تقارير اقتصادية

إفلاس المصارف الأمريكية (الأسباب والتداعيات)

مقدمة

تتوالى الازمات الاقتصاديّة والماليّة العالمية على مر العقود وتختلف أسبابها ونتائجها ودائرة تأثيرها حتى صارت سمة من سمات الاقتصاديات الرأسمالية. في كل مرة يحدث اضطراب مفاجئ وحاد في قطاع من القطاعات الاقتصادية او المالية يؤدي الى انهيار اقتصادي. كما العام 1929 ازمة الكساد الكبير التي ضربت الولايات المتحدة وكانت شراراتها انهيار أسهم بورصة وول ستريت، ومن ثم عام 2008 ازمة الرهن العقاري، وما بينهما من أزمات مالية واقتصادية عصفت بالعديد من الدول المتقدمة والناشئة. تختلف في كل مرة أسباب هذه الازمات باختلاف دور اللاعبين الاقتصاديين من شركات ومصارف وحكومات ومستثمرين وغيرهم كما باختلاف أفعال الحكومات والبنوك المركزية في التنبؤ للأزمات وفي احتوائها بعد حدوثها. ومع اختلاف صور الازمات المالية، تلعب عدة عوامل أساسية في ازدياد حدة الازمات وتأثيرها على الاقتصاد ككل، ومن هذه العوامل هي عدم التناسب والموائمة بين حجم الأصول التي تمتلكها المؤسسات المالية من جهة، وحجم التزاماتها، أي بمعنى اخر، عدم موائمة مخاطر المؤسسات بالنسبة لأصولها. ترتفع مخاطر المصارف كلما كانت الأصول التي تستحوذ عليها ضمن ميزانيتها على هيئة أصول طويلة المدة في وقت تسمح هذه المؤسسات من سحب الودائع التي لديها بشكل مباشر، أي تتلقى المؤسسات المالية الودائع المالية غب الطلب، وتستثمر في الوقت نفسه ضمن سندات طويلة الاجل او الإقراض الطويل الاجل كالتمويل العقاري.

في العاشر من اذار 2023، أعلن مصرف “SVB” افلاسه بعد انهيار قيمة أسهمه 60% في يوم واحد وتبعه مصرف “signature” وانتشر الذعر في الأسواق المالية مما سبب اهتزاز على صعيد القطاع المالي ككل، امتدت نتائجه على بعض بورصات العالم. وعاد الحديث عن بدء ازمة عالمية جديدة مشابهة لعام 2008، ومع ما يمكن ان تشكله هذه الازمة من اضرار على كل الصعد لاسيّما في ظل أزمة التضخّم الماليّ التي تعصف في معظم الاقتصاديات.

في هذا التقرير نشرح مراحل انهيار المصارف في الولايات المتحدة، واسباب افلاسها، وانعكاساتها على المستوى الأميركي والعالمي.

أولا، من هو Silicon Valley Bank؟

يصنف بنك وادي السيليكون الأميركي في المركز 16 بين المصارف الأميركية. لا يعتبر هذا المصرف بالتأكيد من اللاعبين المصرفيين الكبار في الولايات المتحدة الا ان لهذا المصرف خصوصية أساسية لما يمثله من دعم للشركات الناشئة في وادي السيليكون. يعمل هذا المصرف منذ 40 عاما، وهو بالتالي يعتبر مصدرا موثوقا للشراكة مع المؤسسات والشركات الناشئة. مقره كاليفورنيا، وقد وسّع هذا المصرف اعماله ليشمل الصين والهند وأوروبا في محاولة لرصد الشركات الناشئة والمشاريع الجديدة الباحثة عن تمويل. يدرس هذا المصرف المشاريع الناشئة ويمولها حتى تنطلق في اعمالها الإنتاجية، ويعرّف هذا المصرف نفسه انه “”الشريك المالي للاقتصاديات المُبتكرة”.

 تُصنف هذه المؤسسة المالية المصرفية كمؤسسة تُعنى بتمويل ودعم الشركات الناشئة في الولايات المتحدة الأميركية. يستحوذ هذا المصرف على اعلى نسبة من الودائع إذا ما قورن بالمصارف العاملة ضمن منطقة وادي السيليكون، وتقدر اصوله بأكثر من 200 مليار دولار. يتميز باستثماراته الجريئة التي تتسم بالمخاطرة المالية. بلغ عدد الشركات التي تعامل معها هذا المصرف بأكثر من 30 ألف شركة حول العالم وتقدر نسبة الاستثمارات عالية المخاطر ب أكثر من 56% من مجمل نشاط هذا المصرف حول العالم.

يمارس هذا المصرف اعماله المصرفية التقليدية، حيث الى جانب عمله الاستثماري للشركات الناشئة، يستقطب الودائع من العملاء مقابل الفوائد، ليعود ويستثمر هذه الودائع في استثمارات من المرجح ان تدرّ عليه أرباحا عالية. لذا هو يربح الفرق بين قيمة الأرباح من الاستثمارات التي يقوم بها والفوائد التي يدفعها على الودائع التي لديه.

امام كل هذا التوسع والاندفاع في الاستثمارات الجريئة والاعمال المصرفية التقليدية، كيف تحول هذا المصرف في 48 ساعة فقط الى مفلس؟ وكيف انهارت خبرة 40 عاما من الاعمال الاستثمارية والمصرفية في لحظات؟

مرحلة ما قبل الازمة: فترة الاستثمار والأمان المالي.

رسم بياني 1 معدل الفائدة للبنك الاحتياطي الفيدرالي الاميركي – Statista 2023

بحسب القواعد الاقتصادية، كلما كانت معدلات الفائدة منخفضة كلما تحسن الاستثمار في المشاريع الناشئة وتحسن الاقتصاد، حيث تؤمن المشاريع أرباح أكبر من تلك المحققة في المصارف. وبناءً عليه، في الفترة الممتدة بين سنتي 2019 و2022 كانت معدلات الفائدة في البنك الفيدرالي تقارب 0.25 – 0.50. وبذلك، كانت الأجواء ملائمة للاستثمار في المشاريع الناشئة. في هذا الوقت ومع توفر السيولة الكبيرة، ودعم مؤسسات الاستثمار الجريء للمشاريع الناشئة، اودعت الشركات الناشئة ودائعها في المصرف، فارتفعت ودائع مصرف “SVB” مما يقارب الـ 60 مليار دولار عام 2019 الى ما يقارب الـ 190 مليار عام 2022.  كان لا بد من استثمار هذه السيولة الهائلة التي استطاع استقطابها لتعزيز الأرباح، لذا قرر المصرف، كما منافسيه، الاحتفاظ بجزء صغير من الودائع واستثمار الجزء الأكبر في السندات الحكومية الآمنة التي ستدر عليه أرباحا ثابتة جيدة تمكنه من استغلال الأموال المودعة لديه لتحقيق أرباح آمنة ومضمونة تؤمن عائدًا بنسبة 1.5% في المتوسط، مستفيدًا من معدلات الفائدة المنخفضة آنذاك.

مرحلة الأزمة: تضخم مالي وارتفاع أسعار الفائدة.

منذ بداية جائحة كورونا، عملت الدول على زيادة الانفاق لاحتواء انعكاس الجائحة على الاقتصاد في محاولة لتنشيطه والمحافظة على نموه. إلا أن ضخامة الإنفاق ولاسيما في الولايات المتحدة الأميركية الذي تخطى الـ 5 تريليون دولار، ولّد موجة من التضخم المالي، أضف اليها ارتفاع الأسعار نتيجة الخلل في سلاسل التوريد العالمية، وحرب أوكرانيا وارتفاع أسعار النفط عالميًا. كل ذلك، أدّى إلى معدلات تضخم عالية استدعت تدخل البنك الفيدرالي الأميركي للجم التضخم، كان ذلك عبر استخدام معدلات الفائدة.

رفع البنك الفيدرالي أسعار الفائدة تدريجيا منذ العام 2022 حتى وصلت الى ما يقارب ال 4.50% نهاية عام 2022. فكيف أدى ذلك الى افلاس المصرف؟

أولا، تعتبر العلاقة بين معدل الفائدة والسندات التي يستحوذ عليها المصرف علاقة عكسية، حيث عندما ترتفع أسعار الفائدة تنخفض قيمة السند التي يمتلكها المصرف. وهذه هي الحالة مع مصرف SVB، حيث كما قلنا سابقًا، أن المصرف، ومع توفر السيولة الكبيرة، وجّه أمواله إلى شراء السندات الحكومية عندما كانت الفائدة منخفضة، وبعد ارتفاع معدلات الفائدة، انخفضت قيمة هذه السندات وهو ما يطلق عليه “خسارة غير محققة” (حيث لا يخسر المصرف الا اذا باع هذه السندات). تقدّر قيمة السندات التي يمتلكها المصرف ب 80 مليار دولار. لذا، تعرضت أصول SVB مثل سندات الخزانة الأمريكية وسندات الرهن العقاري المدعومة من الحكومة والتي تعتبر آمنة – لرفع أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي، وانخفضت قيمتها بشكل كبير.

ثانيًا، وكما ذكرنا سابقًا، تؤثر أسعار الفائدة على الاستثمار والاعمال الاقتصادية بشكل عكسي. كلما انخفضت الفائدة، كلما توجهت رؤوس الأموال للاستثمار والعكس صحيح. لذا وفي هذه الحالة، ومع ارتفاع أسعار الفائدة، حجبت العديد من شركات الاستثمار الجريء أموالها عن الشركات الناشئة وخفضت استثمارها. نتج عن ذلك، انخفاض ايداعات الشركات الناشئة في مصرف SVB من جهة، وارتفاع حاجة الشركات التكنولوجية والناشئة الى أموالها المودعة لدى المصرف لتمويل اعمالها ونفقاتها في ظل اضطرابات الأسواق الاقتصادية والركود وانخفاض التمويل. إذا، في الوقت الذي يستثمر فيه المصرف أمواله في استثمارات طويلة المدة كالسندات، ظهرت حاجة المودعين للحصول على أموالهم مع انخفاض دور الشركات الاستثمارية في التمويل. من أجل سد الفجوة وتوفير السيولة المالية، باع المصرف 21 مليار دولار من أوراقه المالية مع تحمل خسارة بـ 1.8 مليار دولار، مما أعطى إشارات سلبية الى الأسواق، فانخفضت أسهمه بنسبة 60% وانتشر الذعر في الأسواق المالية. ساهمت الاخبار الصحفية بزيادة الازمة وتسريع الانهيار، وبدأت معها حالة “Bank Run”، حيث بدأ المودعين بسحب أموالهم التي بلغت 42 مليار دولار مع عدم توفر السيولة اللازمة. وتجدر الإشارة إلى ان الرئيس التنفيذي للبنك، جريج بيكر، كان قد باع 3.6 مليون دولار من أسهم الشركة قبل أقل من أسبوعين من كشف SVB عن الخسائر الهائلة التي أدت إلى انهياره، وفقًا لملفات تنظيمية. أضف إلى أن العديد من المدراء التنفيذيين للبنوك كانوا أيضًا قد باعوا أسهمهم قبل حصول الأزمة، مما يسلط الضوء على فساد في المؤسسات.

افلاس المصارف: إجراءات احتواء واضرار كبرى

بعد نفاذ قدرة المصرف على تحمل الخسارة، لم يكن أمامه إلا أن عرض نفسه للبيع أمام المستثمرين كحل أخير مما راكم الازمة عليه. تدخلت بعد ذلك المؤسسة الاتحادية لتأمين المودعين (FDIC) التابعة للحكومة الأميركية وقامت بإغلاق البنك كليًا. وتقوم هذه المؤسسة على ضمان الودائع بنسبة تصل الى 250 ألف دولار، الا ان فقط 3% من الودائع كانت مؤمنة.

لذا وبحلول العاشر من آذار، صُنّف مصرف “SVB” كأكبر مصرف يُفلس منذ العام 2008. تبعه مصرف “signature” الذي اغلقته أيضا FDIC كمحاولة لاحتواء الازمة ومنع تدحرجها. يمتلك بنك “signature” ما لا يقل عن 100 مليار دولار من الأصول موزعة على 40 فرعًا. يقدم خدماته لشركات المحاماة والعقارات، بالإضافة الى تلقي ودائع بالعملات المشفرة. كذلك، كبنك SVB”” لم تكن الودائع التي يمتلكها جميعها مؤمن للتغطية، حيث بلغت الودائع غير المؤمنة حوالي 88 مليار دولار. بعد أزمة “SVB” وحالة الذعر التي حصلت في الأسواق المالية، شهد بنك “signature” طلبًا على سحب الودائع، والذي كان أكبر من قدرته على تأمينها مما سبب مشكلة سيولة وانهيار في الأسهم بشكل سريع ومن ثم افلاس أدّى لإغلاقه من قبل FDIC. وبذلك، شهد الاقتصاد الأميركي ضربة كبرى لقطاعه المصرفي تمثل في اغلاق اثنين من المصارف خلال 48 ساعة.

في خلاصة شاملة للأحداث، تضاربت مصالح الاحتياطي الفدرالي الأميركي مع تطلعات المصارف في الاستثمار، حيث لم يأخذ الاحتياطي الفيدرالي نتائج رفع أسعار الفائدة بشكل سريع – لكبح ارتفاع التضخم المالي – على القطاع المصرفي مما أدى الى زعزعة هذا القطاع وخلق مشكلة في استثماراته طويلة المدى.

ثانيا، لم يدرس المصرف خطواته الاستثمارية بشكل جيد حيث لم يتنبأ بحدوث تضخم مالي بعد الانفاق الضخم الذي حصل خلال وبعد جائحة كورونا، مما أفشل خططه الاستثمارية طويلة المدى وارتطم بجدار ارتفاع الفائدة، إذ بدت تلك الاستثمارات التي كانت آمنة في يوم من الأيام أقل جاذبية بكثير حيث بدأت السندات الحكومية الجديدة في تقديم فوائد اعلى.

ثالثا، تركّز أغلب استثمار المصرف في قطاع التكنولوجيا والشركات الناشئة التي تحتاج دائما إلى تمويل وإلى سيولة، ومع تحول الظروف الاقتصادية التي أدت إلى ضعف تمويل هذا القطاع، ولاسيما للشركات الناشئة، انخفضت سيولة المصرف مما زعزع قدرته على الإيفاء بالتزاماته تجاه المودعين. أضف إلى ذلك أن جزء كبير من الأموال التي كانت غير مغطاة بالتأمين، هي من الأموال التي تهرب عند حدوث اضطرابات اقتصادية مما جعل المصرف في حالة شح من السيولة.

الأسباب السياسية: صراع الرؤساء يهزّ الأسواق المالية

بعد ازمة 2008 التي ضربت الولايات المتحدة الاميركية وانهيار القطاع المصرفي، أصدر الرئيس أوباما قانون “دود – فرانك” الذي يهدف إلى حماية المستهلك من التصرفات الخطرة والاستغلال والخسارة المالية، ومنع الحكومة من أن تتدخل وتكفل الشركات والبنوك على حساب المستهلك، كما من أجل حماية القطاع المالي وزيادة شفافيته ومسؤوليته. تعد “قاعدة فولكر” من أهم العناصر الرئيسية في قانون “دود-فرانك”، وهي تحدّ طرق الاستثمار لدى البنوك، وتحدّ التداول المضارب، وتلغي تداول الملكية من قبل البنوك. من شأن هذا القانون ان يمنع الازمات في القطاع المالي والمصرفي ويحد من الاستثمارات التي تشكل خطرًا على النظام الاقتصادي ككلّ.

مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، أعاد النظر في القوانين التي أصدرها الرئيس السابق، ولاسيما القوانين المتعلقة بالأنظمة المالية والمصرفية حيث يراها الجمهوريون أنها تحد من النشاط الاقتصادي ومن مساعدة صغار المستثمرين. وفي العام 2018، أصدر ترامب قراره الجديد والذي يُعفي البنوك الصغيرة من اللوائح الصارمة، وخفف القواعد التي يتعيّن على البنوك الكبرى اتباعها، ورفع القانون حد الأصول “للمؤسسات المالية المهمة” من 50 مليار دولار إلى 250 مليار دولار. أدت هذه التغييرات إلى خفض عدد البنوك، الخاضعة لأشد رقابة تنظيمية صرامة إلى حوالي عشرة بنوك، مما أدى إلى تحرير البنوك الصغيرة والمتوسطة الحجم من اختبارات الإجهاد المصممة لتقييم قدرة المؤسسة على تحمل تباطؤ اقتصادي خطير.

مع انهيار المصارف من جديد، برز الخلاف بين الديمقراطيين والجمهوريين حول مسؤولية القرارات التي اتخذها دونالد ترامب في تحرير المصارف من القيود وتقليص الضوابط عليها. ففي مقال رأي في صحيفة الغارديان، وصف الاقتصادي جوزيف ستيجليتز، الحائز على جائزة نوبل، انهيار إس في بي بأنه “رمز للفشل العميق في إدارة السياسة التنظيمية والنقدية” وأن النظام المالي يحتاج تنظيم أكثر صرامة من أجل ضمان أمان جميع المصارف، دون توجيه الاتهام مباشرة لقرارات ترامب عام 2018.

تداعيات الازمة على الأسواق المالية: تدحرج الازمة

اهتزت الأسواق المالية في الولايات المتحدة أولا، حيث تراجعت أسهم البنوك الإقليمية والشركات المالية وكان أبرزها انخفاض 60% في أسعار أسهم “first republic”.  أما المصارف الكبرى في أميركا فلم تتأثر بالنسبة نفسها التي تأثرت بها البنوك الصغرى، حيث انخفضت أسهم الـ city group وbank of America وJB Morgan  7% – 3% – 1% على التوالي. أما مؤشر KBW الذي يرصد أداء البنوك الـ 24 الرئيسية انخفض 10%.

استطاعت السلطات المالية الأميركية احتواء الأزمة حتى الآن مع التعهد بإعطاء المودعين كامل حقوقهم، ممّا خفف حالة الذعر في الأسواق المالية وهدّأ من وطأة الأزمة. إلا أن افلاس كل من SVB  وsignature bank، سلّط الضوء على التحديات المحيطة بالقطاع المصرفي والمالي ولاسيما اللاعبين متوسطي وصغيري الحجم، والذين غالبًا ما يركّزون على قطاعات محددة للاستثمار فيها، مما يجعلهم أكثر عرضة للأزمات، فالخوف من تدحرج الأسواق مع إفلاس البنوك الصغيرة، حتى لو كانت المصارف الكبيرة محصنة من الازمات. فإذا ما قارنّا أصول SBV (200 مليار دولار) و JPMorgan Chase (3 تريليون دولار)، يتبيّن صغر حجم المصرف الأول مقارنة بالآخر، إلا أنّ تهافت المودعين في لحظة معيّنة مفاجئة من الممكن أن يضع كامل القطاع المصرفي على المحك إذا ما شعر المستثمرين والمودعين بالذعر والخوف من حركة الأسواق.

إضافة على ما تقدم، بعد أزمة 2008، ومع تداخل الاقتصاديات والأسواق المالية ببعضها أكثر وبشكل أكثر تعقيدًا من قبل، يبقى الخوف من توسع الأزمة الى خارج الاقتصاد الأميركي، كما وتدحرجها والمصارف كأحجار الدومينو مع عدم قدرة الدول على التصرف السريع لاحتواء الازمات.

بعد إفلاس SVB تم شراء البنك التابع له في بريطانيا من قبل بنك HSBC لمنع أي ازمة ممكنة. كذلك، ستسعى الحكومة لوضع خطة إنقاذ المئات من الشركات الناشئة التي كانت تتعامل مع مصرف SVB والتي تقدر بـ 200 شركة وتضم الآلاف من الموظفين، كذلك النظر في وضع 30 – 40% من الشركات الناشئة التي ستتأثر من الانهيار.

وعلى صعيد أوروبا، بحسب وكالات التصنيف والخبراء، لم يتم اعتبار الازمة في الولايات المتحدة ذات تأثير على القطاع المصرفي الأوروبي، حيث أن بنيته التنظيمية تختلف عن تلك المتبعة في اميركا.

السياسة النقدية الأميركية: تفاقم ازمة المصارف الصغيرة

بناءً على ما تقدم من شرح للأزمة وانعكاساتها وأسباب الإفلاس، فقد لعبت السياسة النقدية التي انتهجها البنك الفيدرالي الأميركي دورًا محوريًا في التأثير على النظام المصرفي ككل. أدت الزيادات في أسعار الفائدة إلى التأثير على استثمارات المصارف ولاسيما الصغيرة مما جعلها عرضة للمخاطر. يعتمد الفيدرالي الأميركي هذه السياسة النقدية في سبيل السيطرة على معدلات التضخم المالي العالية وهو يستهدف الوصول الى 2% من التضخم.

 تضاربت الآراء الاقتصادية حول قرارات السياسة النقدية المقبلة، فمنهم من يرى بأن الاحتياطي الفيدرالي سيبقى على نهجه في رفع أسعار الفائدة حتى تصل ال 5.25%، إلا أنه من الممكن ان يخفض نسبة ارتفاع الفائدة الى 0.25% فقط في الأشهر القادمة من أجل التخفيف من وطأتها على القطاع المالي. ومنهم من يرى إمكانية تخفيض معدل الفائدة حتى لا يفاقم الازمة المصرفية. في حال عدم اتباع السياسة النقدية نفسها برفع معدلات الفائدة، على الاحتياطي الفيدرالي إذًا اعتماد سياسات اقتصادية وإجراءات أخرى للسيطرة على التضخم المالي. لذا، فإنّ الاحتياطي الفيدرالي أمام خيارين، إما رفع الفائدة وتحمل ما يمكن أن ينتج عنها من آثار على القطاع المالي، أو وقف رفع نسبة الفائدة وتحمل تبعات ارتفاع التضخم المالي.

مع استمرار ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية ومع استمرار اتباع السياسة النقدية ذاتها، ستكون المصارف الصغيرة الحجم والمتوسطة في دائرة الخطر إذا ما لم تقم السلطات الأميركية بوضع خطة انقاذ لهذه المصارف قبل الوصول الى الإفلاس. كذلك، ومع استمرار التراجع في اعمال الشركات التكنولوجيّة والعملات المشفرة _ نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة – من الممكن ان تواجه المصارف التي ترتبط اعمالها مع اعمال هذه القطاعات من أزمات مستقبلية. وبحسب كبير الاقتصاديين في وكالة موديز، فإن النظام المالي يتمتع بالسيولة الجيدة الا ان البنوك الصغيرة التي تعاني من الازمات من الممكن ان تشكل تهديدا للنظام المالي ككل.

لذا لا يمكن الجزم بإمكانية توسع الازمة المالية في الولايات المتحدة أو تدحرجها طالما أن السياسة النقدية والتضخم لم يزالا في حالة تفاعل حتى الوصول الى الاستقرار.

الخاتمة

 كانت 48 ساعة كفيلة في إفلاس مصرفين اثنين، وفي نشر حالة من الذعر والقلق في الأسواق، وفي خلق أجواء مشابهة لأزمة كادت أن تتوسع لتصبح عالمية، ومع ما يمكن أن تحمله من مخاطر على الاقتصاد العالمي ككل في ظل تضخم مالي، وركود اقتصادي.

بالمحصّلة، استطاعت السلطات احتواء الأزمة مبدئيًا بشكل سريع والحؤول دون سقوط أحجار الدومينو، إلا أن هذه الازمة، سواء كانت نتيجة السياسة النقدية أم لا، ستجعل المصارف، من جهة، يتخذون إجراءات أكثر قبل إصدار القروض والاستثمار بمزيد من الحذر، ومن جهة أخرى، ستجعل السلطات الأميركية تتخذ إجراءات تنظيمية واستثنائية وتتصرف بحذر أكثر في صياغة السياسات النقدية. وبالتالي، كشفت الازمة مواطن الضعف في القطاع المالي ككل، وفي تأثير السياسات النقدية على هذا القطاع ولاسيما المصارف الصغيرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى