 محرم الحرام 1430هـ 2 بناير 2009م.
  • (25) خطبة الجمعة (429) 12 ذو الحجة 1431هـ 19 نوفمبر 2010م.
  • (26) خطبة الجمعة (161) 13 جمادى الأولى 1425هـ 2 يوليو 2004م.
  • (27) خطبة الجمعة (161) 13 جمادى الأولى 1425هـ 2 يوليو 2004م.
  • (28) 56/ الذاريات.
  • (29) خطبة الجمعة (429) 12 ذو الحجة 1431هـ 19 نوفمبر 2010م.
  • (30) خطبة الجمعة (270) 13محرم الحرام 1428هـ 2 فبراير 2007م.
  • (31) خطبة الجمعة (159) 29ربيع الثاني 1425هـ 18يونيو 2004م.
  • (32) خطبة الجمعة (97) 5 ذي الحجة 1423هـ 7- فبراير 2003م.
  • (33) خطبة الجمعة (49) بتاريخ 23 ذو الحجة 1422هـ الموافق 8-3-2002 م.
  • (34) خطبة الجمعة (378) 1 شعبان 1430هـ 24 يوليو 2009م.
  • (35) خطبة الجمعة (159) 29ربيع الثاني 1425هـ 18يونيو 2004م.
  • (36) أما حقيقة الذات والصفات الإلهية المتعالية فلا سبيل لمخلوق على الإطلاق أن ينالها بعقل أو بقلب، فإنها أبعد من أن تُنال بعلم، أو ظن، أو خيال، أو وهم، فكل ذلك له منتهى لا وجود له بعده، ومدى لا امتداد له وراءه، وحدّ لا يتعداه، والله (عزَّ وجلَّ) لا تحدّه حدود، ولا تقف بكماله الآماد، ولا الآباد، وهو فوق كل أفق رفيع وأرفع وأرفع من آفاق الكمال، وأبعد من كل بُعْدٍ بعيد وأبعد وأبعد من أبعاد العزّ والمجد والعظمة والجلال والجمال. كل شيء مخلوق فأنّى له أن ينال الخالق؟! وكل شيء خاضع للحدود فأنّى له من إدراك من لا حدّ له ولا نهاية؟! وكل شيء مقدّر فأنّى له أن يحيط بمقدِّر الأقدار وهو فوق كل تقدير؟! معرفة الإنسان لله عز وجل ملءَ عقله ووجدانه بأنه الخالق الذي لا خالق سواه، الرازق الذي لا رازق غيره، المدبّر الذي لا مدبّر معه، القيّوم الذي لا يعيى ولا تأخذه سنة ولا نوم، القدير الذي لا يعجز، العليم الذي لا يجهل، الحي الذي لا يموت، المريد الذي لا تبطل إرادته ولا ترد، الأول بلا قبل يسبقه، الآخر بلا آخر يلحقه، الحكيم الذي لا شوب في حكمته، الحاكم الذي لا تقاوم حكومته، الواحد الذي لا ثاني له، الأحد الذي لا شبيه يشبهه، الذي يقوم به كل شيء والمباين والبعيد عن كل شيء، والمنزّه عن كل شيء، وهو فوق كل شيء، والأَجَلّ من أن يُمثَّلَ بشيء، ويُنظَّر بشيء؛ هذه المعرفة ممكنة للإنسان وحاصلة -كما تقدّم – لصفوة من الناس. (من نفس الخطبة).
  • (37) خطبة الجمعة (50) الأول من المحرم 1423هـ الموافق 15-3-2002م. وفيها يقول: «إنه -أي معرفة الله سبحانه- هو الموضوع الأهم على الإطلاق. موقع المعرفة لله هو الأول: (بعضكم أكثر صلاة من بعض، وبعضكم أكثر حجاً من بعض، وبعضكم أكثر صدقة من بعض، وبعضكم أكثر صياماً من بعض، وأفضلكم أفضلكم معرفة) ولا تقل لي بأن المعرفة تقابل الصوم والصلاة وغيرها من الواجبات، لأن من عرف صلى وصام، وصلاته هي التامة وصومه هو الكامل «أفضلكم إيمانًا أفضلكم معرفة».
  • (38) إقبال الأعمال للسيد ابن طاووس ج1 ص157.
  • (39) الكافي ج1 ص 86.
  • (40) خطبة الجمعة (50) الأول من المحرم 1423هـ الموافق 15-3-2002م.
  • (41) ستأتي كلماته في خطاب عودته إلى البحرين بعد الاستقبال التاريخي، فلنربط بينهما.
  • (42) خطبة الجمعة (50) الأول من المحرم 1423هـ الموافق 15-3-2002م.
  • (43) البينة: 7.
  • (44) البينة: 8.
  • (45) خطبة الجمعة (489) 10 ربيع الأول 1433هـ ـ 3 فبراير 2012م.
  • (46) خطبة الجمعة (210) 27 رجب 1426هـ 2/9/2005م
  • (47) معرفة لا تُبقي ضعفاً في الذّات، ولا شيئاً من ضِعة، ولا تُعطي منفذاً للهوى ولا أي سلطان(منه حفظه الله).
  • (48) خطبة الجمعة (462) 27 شعبان 1432هـ 29 يوليو 2011م.
  • (49) ميزان الحكمة ج1 ص719.
  • (50) خطبة الجمعة (341) 17 شوال 1429هـ 17 أكتوبر 2008م.
  • (51) عيون الحكم والمواعظ ص24.
  • (52) خطبة الجمعة (312) 7 صفر 1429هـ 15 فبراير 2008م.
  • (53) خطبة الجمعة (312) 7 صفر 1429هـ 15 فبراير 2008م.
  • (54) خطبة عيد الأضحى المبارك 10/ذو الحجة 1425هـ.
  • (55) خطبة الجمعة (503) 19 جمادى الثاني 1433هـ ـ 11 مايو 2012م.
  • (56) خطبة الجمعة (498) 14 جمادى الأول 1433هـ ـ 6 أبريل 2012م.
  • (57) خطبة الجمعة (432) 3 محرم الحرام 1431هـ 10 ديسمبر 2010م.
  • (58) خطبة الجمعة رقم (75)28 جمادى الثاني 1423هـ الموافق 6-9-2002م.
  • (59) خطبة الجمعة (12) بتاريخ29-ربيع الأول-1422هـ الموافق 22-6-2002م.
  • (60) خطبة الجمعة (32) بتاريخ 23 شعبان 1422هـ الموافق 9-11-2001
  • (61) خطبة الجمعة (57)20صفر 1423هـ – 3مايو2002م.
  • (62) هكذا أجاب الشيخ.
  • (63) ميزان الحكمة ج3 ص1799 ط1.
  • (64) المصدر السابق.
  • (65) خطبة الجمعة (432) 3 محرم الحرام 1431هـ 10 ديسمبر 2010م.
  • (66) خطبة الجمعة (386) 2ذي القعدة 1430هـ – 23 أكتوبر 2009م.
  • (67) خطبة الجمعة (410) 20جمادى الثاني1431هـ 4يونيو 2010م.
  • (68) اسم باللغة الدارجة في البحرين يطلق على طعام الضيافة.
  • (69) يعني زوجاته الثلاث بعوائلهن.
  • (70) مريم: 50.
  • (71) البقرة: 282.
  • (72) منية المريد، الشهيد الثاني ص149.
  • (73) سفينة البحار ج 2 ص 356.
  • (74) مجمع البحرين: ج3 ص383.
  • (75) المنجد: 1084.
  • (76) كنز العمّال، المتقي الهندي، ج1 ص229.
  • (77) البحار: ج2،ص51.
  • (78) ن.م: ج2، ص49.
  • (79) ميزان الحكمة، الريشهري ج4 ص299.
  • (80) تفسير البرهان: ج6، ص96.
  • (81) نهج البلاغة، خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصف حال الزاهدين، ج4 ص18.
  • (82) تفسير مجمع البيان: ج8، ص407.
  • (83) ميزان الحكمة: ج7 ص2745 من تنبيه الخواطر: ج1 ص84.
  • (84) يوجد تصوير فيديو في حفل مولد النبي (صلَّى الله عليه وآله) في جامع الإمام الصادق (عليه السلام) عندما كان يُقرأ القرأن وسماحة الشيخ يجهش بالبكاء.
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى